قد يكون صنع القرار هو الوظيفة الأكثر أهميةً للقائد، فكلما زادت المخاطر، زادت أهمية اتخاذ القرار، وزادت أهمية فهم المنظمات لخطوات اتخاذ القرار الفعالة، فالقرارات -مَن يتخذها وكيف يتم اتخاذها- هي اللبنات الأساسية لكل مؤسسة ناجحة، وإذا كنتَ ستنجح كقائد، فأنت بحاجة إلى اتخاذ القرارات الصحيحة بالسرعة الكافية، والرشاقة الكافية والمتسقة بدرجة كافية (غالباً بمعلومات محدودة) مع التوافق التنظيمي لإبقاء المنظمة تتحرك في الاتجاه الصحيح، فقط فكِّر في الأمر، فكل خطوة إيجابية وكل حركة فاشلة هي نتيجة قرار اتُّخِذَ بشكل صحيح أو خاطئ.
يتعين على القادة غالباً اتخاذ قرارات صعبة، مثل التوجه الذي يجب أن تتحرك فيه المؤسسة، وما إذا كان يجب الاحتفاظ بموظف أو نقله إلى إدارة أخرى أو حتى فصله، وما إذا كان يتعين عليه مشاركة "الأخبار السيئة" مع المساهمين أم لا، والعديد من التحديات الأخرى المماثلة.
إنَّ اتخاذ قرارات جيدة في المواقف الصعبة ليس بالأمر الهين، لأنَّ هذه الأنواع مِن القرارات تنطوي على التغيير، وعدم اليقين، والقلق، والتوتر، وأحياناً ردود الفعل غير المواتية للآخرين، كما يعرف القادة أيضاً متى يتحركون بسرعة ويمضون قدماً ضمن المعلومات المتاحة، مقابل الوقت الذي يستغرقون فيه، فجمعُ معلومات إضافية يعني في كثير من الأحيان مزيداً من الوقت، وعندما يختار القادة الحصول على معلومات إضافية، يجب عليهم أيضاً معرفة متى يتوقفون، في حين أنَّ كميةً كبيرة من البيانات قد تكون مرغوبةً في عالم مثالي، إلا أنَّ عملية جمع البيانات يمكِن أن تستغل الكثير من الوقت، كما أنَّ الكمَّ الهائل من البيانات يمكِن أن يشل التفكير ويأخذ الانتباه بعيداً عن الصورة الكبيرة أو نقاط البيانات الرئيسة.
ستستكشف هذه المقالة مجموعة صفات أساسية يجب على القادة العظماء تطويرها ليصبحوا صانعي قرار عظماء:
- الذكاء العاطفي وضبط النفس.
- القدرة على التعامل مع عدم اليقين.
- القدرة على موازنة الأدلة بالحدس.
- التوافق التنظيمي في اتخاذ القرارات.
تُختَتم المقالة بعملية تدريجية تَستخدِم هذه الخصائص للتوصل إلى أفضل قرار ممكن بالنظر إلى العديد من المتغيرات التي يمكِن أن تؤدي دوراً.
الذكاء العاطفي:
يُعدُّ الذكاء العاطفي، والقدرة على فهم وإدارة عواطفك وعواطف الآخرين، من أهم الصفات التي يجب أن يمتلكها القائد، فوفقاً لمؤلفي "القيادة البدائية"، فإنَّ مشاعر القائد معدية، وهذا هو السبب في أهمية القيادة الرنَّانة، كما إنَّ مزاج القائد سيكون له صدىً لدى الآخرين، ويُحدِّد نغمة المناخ العاطفي في المنظمة.
يتكون الذكاء العاطفي من الوعي الذاتي، والإدارة الذاتية، والوعي الاجتماعي، وإدارة العلاقات. فالوعي الذاتي هو الأساس لجميع جوانب الذكاء العاطفي، وإنَّه ينطوي على القدرة على تقييم نفسك بدقة، وقبل أن تتمكن من تقبُّل التغيير، يجب أن تكون على دراية بأفكارك ومشاعرك وأفعالك، حيث تستلزم إدارة الذات القدرةَ على فهم عواطفك والتحكم فيها، والتكيف مع التغيير، واعتماد نظرة متفائلة، فالوعي الاجتماعي مشابه للوعي الذاتي، ولكنَّ التركيز خارجي وينطوي على فهم أفكار، ومشاعر، وأفعال الآخرين، وكذلك كيفية التواصل مع الآخرين، كما تُعَدُّ إدارة العلاقات أمراً بالغ الأهمية للقيادة العظيمة وتتضمن صفات مثل: التأثير، والإلهام، وتطوير الآخرين.
