لماذا لا يستطيع القادة اتخاذ قرارات عقلانية؟

بصفتك قائداً، قد تواجه يومياً العشرات من القرارات ذات المخاطر العالية؛ لذا فإنَّ القدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة في الوقت المناسب يمكن أن تضعك على الطريق الصحيح في مسارك الوظيفي، وتصل بك إلى أعلى درجات السلم الوظيفي.



واتخاذ القرارات جزء هام من القيادة الرشيدة؛ ولكن ما تعلَّمناه أنَّ القيادة الجيدة هي "اتخاذ قرارات عقلانية" (Rational Decision-Making) ومدروسة. قد يكون القادة غارقون في ثقافة "العقلانية" لدرجة كبرى، ولكن هل ذلك ممكن تحقيقه في عالم الأعمال اليوم؟

نسعى في هذا المقال إلى مناقشة هادئة لمفهوم القرارات العقلانية، لماذا هي صعبة المنال؟ وما هي الأسباب التي تمنعنا من اتخاذ قرارات عقلانية؟ وما هي البدائل المتوفرة؟

بداية؛ إنَّ العقلانية هي شيء مُختلَقٌ اختُرِع في ألمانيا في القرن التاسع عشر؛ وذلك بخلاف "العقل" أو "المنطق" اللذين كانا موجودين لفترة طويلة جداً ويصعب تحديدهما. وتعني العقلانية أن تتماشى أفعالنا مع النتائج التي نسعى إلى تحقيقها.

واتخاذ قرارات عقلانية يعني بسهولة اتخاذ قرارات من شأنَّها أن تؤدي إلى النتائج التي نسعى إليها، بناءً على افتراضات تتوافق توافقاً معقولاً مع ما نعرفه عن العالم في الوقت الحالي.

لماذا نحتاج إلى إعادة التفكير في اتخاذ القرار بعقلانية؟

يجب الاعتراف بالعقلانية على أنَّها، أولاً، محدودة؛ وذلك لأنَّه لا يوجد أحد إطلاقاً لديه المعلومات الكاملة للتصرف تصرفات عقلانية وغير منحازة؛ إذ وجدنا تدريجياً أنَّ عقول البشر عقلانية في الغالب، ولكن مع بعض التفضيلات المضمنة، مثل جعل ألم الخسارة أكثر أهمية من متعة الكسب، ومن ثمَّ كره الخسارة. وتفضيل المعتقدات الراسخة على المعلومات الجديدة الغريبة عنا، والرجوع إلى الحجج التي تدعم وجهة نظرنا.

القرار العقلاني هو القرار الذي تُصاغ فيه الأهداف صراحةً وتكون منطقية أيضاً؛ إذ تُحدَّد معايير الحكم على أنَّها نتيجة جيدة أو سيئة، وتُوضَّح البدائل، ويؤدي بنا التحليل الشامل لإمكانات هذه البدائل إلى اتخاذ قرار نهائي عقلاني.

الحقيقة التي لا نرغب في سماعها أنَّنا نادراً ما نتخذ قراراتنا بهذه الطريقة العقلانية؛ فلا أحد يتخذ القرارات بهذه الطريقة في الحياة الواقعية الشخصية أو حتى في عالم الأعمال. عادة تُتَّخذ القرارات وفقاً للسياق، والسياق في أغلب الأحيان غير واضح ومليء بالغموض والمنعطفات المتجددة. فالقادة كائنات اجتماعية تقودها العواطف. وفي أفضل الأحوال، يمكننا القول إنَّ قرارات الحياة الواقعية معظمها ليست غير عقلانية تماماً.

ومع ذلك، فإنَّ مؤسساتنا تسير وفق نهجٍ معقول وعقلاني بدرجة ما؛ فإنَّنا نبني القطارات والطائرات والسيارات ونديرها في الغالب في الوقت المحدد، وهذا يسمح للناس بالحصول على وظائف ناجحة وإضافة قيمة إلى المجتمع. ويمكن أن تبدو المؤسسة كاملةً متقلبة بعض الشيء في بعض الأحيان، لكنَّها تعمل عموماً وفقاً لقرارات عقلانية إلى حدٍ ما؛ فالعقلانية في اتخاذ القرارات تظهر وتختفي وتبرز وتندثر وفقاً للمتغيرات والظروف.

