من ناحية أخرى، تتطلب أوقات عدم اليقين قيادة عظيمة؛ فالقادة الأقوياء والفعالون هم أفراد يتمتعون بمجموعة من الصفات النادرة التي تمكِّنهم من جذب المواهب وتعزيز روح التعاون وتوحيد الناس، وأن يكونوا حازمين ويقدموا نتائج فعالة في الوقت نفسه، وإحراز الإنجازات؛ يُمكِّنهم هذا المزيج من الشخصية الجذابة والحزم من قيادة الفرق وإحداث تغيير إيجابي في العالم، وذلك هو جوهر قدرتهم على التعامل مع الظروف الصعبة.
نقدم في هذا المقال منهجاً عملياً لأساليب القيادة يمكن أن يستفيد منه المديرون والمسؤولون التنفيذيون وأي شخص مسؤول عن قيادة الناس أو الشركات، ونستعرض نموذجاً مزدوجاً للقيادة التنفيذية يمكن أن يساعدهم على تخطي المحن مثل التي نمر بها هذه الأيام.
وفقاً للأستاذين "براين ليغيت" (Brian Leggett) و"كونور نيل" (Conor Neill) من معهد الدراسات العليا لإدارة الأعمال (IESE Busines School)، تتألف الأدوات الجديدة للإدارة من مجموعة صفات يمكن تقسيمها إلى فئتين، تُعرفان باسمي "المغناطيس" (Magnet) و"المطرقة" (Hammer)؛ يضم المغناطيس جميع الصفات التي تخلق قوة جذب، مثل استمالة الأشخاص المناسبين إلى العمل في الفريق من خلال التحدث بطريقة جذابة، وتحفيز الموظفين عبر امتلاك رؤية جذابة للشركة أو المشروع أو المستقبل، والاستماع إلى أعضاء الفريق وتقبُّل النقد؛ بينما تضم فئة المطرقة جميع الصفات التي تولِّد قوة الدفع، بمعنى آخر، القدرات التي تدفع الناس إلى العمل، مثل تحديد المعايير، ووضع الخطط الاستراتيجية، وتحديد المواعيد النهائية، وإصدار الأوامر واللجوء إلى التهديدات حين يتطلب الأمر.
وبهذا يمكننا تلخيص ركيزتي القيادة في فئتين من الصفات، تتضمَّن "أفعال المطرقة" التالي:
- تطوير خطة استراتيجية.
- تحديد المعايير.
- تحديد المواعيد النهائية.
- إصدار الأوامر، أو التهديدات إذا تطلب الأمر.
- إنشاء نظام مكافأة.
بينما تتضمَّن "أفعال المغناطيس" التالي:
- التحدث بطريقة جذابة.
- صياغة رؤية مُلهمة.
- السرد.
- القيادة عبر التصرف كمثل أعلى.
- الانفتاح على المناقشات وتقبُّل النقد.
نستعرض هنا، بالاعتماد على ركيزتي نموذج القيادة، 4 ممارسات محددة ومصممة خصيصاً كي تساعد القادة على الاستجابة للأوقات الصعبة التي نعيشها:
1. التعلم من الماضي:
هذا ليس الوباء الأول في التاريخ، ولن يكون الأخير بالتأكيد، إذ يكرر التاريخ نفسه، وعلينا أن نكون حكماء ونتعلم منه؛ تأمل كيف تصرف القادة العظماء في أوقات الطاعون، فعلى سبيل المثال، قاد الإمبراطور الروماني "ماركوس أوريليوس" (Marcus Aurelius)، مؤلف كتاب القيادة الكلاسيكي "تأملات" (Meditations) والذي هو في الواقع مذكراته الشخصية التي يشارك فيها أفكاره ومعضلاته كقائد، أكبر إمبراطورية في عصره، روما وشعبها خلال الطاعون الأنطوني (Antonine Plague)، في البداية اعتقد الناس في روما أنَّه ليس أهلاً للقيادة، لكنَّه أثبت جدارته، إذ مكث في روما عندما كان بإمكانه بسهولة ولسبب وجيه الفرار إلى قصر معزول آمن، وأحاط نفسه بأفضل الخدم، حيث بحث واختار بنفسه أفضل المواهب ليوظفهم، عوضاً عن اتباع أسلوب "الواسطة" وتوظيف الأصدقاء والأرستقراطيين.
أصغى ماركوس إلى النصائح التي قدمت له، ومكَّن الناس في مناصب صنع القرار، كما كلَّف "جالينوس" (Galen)، أشهر طبيب وعالم في ذلك الوقت، بقيادة جهود مكافحة الطاعون، اتخذ ماركوس الإجراءات اللازمة مستخدماً صفات فئة المطرقة، وقاد بكونه مثلاً أعلى مستخدماً صفات فئة المغناطيس.