سنُركِّز هنا على إحدى المكونات الأساسية لإدارة الذات: ضبط النفس العاطفي، فعندما تقوم بتطوير هذه المهارة، سوف تتعرف إلى مشاعرك، وتتأثر فيها، ولكنَّها لن تمنعك من اتخاذ القرار الصحيح، وستكون قادراً على التعبير بهدوء ووضوح عن قراراتك للآخرين حتى عندما تواجه مشاعر شديدة في داخلك ومن الآخرين.
شاهد بالفيديو: 6 صفات تدلّ على صاحب الذكاء العاطفي
أولاً، ضبط النفس العاطفي واتخاذ القرار:
تخيَّل -أيُّها القائد- أنَّك واجهتَ موقفاً خطيراً ينطوي على مخاطر كبيرة مع وجود جانب سلبي محتمل كبير، وكنتَ بحاجة إلى اتخاذ قرار؛ بل اتخاذ إجراء على الفور، فمِن المحتمل أن يكون لديك رد فعل عاطفي كبير، بما في ذلك مشاعر مثل: القلق، أو الخوف، أو الغضب. وللأسف فإنَّ مثل هذه المشاعر تحجب قدرتنا على اتخاذ قرارات جيدة، وعندما ندخل في الجزء العاطفي، يكون رد فعلنا الفطري هو حماية أنفسنا، ونحصل على اندفاع الأدرينالين في كافة أرجاء الجسد، ويكون رد فعلنا التلقائي إما "الدفاع أو الهروب" (flight-or-fight response)، وتعمل غريزة البقاء بقوة كما يمكِنك أن تتخيَّل، فإنَّ الحضور في هذه الحالة لا يساعد على اتخاذ قرارات استراتيجية طويلة المدى، وهذا هو سبب أهمية ضبط النفس العاطفي، وكذلك يدرك القادة العظماء حالتهم العاطفية وهم قادرون على إدارة المشاعر الشديدة حتى يتمكنوا من اتخاذ قرارات ذكية.
السيطرة على العواطف لاتخاذ قرارات استراتيجية:
من أجل اتخاذ قرارات استراتيجية طويلة المدى، يجب أن نعرف كيفية خفض رد الفعل العاطفي الشديد حتى نتمكن من إشراك جزء مختلف من أدمغتنا والذي يسمى بـ "قشرة الفص الجبهي" (the prefrontal cortex)، وهي المسؤولة عن النظر إلى الصورة الكبيرة والتخطيط طويل الأمد، ومن المفارقات أنَّ طريقة القيام بذلك هي قبول أي رد فعل عاطفي لدينا وتمريره بهدوء مع اختيار التركيز على الحقائق قدر الإمكان.
إنَّ محاولة كبت المشاعر والسيطرة المطلقة عليها بمثابة ركوب موجة عاتية قادمة إلينا، وهذا الكبت يتطلب الكثير من الجهد، الأمر الذي سيؤدي في النهاية إلى نتائج عكسية ونشعر بالسوء والغضب من الداخل، بدلاً من ذلك، ببساطة، تقبَّل تلك المشاعر، وستمرُّ شدة المشاعر بسرعة، وبعد ذلك يمكِنك التفكير بشكل منطقي، فالهدف من ذلك، ليس إخراج المشاعر من عملية صنع القرار؛ بل إنَّه ببساطة منع المشاعر من السيطرة على حواسنا وفقدان ضبط النفس العاطفي.
ثانياً، القدرة على التعامل مع عدم اليقين والخيارات الصعبة:
لماذا يصعب اتخاذ القرارات؟ ربما يرجع ذلك إلى أنَّ المتغيرات والنتائج تكون غالباً غير مؤكدة، فنحن لا نحب عدم اليقين (uncertainty) لأنَّه يؤدي إلى عدم الراحة وشلل التحليل، كما نحاول تحليل الموقف من كل زاوية لتخفيف الشعور بعدم اليقين، فغالباً ما تكون هذه الجهود غير مجدية وتُضيِّع وقتاً وطاقة ثمينين، لأنَّه في كثير من الأحيان يتعين علينا اتخاذ قرارات في مواجهة عدم اليقين.