ما هو القرار العقلاني؟

يُعَدُّ اتخاذ القرار العقلاني منطقياً ومتسقاً مع نية متخذ القرار نحو تعظيم القيمة أو الجودة أو احتمالية تحقيق النتيجة المرجوة. يمكن توضيح اتخاذ القرار العقلاني في خطوات إجرائية عدة، منها:

  1. تحديد المشكلة: قد تظهر المشكلات أو المشكلات المحتملة نفسها، أو تصبح واضحة من خلال المراقبة المناسبة. من أجل تنفيذ هذه العملية، يجب على المديرين تحديد الأهداف في بداية عملية صنع القرار.
  2. وضع معايير القرار: يجب على المديرين تحديد معايير الحلول المحتملة؛ إذ يساعد ذلك على تجنُّب التحيز في اختيار بديل.
  3. تخصيص أوزان للمعايير: ستكون بعض المعايير هامة لبعض أصحاب المصلحة من غيرهم. تتضمن عملية صنع القرار الضرورية النظر إلى مصلحة أصحاب المصلحة. وفي بعض الحالات، فإنَّها تنطوي على البحث عن مدخلات أصحاب المصلحة.
  4. تطوير البدائل: من الهام تطوير أكبر مجموعة ممكنة من الحلول الممكنة.
  5. تحليل البدائل: ستحتاج إلى تحديد المعايير الهامة جداً، ومعرفة كم من الضروري التضحية بواحد من أجل الآخر.
  6. تحديد البديل الأنسب: بعد التقييم الدقيق للبدائل، يجب على المدير تحديد خيار للتعامل مع المشكلة أو الموقف.
  7. تنفيذ القرار: اختيار نهجٍ ما هو إلا جزء من مسؤولية المدير. ثم تأتي عملية الإشراف على غرس الحل.
  8. تقييم تأثير القرار: يجب على المدير تقييم تقدُّم وفاعلية النهج.

 نموذج اتخاذ القرار العقلاني

كما رأينا؛ يتضمن نموذج اتخاذ القرار العقلاني استعمال تسلسل واضح من الخطوات لمعالجة المشكلة المطروحة. يُنظر إلى هذا النموذج على أنَّه نقيض للنموذج الحدسي في اتخاذ القرارات (intuitive decision making model).

العودة إلى تاريخ مفهوم "اتخاذ القرارات":

في وقت ما في منتصف القرن الماضي، استورد "تشيستر بارنارد" (Chester Barnard)، وهو مدير تنفيذي متقاعد للهاتف، ومؤلِّف كتاب "وظائف السلطة التنفيذية" (The Functions of the Executive)، مصطلح "صنع القرار" من قاموس الإدارة العامة إلى عالم الأعمال. وهناك بدأ عالم الأعمال باستبدال المصطلحات الضيقة مثل "تخصيص الموارد" و"صنع السياسات".

لقد غيَّرت مقدمة هذه العبارة طريقة تفكير المديرين والقادة على حدٍ سواء، وأثارت تساؤلات جديدة في عالم الأعمال، وأجَّجت الرغبة في الاستنتاج وفهم القرار الإداري، كما يقول "ويليام ستاربوك" (William Starbuck)، الأستاذ المقيم في "كلية تشارلز إتش لوندكويست" للأعمال في "جامعة أوريغون" (University of Oregon’s Charles): "يمكن أن تستمر عملية صنع السياسات إلى ما لا نهاية، وهناك دائماً موارد يجب تخصيصها". "القرار يعني نهاية المداولات وبداية العمل".

لذلك وضع "بارنارد" - ومنظرون لاحقون مثل "جيمس مارش"، و"هربرت سيمون"، و"هنري مينتزبرج" (James March, Herbert Simon, and Henry Mintzberg) - الأساس لدراسة صنع القرار الإداري. لكنَّ صنع القرار داخل المنظمات ليس سوى واحد في التيارات المتدفقة من الأفكار في مواجهة عدم اليقين والغموض والتشويش.

يذكِّرنا "ألبير كامو" قائلاً: "الحياة هي مجموع كل اختياراتك". فالتاريخ، من خلال الاستقراء، يساوي الخيارات المتراكمة للبشرية جمعاء. ومن ثمَّ فإنَّ دراسة صنع القرار هي دراسة مجهرية للتخصصات الفكرية مثل: الرياضيات وعلم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد والعلوم السياسية، على سبيل المثال لا الحصر.