2. تطوير خطة استراتيجية:
تستند خطط العمل على رؤية واضحة تبدد عدم اليقين وتدفع الناس إلى العمل في الاتجاه الصحيح؛ في ظلِّ هذه الظروف يكون الموظفون والفرق مستعدين للإصغاء إلى مديرهم حين يشرح لهم الخطة، وما الذي يجب عليهم فعله للانتقال بالشركة إلى مكان أفضل وأكثر أماناً؛ إذ إنَّ انعدام اليقين هو أحد الأسباب الرئيسة للتوتر والقلق في العمل، ومما يزيد الطين بلة هو المستقبل المجهول الذي يبعث مشاعر العجز والضعف، لكنَّ امتلاك خطة، مهما كان تنفيذها صعباً، يدفع الفريق إلى مواجهة الواقع، وإعداد أنفسهم للآتي، ويمنحهم الأمل وتحكماً أفضل بحياتهم ومستقبلهم.
3. صياغة رؤية لما بعد الجائحة ومشاركتها:
مهما كنَّا نعاني اليوم، ستنتهي هذه الأزمة من دون شك في المستقبل، وجزء من حلها بالطبع خارج عن سيطرتنا، لكن يعتمد جزء كبير منه على رؤيتنا للمستقبل وكيف نريد بناءه؛ إنَّ وجود رؤية لما بعد الجائحة ضروري لنشر التفاؤل وتحفيز الناس من حولنا.
فكِّر على سبيل المثال بالفرص المستقبلية في مجال عملك، أو الفوائد التي يمكن أن يجنيها الناس من استثمار هذا الواقع الجديد، وخذ في الحسبان رغبات واحتياجات الناس أثناء وبعد جائحة كوفيد؛ إضافة إلى امتلاك رؤية واضحة، يجب أن يكون القائد قادراً على التواصل مع فريقه بقوة وفاعلية لمشاركتها، إذ تشكل الرسالة الواضحة التي يمكن مشاركتها مع الآخرين قوة الجذب (المغناطيس) التي تولد الثقة لدى الفريق، وتجمع الأشخاص لتحقيق هدف مشترك.
4. تخصيص وقت لتطوير الذات:
قيَّدت الجائحة الحالية النشاطات الاجتماعية، فعانى الكثيرون بسببها من فترات عزلة مطوَّلة منحتهم وقتاً للتأمل والتفكير؛ ومجدداً، نجد في التاريخ قادة عظماء ازدهروا وكشفوا عن عظمتهم خلال أوقات العزلة القسرية؛ على النحو نفسه يجب أن نستثمر نحن الوقت الذي نُحرَم فيه من إقامة علاقات اجتماعية في التركيز على التطوير الذاتي والتعلم؛ على سبيل المثال، العودة إلى مقاعد الدراسة لتحصيل شهادات عليا أو الانضمام إلى برنامج تنفيذي طريقة جيدة لاكتساب المعرفة وتكوين علاقات والتواصل مع محترفين من مختلف القطاعات؛ كما سيساعدك وضع قائمة بالكتب التي تود قراءتها هذا العام أيضاً على تجنب التراخي، وعلى ضبط نفسك كي لا تقضي وقتاً طويلاً أمام الشاشات التي تستهلك معظم وقت فراغنا أحياناً؛ يجب أن نبذل قصارى جهدنا للعمل على تطوير الذات، مما سيكون له تأثير مباشر على فريقنا والأشخاص من حولنا؛ كما يقول رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق "هاري إس ترومان" (Harry S. Truman): "ليس كل من يقرأ قائداً، لكنَّ جميع القادة يقرأون".
شاهد بالفديو: أساليب تطوير الذات: 14 طريقة لتطوير مهاراتك الشخصية
5. التعلُّم مع مرور الوقت:
برأي كثير من المديرين التنفيذيين "إدارة الناس هي واحدة من أصعب تحديات العمل"، ولربما هم على حق، فقيادة الناس والفرق وتحمل مسؤولية إحداث تغيير فعال وتحقيق نتائج إيجابية أمر صعب، وتقلد دور القائد هو أحد أصعب الأمور التي قد نفعلها في حياتنا الشخصية أو المهنية؛ ومع ذلك، القيادة الإيجابية مجزية للغاية أيضاً، فهي تتطلب الصبر والالتزام والرعاية، والأهم من ذلك، هي مهارة يمكن تطويرها مع مرور الوقت عبر استلام المناصب الإدارية والقيادية على الصعيدين المهني والشخصي؛ إذ يتعلم المرء أن يقود عبر ممارسة القيادة في مجالات مختلفة من الحياة، ويجد شخصيته القيادية ويطور صفاتها بشكل كامل عبر البحث عن فرص للقيادة والخروج من منطقة راحته.
أضف تعليقاً