ما هو المدى الذي يمكِن أن نذهب إليه لتجنُّب عدم اليقين؟
في دراسة أُجرِيَت عام 1992 من قِبَل العالِمَين "عاموس تفيرسكي" و"إلدار شافير" (Amos Tversky and Eldar Shafir) ، سُئِل طلاب الجامعة عما إذا كانوا يرغبون في الحصول على عرض خاص لرحلة إلى هاواي خلال إجازتهم القادمة، وقِيلَ لهم إنَّهم سيحصلون على نتائج أهم اختبار لديهم قبل أن يتخذوا القرار، ومن بين أولئك الذين قِيلَ لهم إنَّهم اجتازوا الامتحان ونجحوا، قال 57% إنَّهم سيذهبون في الرحلة، ومن المثير للاهتمام، أنَّ نسبةً مماثلة تقريباً (54%) مِمَّن قيل لهم إنَّهم فشلوا قالوا أيضاً إنَّهم سيذهبون.
عندما أعاد الباحثون تصميم الدراسة بإدخال فكرة "عدم اليقين"، تغيَّرَت النتائج تغيُّراً كبيراً، واختُبِرَ الطلاب أنَّهم لن يحصلوا على درجة الامتحان لمدة يومين، وأنَّه يمكِنهم شراء الرحلة الآن، أو دفع 5 دولارات للانتظار لمدة يومين حتى يحصلوا على درجتهم، فقال غالبية الطلاب (61%): إنَّهم سينتظرون يومين من أجل الحصول على النتائج، وأظهر الجزء الأول من الدراسة أنَّ الطلاب يريدون -في الغالب- الذهاب إذا نجحوا أو إذا فشلوا في الامتحان، لكنَّهم في الجزء الثاني كانوا على استعداد لدفع $5 للانتظار ومعرفة نتائجهم؛ فقد ربط الطلاب بين الذهاب إلى الرحلة وبين نتائجهم دون وجود صلة واضحة بينهم، فقط للتغلب على عدم اليقين.
تُوضِّح هذه الدراسة المدى الذي سنذهب إليه لتجنُّب عدم اليقين، حيث بدا أنَّ الطلاب يعتقدون أنَّ معرفة درجاتهم ستساعدهم على اتخاذ قرار جيد، بينما في الواقع لن يحدث فرقاً في قراراتهم.
يصيبنا "عدم اليقين" غالباً بما يسمى الشلل التحليلي، وينتهي بنا الأمر إلى بناء قراراتنا على أشياء ليست حتى ذات صلة، فتساءل عن محاولاتك لإيجاد اليقين قبل اتخاذ القرارات، لأنَّك ربما تبحث عن شعور زائف بالأمان، وهذا يشبه إلى حد كبير الطريقة المذكورة أعلاه للسيطرة على المشاعر السلبية لتحقيق ضبط النفس العاطفي، فإنَّ القبول هو نقطة البداية الحاسمة، وإذا كنا قادرين على قبول حالة عدم اليقين بدلاً من محاولة حلها، فيمكِننا تركيز وقتنا المحدود وطاقتنا وأموالنا على اتخاذ أفضل القرارات في مواجهة نتيجة غير مؤكدة.
هذا لا يعني أنَّه لا يجب أن تهتم بتحليل الموقف قبل اتخاذ القرار؛ بل يمكِن أن تكون التحليلات المختلفة مفيدةً في توفير المعلومات اللازمة لاتخاذ أفضل القرارات في الموقف، فالمفتاح هو معرفة متى يكون ما لا تعرفه مهماً ومرتبطاً بالقرار، وإذا كان الأمر كذلك، فيمكِنك القيام بجمع المعلومات الضرورية لحل حالة عدم اليقين، أما إذا كان ما لا تعرفه غير مهم، فإنَّ الخطوة التالية هي قبول عدم اليقين والمضي قدماً في اتخاذ القرار ضمن المعرفة التي لديك.