الفلاسفة يتأملون ماذا تقول قراراتنا عن أنفسنا وعن قيمنا. ويشرح المؤرخون الخيارات التي يتخذها القادة في المنعطفات الحرجة. ينبع البحث في المخاطر والسلوك التنظيمي من رغبة الباحثين في مساعدة المديرين والقادة على تحقيق نتائج أفضل.

ومع أنَّ القرار الصائب لا يضمن نتيجة جيدة، فإنَّ هذه البراغماتية قد آتت أُكلها. والتطور المتزايد في إدارة المخاطر، والفهم الدقيق للسلوك البشري، والتقدم في التكنولوجيا التي تدعم العمليات المعرفية وتحاكيها، قد حسَّن عملية صنع القرار في العديد من المواقف.

في الواقع، على مر السنين كنا نتعامل بثبات مع القيود - السياقية والنفسية - على قدرتنا على اتخاذ الخيارات المثلى. ويجادل "سايمون" بأنَّ الظروف المعقدة، والوقت المحدود، والقوة الحسابية العقلية غير الكافية تؤدي بصانعي القرار إلى حالة من "العقلانية المحدودة".

شاهد بالفديو: 8 خطوات لتكون حازماً في اتخاذ القرارات

متى ينجح النموذج العقلاني في اتخاذ القرارات؟

يعمل النموذج العقلاني جيداً عندما تحتاج إلى "إدارة المخاطر" (Risk Management) أو عدم اليقين؛ إذ يسمح لك بمقارنة الحلول بموضوعية مع النتائج المرجوة، واتخاذ الخيار الأكثر أماناً، وخاصة أنَّها تتم في المكاتب وفي أثناء فترات الرخاء ودون وجود ضغوطات أو أزمات.

متى لا ينجح النموذج العقلاني في اتخاذ القرارات؟

هذا النموذج أقل ملاءمة إذا كانت مشكلتك تعتمد على الوقت وتحتاج إلى اتخاذ قرار سريع. يعتمد اتخاذ القرار العقلاني أيضاً على حصولك على صورة كاملة للمقاييس المعنية، ومن ثمَّ فهو غير مناسب إذا كنت تفتقد المعلومات الأساسية؛ لذا تعرَّض النموذج لمجموعة انتقادات؛ إذ ينتقد بعض العلماء والممارسين عملية اتخاذ القرار. فهو يقدِّم افتراضات عدة عن الوضع والسياق والأفراد.

انتقادات فيما يخص القرار العقلاني:

يُفترض أنَّ صانع القرار قادر على فهم الموقف والآثار المترتبة على القرار فهماً كاملاً، ولديه معلومات كافية لاتخاذ القرار العقلاني. كما يُفترض أنَّ القادة قادرون على تحديد الخيارات المتاحة تحديداً جليَّاً، ومن ثم اختيار الحل الأمثل. ومن الانتقادات البارزة أنَّ هذا النموذج لا يُظهر تأثير التحيزات على عملية صنع القرار. ويفترض أنَّ القادة يبحثون عن القرار الأمثل، بدلاً من البحث عن قرارٍ مُرضٍ.

يضيف آخرون أنَّ اتباع مثل هذه العملية التفصيلية أمر مرهق جداً، فهو يتطلب كثيراً من الوقت في جمع المعلومات وتقييم الموقف. وبسهولة، يمكن أن يؤدي إلى الفشل في التوصل إلى قرار في الوقت المناسب؛ فما هو البديل المقترح؟

العقلانية المقيدة والمحدودة:

يركز جوهر نهج العقلانية المقيدة في اتخاذ القرار على القرارات الجيدة بما يكفي لمعالجة الموقف؛ أي إنَّ القرار مناسب لمعالجة الموقف، لكنَّه لا يزيد القيمة المحتملة في الموقف إلى أقصى حد، وفي الوقت نفسه هو قرار مُرضٍ. يتناسب التقييد بعقلانية القرار عندما يفشل المديرون في البحث عن خيارات محتملة أو يحدُّون عن عمد من عدد الخيارات المتاحة؛ وذلك بسبب ضيق الوقت أو قلة المعلومات أو غيرها من الأسباب.