لا تقع فريسة الشلل التحليلي:
إذا وجدتَ نفسك عالقاً، أو تستثمر الكثير من الوقت أو الموارد التي لديك في التحليلات، فاسأل نفسك ما إذا كان عدم اليقين الذي تحاول حله قابلاً للحل حقاً، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فمن الأفضل قبول عدم اليقين والمضي قدماً، فتخلَّص من "الشلل التحليلي" من خلال مجموعة خطوات وعادات ينبغي القائد أن يمارسها، وهذه الممارسات تمنح القائد راحةً عند اتخاذ القرارات:
1. امنح نفسك مواعيد نهائية لاتخاذ القرارات:
هذه الممارسة ستشعرك بعدم الارتياح وخاصة في البداية؛ فلا بأس، استمر فيها، وعندما تواجه قراراً صعباً، حدِّد تاريخاً أو وقتاً للوصول إلى نتيجة (كلما كان ذلك أفضل بشكل أسرع)، وعندما يحين ذلك الوقت، اتَّخِذ القرار، وتذكَّر أنَّ هذا جزء مهم للغاية من أجل نجاحك كقائد على المدى الطويل، ففي بعض الأحيان ستكون على حق وفي بعض الأحيان ستكون مخطئاً، ولكن في كلتا الحالتين، يكون اتخاذ القرار أكثر قيمةً من التردد وإحداث حالة من الشلل التحليلي وانتظار قوة خارجية أو آخرين لاتخاذ القرار نيابة عنك، وهي جزء من مهارة "الثقة بالنفس"؛ حيث يحتاج قادة الشركات والمؤسسات إلى الثقة في أنفسهم، وفي أنَّهم يعرفون بالفعل الإجابة الصحيحة؛ بل هي موجودة في مكان ما في عقلهم وأنَّ لديهم كافة الموارد التي يحتاجونها، فإنَّ وضع توقيت مُحدَّد ونهائي من أجل اتخاذ القرار يشجعهم على الوثوق بحدسهم واكتساب الثقة والخبرة معاً.
2. اتخاذ القرار يتعلق بإنجاز الأشياء وليس الكمال:
لقد رأيتُ رجال أعمال متواضعين للغاية أصبحوا ناجحين بسبب سمة واحدة فقط وهي: قدرتهم على إنجاز الأشياء، في مجال الأعمال على وجه الخصوص، فلا يتعلق الأمر بكونك الأذكى، أو الأفضل، أو الأعلى مكانةً، أو الأكثر ذكاءً، أو إبداعاً، فكل هذه الأشياء تساعد، لكنَّها تأتي في المرتبة الثانية للتقدم، فدون تقدُّم، ودون القدرة على الانتقال من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) فإنَّ هذه الأشياء لا تهم، ولن يرغب أحد في العمل مع قائد إذا لم تتمكن من إنجاز الأمور، وبكلمات واضحة وجليّة، مهمتك كقائد هي الحفاظ على تقدُّم الأعمال واستمرارها، والقرارات هي مَن تدفع الأمور إلى الأمام.
3. قم بتمكين مَن حولك لاتخاذ قراراتهم المستنيرة:
أحد الأسباب الجذرية لـ "الشلل التحليلي" لدى القادة هو حقيقة أنَّهم بنوا مؤسستهم بالكامل لتكون معتمدةً عليهم، وكقائد، ليس من مسؤوليتك اتخاذ كل قرار بنفسك، كما أنَّه ليس من مسؤوليتك أن تكون في كل اجتماع، أو تحل مشكلات كل فرد في المؤسسة، فمهمتك هي إنشاء أنظمة وثقافة تُمكِّن الناس من اتخاذ قرارات فعَّالة بأنفسهم، ويؤدي الكثير من القادة الأمر بأمان من خلال عدم اتخاذ القرارات خوفاً من الوقوع في الخطأ، وهذا يعني فقط المزيد من الضغط على مَن هو أعلى منصباً والذي بدوره ينتقل إلى مَن هو أعلى منه إلى أن يصل إلى القائد الأعلى أو الرئيس التنفيذي، وهي ممارسة تُكرَّس فيها المركزية بصورة مقيتة.
بدلاً من ذلك، اقلب المعادلة، واسأل كيف يمكِن للقائد غرس المستوى نفسه من الثقة بالنفس فيمن حوله، حتى يشعروا بالراحة في اتخاذ أكبر عدد ممكن من القرارات بأنفسهم، فكلما تمكَّن القائد من تمكين الآخرين، قلَّت القرارات الصغيرة التي يتعين عليه اتخاذها؛ مما يعني أنَّه يمكِن للقائد إنفاق وقته وجهده في التفكير في القرارات الاستراتيجية التي ستؤثر حقاً في مستقبل المؤسسة.
تقليل الاختيارات... يسهل اتخاذ القرار:
أحد أخطاء اتخاذ القرار التي نرتكبها عادةً هو أن نمنح أنفسنا الكثير من الخيارات، حيث نعتقد أنَّه إذا نظرنا في كل بديل ممكن، فسوف يكون لدينا خيارات أفضل وقدرة على اتخاذ القرار الأفضل، وفي بعض الأحيان نقوم بهذا البحث الشامل كوسيلة لحل عدم اليقين، ونفترض أنَّنا إذا فحصنا وراجعنا كل شيء، فلن نترك أي جهد دون أن نقلبه ولن يكون هناك شك، فالمشكلة هي أنَّه من المحتمل أن نشعر بالارتباك ولن نتخذ أي قرار.
ففي دراسة ظريفة أُنجِزَت في عام 2000، أجرى "شينا ينجار" (Sheena Iyengar) من كلِّيَّة كولومبيا للأعمال و"مارك ليبر" (Mark Lepper)، رئيس قسم علم النفس بجامعة ستانفورد، دراسةً أُعِدَّ فيها معرض لتذوُّق المربى في سوبر ماركت راقِ، وكان لديهم 24 علبة مربى مُعَدَّة للتذوق في المائدة الأولى، و6 علب مربى فقط في المائدة الثانية، ووجدوا أنَّ عدداً أكبر من الأشخاص انجذبوا إلى المائدة ذات الـ 24 علبة مربى، ولكن عدد المتذوقين الفعليين في كل المعرضين كان متساوٍ تقريباً، مع ذلك نتج اختلاف كبير في الشراء؛ فقد وجدوا أنَّ 3% فقط ممن تذوقوا من المائدة الأولى اشتروا برطماناً من المربى، في حين أنَّ 30% من أولئك الذين تذوقوا من المائدة الثانية اشتروا برطماناً من المربى.
تُظهِر هذه الدراسة وغيرها من الدراسات الأخرى المماثلة -والتي هي كثيرة ومتنوعة- أنَّه عندما يكون هناك خيارات أكثر، فإنَّ الأشخاص يواجهون صعوبةً في اتخاذ القرار، وغالباً ما يختارون عدم اتخاذ قرار، ولمساعدة نفسك والآخرين بشكل فعَّال في اتخاذ القرارات، احتفِظ بخيارات أقل من خمسة وستجد أنَّه من السهل بكثير اتخاذ القرار.
ثالثاً، الثقة في حدس القائد:
غالباً ما يقول القادة المتميزون إنَّ لديهم الشجاعة الكافية لاتخاذ القرارات، وإنَّهم قادرون على الوثوق بأنفسهم وخبراتهم وعدم الوقوع في دائرة الإفراط في التفكير، فكلما زادت معرفتك بموضوعٍ ما، زادت مصداقية حدسك، فاجعل من نفسك خبيراً في مجالك وسيكون حدسك هو أفضل دليل لك، وإلا فاستعِن بالخبراء في مجالك (SEM: Subject Matter Expert) فهم خير مُعِين على اتخاذ قرارات صائبة.
هل يؤدي الحدس إلى الرضا عن القرارات؟
طُلب من المشاركين في دراسة أجراها "تيموثي دي ويلسون" (Timothy D. Wilson) وزملاؤه في "جامعة فيرجينيا" و"جامعة بيتسبرغ" اختيار قطعة فنية لتعليقها في منازلهم، وطُلب من نصفهم التفكير بعقلانية في اختيارهم، بينما طُلب من النصف الآخر أن يختاروا وفقاً لحدسهم، فأولئك الذين ذهبوا مع مشاعرهم بدلاً من تحليلهم كانوا أكثر سعادةً باختيارهم، كما يمكِننا التفكير بعقلانية، ولكن غالباً ما تخبرنا انطباعاتنا الأولى كيف نشعر حقاً، وهذا لا يلغي التفكير العقلاني، واجعل لحدسك نصيباً في قرارك، فأحياناً الظروف والملابسات تجبر الآخرين على القيام بتصرفات خاطئة؛ فلا ينبغي أن يغفل القائد الحدس والضمير بجانب العقل في سياق اتخاذ القرارات.