يركز صانع القرار على الخيارات التي تلبِّي الحد الأدنى من معايير القرار. وفي أغلب الأحيان تكون العقلانية المقيدة نتيجةَ صانعي القرار المقيدين بالقدرة على معالجة المعلومات؛ إذ يتأثر الأفراد جداً ببيئة العمل والسياسة الداخلية وعوامل القوة والنفوذ والميل نحو التصعيد غير العقلاني للالتزام. فالقائد بصفته نتاج بيئته والتجارب الفردية التي عاشها، فإنَّه يتأثر تأثراً طبيعياً في قدرته على تحليل الحلول المحتملة واتخاذ القرار وفقاً لذلك.

ما هي معوقات صنع القرار العقلاني؟

هناك عدد من الحواجز التي تحول دون اتخاذ القرار العقلاني. يدرك القادة الفعَّالون هذه الحواجز المحتملة ويحاولون التغلب عليها قدر الإمكان؛ وهي:

1. العقلانية المقيدة:

مع أنَّنا نظن أنَّه يمكننا اتخاذ قرارات عقلانية تماماً، إلا أنَّ هذا في أغلب الأحيان يكون غير واقعي؛ وذلك نظراً للمشكلات المعقدة التي يواجهها القادة. صنع القرار غير العقلاني شائع، خاصة مع القرارات غير المبرمجة؛ وذلك نتيجة للأحداث الطارئة والمستعجلة.

نظراً لأنَّنا لم نواجه موقفاً معيناً مسبقاً وليست لدينا خبرة في كيفية التعامل معه، فنحن لا نعرف دائماً الأسئلة التي يجب طرحها، أو المعلومات التي يجب جمعها في ذلك الموقف. حتى عندما نجمع كل المعلومات الممكنة، قد لا نكون قادرين على فهمها فهماً منطقياً أو إيجاد الربط المنطقي للأحداث، أو التنبؤ بنتائج اختيارنا.

العقلانية المقيدة تطرح فكرة جوهرية؛ بالنسبة إلى القضايا المعقدة، لا يمكننا أن نكون عقلانيين تماماً؛ وذلك لأنَّنا لا نستطيع استيعاب جميع البدائل الممكنة استيعاباً كاملاً، ولا يمكننا فهم جميع الآثار المترتبة على كل بديل ممكن؛ فلعقولنا حدود من حيث كمية المعلومات التي يمكنها معالجتها.

وبالمثل، حتى عندما يكون لدى القادة القدرة المعرفية لمعالجة جميع المعلومات ذات الصلة، يجب عليهم في أغلب الأحيان اتخاذ القرارات دون أن يتوفر لهم الوقت الكافي لجمع البيانات ذات الصلة كافة.

2. تصعيد الالتزام وتأزُّمه:

نظراً لنقص المعلومات الكافية، لا يتخذ القادة دائماً قراراً صحيحاً في البداية، وقد لا يكون من الواضح أنَّ القرار كان سيئاً إلا بعد مرور بعض الوقت. على سبيل المثال، إذا افترضنا أنَّ قائداً ما كان عليه الاختيار بين حزمتين من البرامج المتنافسة التي ستستعملها مؤسسته يومياً لتعزيز الكفاءة والجودة في العمل، وكان عليه الاختيار من بين شركتين؛ الأولى: صاحبة خبرة كبرى في السوق ولديها سمعة فنية قوية، والثانية: أقل خبرة وإمكانات، ولكنَّها طموحة ولديها فريق عمل جيد.

اختار القائد في البداية المنتج الذي طوَّرته الشركة الأولى؛ فهي الأكبر والأكثر رسوخاً وخبرة في السوق من الثانية؛ وذلك بحجة أنَّه سيكون لديها موارد مالية كافية للاستثمار، وضمانات أعلى بأن تكون التكنولوجيا المقدَّمة جيدة ومتطورة، وهي تسعى إلى المحافظة على سمعتها في السوق.

ومع ذلك، بعد مرور بعض الوقت، اتضحت للقائد مجموعة بدائل:

  1. حزمة البرامج للشركة الثانية ستكون أفضل بكثير، ويمكن دمج الحزمة في الأنظمة الحالية للمؤسسة بتكلفة قليلة.
  2. سيتطلب منتج الشركة الأولى استثماراً أولياً أكبر بكثير من الثانية، بالإضافة إلى تكاليف مستمرة لصيانة الحزمة صيانة دورية.

ومع ذلك، فلنفترض في هذه المرحلة أنَّ المدير قد دفع بالفعل مقابل حزمة برامج الشركة الأولى.

وهنا تبدأ مجموعة اختيارات تُصعِّد من الالتزام لدى القائد:

  • هل سيتخلى عن المسار الأول الذي اختاره؟
  • وهل سيقبل خسارة الأموال التي استثمرها حتى الآن؟
  • وهل لديه استعداد وشجاعة للتحول إلى حزمة البرامج الخاصة بالشركة الثانية الأفضل، أم أنَّه سيستمر في استثمار الوقت والمال في محاولة جعل حزمة الشركة الأولى تعمل؟

تصعيد الالتزام هو ميل صانعي القرار للبقاء ملتزمين بالقرار السيئ، حتى عندما يؤدي ذلك إلى نتائج سلبية جداً. بعد أن نلتزم بقرار، قد نجد صعوبة في إعادة تقييمه بعقلانية. قد يبدو "الاستمرار في المسار" أسهل من الاعتراف أو الإقرار بأنَّ القرار كان سيئاً.

من الهام أن ندرك أنَّه لن تكون جميع القرارات جيدة، مع بذلنا قصارى جهدنا. يدرك القادة المؤثرون أنَّ التقدُّم في المسار الخطأ ليس تقدُّماً حقيقياً، وهم على استعداد لإعادة تقييم القرارات وتغيير الاتجاه عندما يكون ذلك مناسباً.

3. تحدي ضيق الوقت:

في أغلب الأحيان يواجه القادة قيوداً زمنية يمكن أن تجعل اتخاذ القرار الفعَّال تحدياً. عندما يكون هناك القليل من الوقت المتاح لجمع المعلومات ومعالجتها معالجة عقلانية، فمن غير المرجح أن نتخذ قراراً جيداً ودقيقاً.

يمكن أن تدفعنا ضغوطات الوقت إلى الاعتماد على الاستدلال، بدلاً من الانخراط في معالجة عميقة للمعلومات التي لدينا. مع أنَّ الاستدلال يوفِّر الوقت، إلا أنَّه لا يؤدي بالضرورة إلى أفضل قرار ممكن؛ إذ يقيِّم أفضل القادة باستمرار المخاطر المرتبطة بالتصرف بسرعة كبرى ضد أولئك المرتبطين بعدم التصرف بالسرعة الكافية.

إقرأ أيضاً: كيف تنظم وقتك جيداً قبل أن ينفد منك؟

4. ظروف من عدم اليقين والغموض:

يتخذ القادة قرارات في كثير من الأحيان في ظل ظروف عدم اليقين؛ إذ لا يمكنهم معرفة نتيجة كل بديل حتى يختاروا ذلك البديل بالفعل. على سبيل المثال، قائد يحاول الاختيار بين واحدة من حملتين تسويقيتين محتملتين.

الأولى أكثر تحفظاً وتقليدية، ولكنَّها تتناسب مع ما فعلته المنظمة في الماضي وكان ناجحاً إلى حدٍ معقول. والثانية أكثر حداثة ومتوافقة مع الأساليب الجديدة للتسويق، وقد تحقق نتائج أفضل بكثير أو قد تفشل فشلاً ذريعاً.

سيتعيَّن على القائد الذي يتخذ القرار في النهاية اختيار حملة واحدة ومعرفة ما سيحدث، دون أن يعرف أبداً ما هي النتائج التي كانت ستحدث مع الحملة البديلة. قد يؤدي عدم اليقين هذا إلى صعوبة اتخاذ القرارات لدى بعض المديرين؛ وذلك لأنَّ الالتزام بخيار واحد يعني التخلِّي عن الخيارات الأخرى.

5. التحيزات الشخصية:

كما أنَّ عملية صنع القرار لدينا محدودة بسبب تحيزاتنا الخاصة؛ إذ إنَّنا نميل إلى أن نكون مرتاحين جداً للأفكار والمفاهيم والأشياء والأشخاص المألوفين أو المشابهين لنا. ونميل في المقابل إلى أن نكون غير مرتاحين لما هو غير مألوف وجديد ومختلف. ومن التحيزات الشائعة جداً التي لدينا، بصفتنا بشراً، هو الميل إلى حب الأشخاص الآخرين الذين نعتقد أنَّهم يتشابهون معنا؛ وذلك لأنَّنا نحب أنفسنا.