كيف تسمع حدسك أو إلى "الضمير"؟
ربما يكون الحدس صوتاً خافتاً ومزعجاً بداخلك، ويتحدث بهدوء ويسعى إلى توجيهك إلى الصواب. لسوء الحظ، قد يكون من السهل ألا نسمع لحدسنا، في عالمنا المتسارع والمليء بالتكنولوجيا، فإنَّه يُحدِّثنا دائماً، لكنَّنا لا نستمع له غالباً، وفي ثقافتنا العربية نسميه " الضمير الحي".
نحتاج إلى صقل مهاراتنا كقادة والاستماع إلى حدسنا أو " الضمير الحي" من خلال تطبيق شكل من أشكال الممارسة التأملية في حياتنا اليومية، ولا يُشترط أن يكون التأمل الفعلي (meditation) كما يَحدث أو يتم تصويره لنا في جلسات التأمل القادمة من شرق آسيا، ويمكِن أن تكون لحظات من التفكير الصافي في الصباح الباكر، وفي أثناء شربك لقهوتك الصباحية، وفي أثناء قراءة كتاب في ذات المجال، أو في نهاية الأسبوع عندما تراجع نفسك وتسترجع ما حدث معك خلال الأسبوع، ففي عصرنا الحديث، يتم عادةً إدخالنا في "دائرة اهتمام الآخرين" (Circle of Concern) من خلال إغراقنا بالمعلومات طوال اليوم عن طريق وسائل ووسائط متعددة مثل: التلفزيون، والراديو، والإنترنت، والهاتف الخلوي، ومنصات التواصل الاجتماعي، وغيرها، لدرجة أنَّنا نفقد الفرص لملاحظة كيف نفكر ونشعر. ولسماع حدسك، يجب أن يكون لديك بعض الوقت لتعيش إنسانيتك وليس أن تتظاهر بإنسانيتك؛ فأدخِل فترات من الهدوء في حياتك وستُفاجَأ بما تسمعه، واخلُ بنفسك في الليل الآخر، وتأمَّل حياتك، وراجِع قراراتك.
الممارسة طريقك إلى قرارات عظيمة:
اتخاذ القرار الفعَّال يتطلب الممارسة كما اتَّضحَ من النقاط السابقة، وتتطلب عملية اتخاذ القرار مستوىً معيناً من الراحة وعدم الراحة، واليقين وعدم اليقين، حيث يمكِن أن يؤديها القائد بأمان، ونُفوِّض اتخاذ القرارات المهمة للآخرين، ونقضي ساعات وساعات في التحليل والتفكير بشأن كل خيار، أو يمكِننا قبول مستوىً من المخاطرة والبدء في اتخاذ القرارات بشجاعة، كما يخشى الكثير من الناس اتخاذ قرار سيء أو قرار خاطئ، ولا يمكِن أن نبذل جهداً أكثر في اتخاذ القرار إلا بالمعلومات المتوفرة لدينا في وقت اتخاذ القرار؛ فهذا هو السقف الذي نتحرك تحته. عادةً، ولا توجد إجابة صحيحة أو خاطئة بنسبة 100%.
ومع ذلك، يمكِنك تحديد الخيار الخطأ، في أسوأ السيناريوهات، لنفترض حدوث ذلك "اخترتَ خياراً يظهر أنَّه أقل شأناً على المدى القصير"، ما الذي سوف يَحدث؟ سوف تتعلم أنَّه يمكِنك التعامل مع نتيجة قرارك وتحقيق أقصى استفادة منه، وقد تجد حتى فرصاً غير متوقعة بالسير في المسار "الخطأ"، فقد تعلَّم القادة العظماء من قراراتهم الخاطئة أكثر من القرارات الصائبة.
رابعاً، التوافق التنظيمي في اتخاذ القرارات:
ما هو التوافق التنظيمي (Organizational Alignment)؟ يُعرَف التوافق التنظيمي على أنَّه مزيج مثالي من استراتيجية العمل، وثقافة الشركة، والموهبة لتحقيق أقصى قدر من الأداء (Align Culture and Talent with Strategy to Outperform | LSA Global).