في حين أنَّ أوجه التشابه هذه يمكن ملاحظتها بناءً على الخصائص الديموغرافية مثل العِرق والجنس والعمر، إلا أنَّها يمكن أن تكون أيضاً نتيجةً للخبرات المشتركة، مثل الالتحاق بالجامعة نفسها، أو الاهتمامات المشتركة، مثل الانتماء إلى نادٍ رياضي معاً أو تشجيع فريق كرة القدم نفسه.

يمكن أن يؤدي هذا التحيز - المماثل لتحيُّزي - وتفضيل الأشخاص المألوفين إلى مجموعة متنوعة من المشكلات للقادة، منها الموافقة على تعيين موظفين متقدمين للعمل أقل تأهيلاً ولكن مشابهون للقائد بطريقة ما، وإيلاء مزيدٍ من الاهتمام لآراء بعض الموظفين وتجاهُل آخرين، واختيار تقنية مألوفة على تقنية جديدة متفوقة، والتمسك بمُورد معروف عن مُورد يتمتع بجودة أفضل.

قد يكون من الصعب جداً التغلب على تحيُّزاتنا بسبب الطريقة التي تعمل بها أدمغتنا؛ إذ يتفوق الدماغ في تنظيم المعلومات في فئات، ولا يرغب في بذل الجهد لإعادة الترتيب بمجرد إنشاء الفئات؛ ونتيجة لذلك، نحن نميل إلى إيلاء اهتمام كبير بالمعلومات التي تؤكِّد معتقداتنا الحالية، واهتمام قليل بالمعلومات التي تتعارض مع معتقداتنا، وهو عيب يُشار إليه بـ "التحيز التأكيدي" (Confirmation bias).

في الواقع، نحن لا نحب أن تُتحدَّى معتقداتنا الحالية؛ إذ تبدو مثل هذه التحديات تهديداً يميل إلى دفع أدمغتنا نحو النظام التفاعلي، ويمنعنا من القدرة على معالجة المعلومات الجديدة منطقياً.

من الصعب تغيير رأي الناس بشأن شيء ما إذا كانوا واثقين بالفعل بقناعاتهم؛ لذلك، على سبيل المثال، عندما يُوظِّف المدير موظفاً جديداً يحبه بحق ويقتنع بأنَّه سيكون ممتازاً، فإنَّه يميل إلى التركيز على جوانب من أدائه الممتاز ويتجاهل جوانب أخرى تعكس أداءه الضعيف، أو ينسب هذه الجوانب إلى أشياء خارجة عن تحكُّم الموظف ويلتمس له بذلك الأعذار.

سيميل المدير أيضاً إلى الوثوق بهذا الموظف، ومن ثمَّ قبول تفسيراته لضعف الأداء دون التحقق من صحة أو دقة تلك البيانات. والعكس صحيح أيضاً؛ إذا كنَّا نكره شخصاً ما، فسوف ننتبه إلى سلبياته ونتجاهل أو نستبعد إيجابياته. ومن غير المرجح أن نثق به أو نصدق ما يقوله.

قد يكون من الصعب جداً الحصول على تصورات دقيقة لمَن نحبهم ومَن نكرههم؛ لذا سيحاول المدير المؤثِّر تقييم المواقف من وجهات نظر عدة، وجمع آراء عدة لتعويض هذا التحيز عند اتخاذ القرارات.

إقرأ أيضاً: 9 أنواع للتحيزات المعرفية التي تؤثر في أحكامنا اليومية

6. الصراعات:

يمكن أن يكون اتخاذ القرار الفعَّال صعباً بسبب الصراع؛ إذ يكره الأفراد معظمهم الصراع، وسيتجنَّبونه عندما يكون ذلك ممكناً. ومع ذلك، قد يكون القرار الأفضل هو الذي سيشتمل على بعض التعارض. ففي مثال متكرر في مؤسساتنا؛ مديرٌ لديه مرؤوس يتأخر في أغلب الأحيان عن العمل، وهذا يجعل الآخرين يضطرون إلى التقصير في مسؤولياتهم من أجل تغطية مهام ومسؤوليات الموظف المتخلف.

يحتاج المدير إلى إجراء محادثة مع هذا الموظف لتصحيح سلوكه وتوضيح تقصيره تجاه العمل. في الغالب؛ الموظف لن يحبَّ تلك المحادثة، وقد يتفاعل معها تفاعلاً سلبياً. وفي الحقيقة، إنَّ المدير والموظف المقصر كليهما سيكون غير مرتاح لتلك المحادثة.

من المحتمل أن يتضمن الموقف صراعاً، الذي يجده معظم الناس مرهقاً. ومع ذلك، ما يزال القرار الصحيح هو إجراء محادثة حتى لو كان الموظف يمثِّل أحد الأشخاص الرئيسين في المؤسسة، وصاحب نفوذ وسلطة.

إذا لم يُصحَّح السلوك السيئ، فسيستمر؛ الأمر الذي سيؤدي إلى مزيدٍ من المشكلات في مكان العمل على الأمد الطويل. قد يدرك الموظفون الآخرون أنَّ هذا السلوك مسموح به، وقد يبدؤون أيضاً بالحضور إلى العمل متأخرين أو الانخراط في سلوكات سلبية أخرى. في النهاية، قد يصاب بعض الموظفين بالإحباط لدرجة أنَّهم يبحثون عن مكان آخر للعمل.

من الهام للمديرين أن يدركوا أنَّه في حين أنَّ الصراع قد يكون غير مريح - خاصة على الأمد القصير - فهناك أوقات يكون فيها من الضروري التعامل مع الصراع من أجل مصلحة المجموعة، أو القسم، أو المنظمة لكي تعمل بفاعلية على الأمد الطويل.

7. تعارُض في العمل أو في العلاقة الشخصية:

من المفيد أيضاً التفكير في التعارُض بوصفه تعارُضاً متعلقاً بالعمل والواجبات المنوطة بالموظف أو بالعلاقة الشخصية في أثناء العمل.

يمكن أن يؤدي تعارُض العمليات، والصراع فيما يخص أفضل طريقة للقيام بشيء ما، إلى تحسين الأداء؛ إذ يستكشف الأفراد خيارات مختلفة لتحديد الحلول المناسبة. بينما صراع العلاقات هو صراع بين الأفراد يكون شخصياً، وينطوي على الهجوم على شخص بدلاً من الفكرة.

هذا النوع من الصراع ضارٌّ ضرراً عاماً، ويجب قمعه عندما يكون ذلك ممكناً. كما يتسبَّب الضرر الناجم عن صراع العلاقات إلى عودة الفرد إلى نظام رد الفعل للدماغ - الدماغ الزاحف - فيصبح دفاعياً في آرائه وردود أفعاله.

يجب أن يكون القادة مدركين لإمكانية حدوث تضارب في العلاقات عند تقديم الملاحظات وتوجيه اللوم؛ لذا يجب أن يحافظوا على تركيز تعليقاتهم على السلوكات؛ أي كيف تتم الأشياء، بدلاً من التركيز على الفرد تركيزاً شخصياً.

إنَّ إدراك هذه النقطة والتعامل مع صراع العلاقات يشير إلى أهمية الذكاء العاطفي للقادة في المنظمات. كلما كان القائد ذكياً عاطفياً، من المرجح أن يكون هؤلاء القادة منتبهين للعواقب الضارة للصراع في العلاقات.

إقرأ أيضاً: فن اتخاذ قرارات ذكية في بيئة عمل معقدة

نموذج قيادة "ساتيا ناديلا" (Satya Nadella) لشركة مايكروسوفت (Microsoft):

عندما أصبح "ساتيا ناديلا" الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت (Microsoft) في عام 2014، شرع بإحداث تحوُّل كبير في ثقافة المؤسسة. لقد أراد أن ينتقل من ثقافة تُقدَّر بـ "يعرف كل شيء"، إلى ثقافة تُقدَّر بـ "تعلَّم كل شيء"؛ بدلاً من شعور الموظفين بأنَّهم يحتاجون إلى إثبات أنَّهم الأذكى، أرادهم أن يصبحوا مستمعين ومتعلمين وفضوليين وفعَّالين؛ وذلك فقط من خلال التعلُّم المستمر والتعاون مع بعضهم بعضاً ومع العملاء، بهذه الثقافة فقط ستظل شركة مايكروسوفت (Microsoft) قادرة على تطوير وتقديم حلول تقنية رائعة.