ماذا يقول بحثنا عن خطوات اتخاذ القرار الفعَّال للقادة؟
استناداً إلى بحث التوافق التنظيمي الذي أُجرِي لـ 410 شركة في ثماني صناعات مختلفة، يُعدُّ اتخاذ القرار الفعَّال أحد العوامل السبعة الأكثر تأثيراً في تحقيق التوافق التنظيمي والأداء العالي، وفي حال كنتَ تعتقد أنَّ التوافق ليس مهماً، فانتبِه:
- الشركات المتوافقة بدرجة عالية تنمو بشكل أسرع بنسبة 58%.
- تُحقِّق أرباحاً أكثر بنسبة 72%.
- تحتفظ بالعملاء بنسبة 2.23 إلى 1%.
- تزيد من إشراك الموظفين بنسبة 16.8 إلى 1%.
فما هي خطوات اتخاذ القرار للقادة لكي تتوافق تنظيمياً؟
إذا كان القائد يتطلع إلى التفوق في الأداء مقارنةً مع مؤسسات منافسة أو مشابهة في طبيعة الأعمال نفسها، ينبغي أن يتأكد أنَّ القرارات تُتَّخَذ بفعالية في جميع أنحاء المؤسسة بطريقة توازن بين الأولويات قصيرة وطويلة الأجل، ففي بحثٌ أُجريَ في شركات عالية الأداء، أكَّدَ المشاركون أنَّ 88% من قرارات الشركة تعكس توازناً صحياً بين التركيز على المدى القصير والطويل، بالمقابل أفاد 11% فقط من المشاركين من الشركات ذات الأداء الضعيف أنَّ اتخاذ القرار كان فعالاً.
كيف يكون التوافق التنظيمي في سياق اتخاذ القرار الفعَّال؟
على المستوى الأساسي، فإنَّ اتخاذ القرار القيادي الجيد هو عملية من ثلاث خطوات:
1. توافق على أولويات المنظمة:
تبدأ خطوات اتخاذ القرار الفعَّالة للقادة بمعرفة ما يجب فعله حقاً ولماذا هو مهم مقارنة بالأولويات الأخرى، والذي يعني بالضرورة وجود قائمة للأولويات، كما يعاني العديد من القادة من اتخاذ القرار، لأنَّهم يسمحون للعديد من الأولويات بالتسلل إلى بيئة الأداء وبالتالي تضطرب الأولويات، حيث تتوافق الأولويات الفعَّالة مع استراتيجية الشركة، ومع الثقافة التنظيمية، وتتضمن تعريفات واضحة للنجاح والفشل، وتُسلط الضوء على النتائج المرجوة والجداول الزمنية ذات الصلة، وتكون منطقيةً ومقبولة بشكل عام للفِرَق والأفراد، ولتبسيط مفهوم الأولويات، تُمثِّل الأولويات الفعَّالة قائمةً مختصرة مكونة من استراتيجيات عدَّة (بين 3 إلى 5)، ويعتقد القائد والفريق أنَّها ستُمكِّن الشركة من النجاح بطريقة منطقية وفعلية.
وقد تكون بعضها قصيرة الأمد، وقابلة للتحقيق على المدى القصير، وبعضها له أفق زمني أطول مرتبط باستراتيجية الشركة، ومن سمات هذه الأولويات أنَّها واضحة بما فيه الكفاية بحيث يفهمها الفريق بأكمله، ويؤمِن بأنَّهم الأشخاص المناسبون للمضي قدماً بالخطة، ولدى الجميع ثقة في أنَّه يمكِن تحقيقها في البيئة التنظيمية الفريدة للمؤسسة. وهذا لن يَحدث ما لم يتم إشراك الآخرين في اتخاذ القرارات والتشاور معهم، عندها فقط سيكون القائد قادراً على اتخاذ قرار مستنير والحصول على الموافقة المطلوبة لإنجاز الأمور.
2. إنشاء المساءلة والالتزام بها:
بمجرد أن يفهم الجميع، ويؤمنوا بالأولويات، فإنَّ الخطوة التالية الفعَّالة في اتخاذ القرار للقادة هي خلق ثقافة خاضعة للمساءلة تقود الأداء العالي، وتُمكِّن الأشخاص على جميع المستويات من اتخاذ قرارات راسخة تتماشى مع أولويات المنظمة، فقد وُجِدَ أنَّه كلما زاد شعور الناس بأنَّهم يتحكمون في القرارات ومسؤولون عن عواقبها، زاد احتمال قيامهم بالحكم اللازم لاتخاذ قرارات فعَّالة، ولإنشاء بيئة من المساءلة، ينبغي على القائد التأكد من مشاركة المعلومات بشكل مفتوح، ومعالجة النزاعات وحلِّها بسرعة، ومراقبة الأداء الضعيف، وتثبيط السلوكات غير الحاسمة، ومعالجة التردد والتقاعس، إضافة إلى ذلك، إشراك المستويات المناسبة من القادة والخبراء في الموضوع، والاعتراف بالمساهمات، ومتابعة الالتزامات، ومراقبة وقياس الأداء، والتأكد من أنَّ كل اجتماع ينتهي بفهم واضح للقرارات والخطوات التالية.
3. تحمُّل المسؤولية:
يجب أن يكون هناك شخص واحد مسؤول عن ضمان التنفيذ السليم، فالقرارات الجيدة التي يتم تنفيذها بشكل سيء أو بطيء جداً تفقد قيمتها؛ لذا فإنَّ هذا الدور لا يقل أهميةً عن تحديد الأولويات بشكل صحيح وخلق مستوى مناسب من المساءلة.
اختر شخصاً ملتزماً تماماً بالقرار، ولديه الخبرة والتأثير اللازمين للتنفيذ الناجح، ثمَّ تأكَّد من أنَّه وفريقه يمكِنهم الإجابة عن الأسئلة الخمسة التالية:
- ما هو القرار المُحدَّد الذي يجب اتخاذه؟
- لماذا هذا القرار مهم؟
- مَن الذي يجب أن يشارك في اتخاذ القرار؟
- كيف سيتم اتخاذ القرار؟
- متى يجب اتخاذ القرار؟
الإجابة عن هذه التساؤلات يوحي بأنَّ الفريق على دراية كافية بالقرار، وتبعاته، ولديه الرغبة القوية في تحمُّل مسؤولياته وتنفيذه.
في الختام:
كن قائداً في حياتك الشخصية ومهنتك، من خلال الالتزام باتخاذ قرارات صعبة في الوقت المناسب، وأفضل طريقة لإلهام الآخرين للتغيير هي إجراء التغييرات بنفسك، ومارِس هذه العملية باستمرار وكن قائداً واثقاً من نفسك والآخرين، فما عليك سوى التفكير في الوقت والطاقة اللذين ستوفرهما في هذه العملية، ومدى شعورك بالرضا عندما تظلُّ هادئاً، وتثق بنفسك، وتتخذ قرارات رائعة، وترى تأثيرها في سير مؤسستك، ولستَ مطالباً بقرارات صائبة ودقيقة طوال الوقت، ولكن عندما تصدر القرار، راقِب النتائج، وطوِّر من القرار، وعدِّل فيه بما يناسب التوافق التنظيمي وأهداف المؤسسة قصيرة الأجل والاستراتيجية.
المراجع:
- Five Lessons From The Pandemic Light A Path Forward To The Future Of Work
- 5 simple rules for making better decisions
- Three Rules for Better Decision Making
- Great Leaders are Great Decision-Makers
- Effective Decision Making Steps for Leaders
- Daniel Goleman, Richard E. Boyatzis, and Annie McKee, Primal Leadership, Boston: Harvard Business School Press, 2004
- Daniel H. Barlow, Anxiety and Its Disorders, Second Edition: The Nature and Treatment of Anxiety and Panic, (New York: The Guilford Press, 2004).
- Amos Tversky and Eldar Shafir, “The Disjunction Effect in Choice under Uncertainty,” Psychological Science, 3 (1992): 205–209.
- Sheena Iyengar and Mark Lepper, “When Choice Is Demotivating: Can One Desire Too Much of a Good Thing?” Journal of Personality and Social Psychology, 79 (2000): 995–1106
- Timothy D. Wilson et al., “Introspecting about Reasons Can Reduce Post-Choice Satisfaction,” Personality and Social Psychology Bulletin, 19 (1993): 331–339.
أضف تعليقاً