كان من بين أولى مهام "ناديلا" بصفته رئيساً تنفيذياً أن يطلب من جميع أعضاء فريق الإدارة العليا قراءة كتاب "التواصل اللاعنفي" (Nonviolent Communication)، لمؤلِّفه "مارشال روزنبرغ" (Marshall Rosenberg)؛ إذ يركِّز الكتاب على التواصل التعاطفي، وهو نهج أكثر لطفاً مما اعتاد عليه موظفو شركة مايكروسوفت (Microsoft). يعتقد "ناديلا" أنَّ تطوير التعاطف يؤدي إلى فهم متزايد لاحتياجات المستهلك ورغباته، وقدرة معززة على تطوير منتجات وخدمات أفضل من خلال التعاون.

ينعكس هذا التحول الثقافي في إعادة صياغة رسالة شركة مايكروسوفت (Microsoft) الجديدة: "تمكين كل شخص وكل مؤسسة على هذا الكوكب لتحقيق مزيدٍ من الإنجازات". يشمل تمكين كل شخص موظفي شركة مايكروسوفت (Microsoft). ويُعَدُّ تحقيق التنوع تحدياً خاصةً في صناعة يسيطر عليها الذكور. ويعترف "ناديلا" أنَّه ارتكب أخطاء بناءً على تحيزاته الخاصة.

في مؤتمر "النساء في الحوسبة" في وقت مبكر من فترة تولِّيه منصب الرئيس التنفيذي، أشار "ناديلا" إلى أنَّ النساء لا يحتجن إلى طلب علاوات عندما يستحققنها؛ إذ أكَّد أنَّ النظام سيعمل على حل المشكلة. اعترف لاحقاً أنَّه كان مخطئاً، ولكنَّه استثمر ذلك الخطأ بوصفه قاعدة أساسية للقيام بخطوات أكبر في ذلك المجال.

يبدو أنَّ اجتماعات فريق الإدارة العليا في شركة مايكروسوفت (Microsoft) قد تغيرت جداً؛ وذلك نتيجة للتغيير الثقافي الذي قاده "ناديلا". في السابق، شعر الأعضاء في الحاجة إلى إثبات أنَّهم يعرفون جميع الإجابات الصحيحة باستمرار في اجتماعات الفريق، لكنَّ "ناديلا" وضع معايير مختلفة.

سعى إلى الحصول على آراء صادقة من أعضاء الفريق، وتقديم ملاحظات وتوجيهات إيجابية للفريق على أساس منتظم. من خلال نقل التركيز بعيداً عن الصواب دائماً ونحو التركيز على التعلم المستمر، أصبحت الثقافة في شركة مايكروسوفت (Microsoft) تعاونية أكثر من قبل، وأصبح الموظفون مستعدين لتحمُّل المخاطر من أجل تحقيق نجاحاتٍ مذهلة.

يبدو أنَّ التحول الثقافي أتى ثماره؛ إذ تُوصَف منتجات شركة مايكروسوفت (Microsoft) بأنَّها "رائعة" و"مثيرة". وتفوَّق نظامها الأساسي للحوسبة السحابية على المنافسين، وتحسَّن أداؤها المالي تحسُّناً كبيراً. يُعَدُّ تحويل ثقافة المؤسسة مَهمَّة ضخمة، لكنَّ قيادة "ناديلا" لشركة مايكروسوفت (Microsoft) تُظهر بوضوح أنَّه قرار يمكن أن يؤتي ثماره على الأمد القصير والطويل.

في الختام:

هناك حواجز عدة تحول دون اتخاذ قرار عقلاني وفقاً لخطوات محددة مسبقاً. ولا يستطيع المديرون جمع معلومات شاملة؛ فهم مقيدون في قدرتهم على المعالجة المعرفية لجميع المعلومات المتاحة. لا يمكن للمديرين دائماً معرفة جميع النتائج المحتملة لجميع الخيارات الممكنة، وفي أغلب الأحيان يواجهون قيوداً زمنية تحدُّ من قدرتهم على جمع كل المعلومات التي يرغبون في الحصول عليها.

بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ المديرين، مثل جميع البشر، لديهم تحيزات تؤثر في اتخاذ قراراتهم، وهذا يمكن أن يجعل من الصعب عليهم اتخاذ قرارات جيدة. من التحيزات الشائعة جداً التي يمكن أن تربك عملية صنع القرار هو التحيز التأكيدي، وميل الشخص إلى الاهتمام بالمعلومات التي تؤكد معتقداته الحالية وتجاهُل المعلومات التي تتعارض مع هذه المعتقدات الحالية. يمكن أن يجعل الصراع بين الأفراد في المنظمات من الصعب الوصول إلى قرار جيد.

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5




مقالات مرتبطة