نحن نمتلك جميعاً كمية محدودة من الطاقة للقيام بأعمالنا اليومية، ومن أجل أن يعمل دماغنا، يستهلك نسبة هائلةً تصل إلى 20٪ من تلك الطاقة. تخيَّل أنَّ دماغك عبارة عن مجموعة بطاريات. عندما يكون عقلك مفعماً بالطاقة والحيوية، تكون حزمة البطاريات تلك ممتلئة. لكن عندما تلاحظ أنَّك متعب وغير قادر على التركيز والاستجابة الغريزية، فإنَّ حزمة البطاريات تلك تكون بحاجة إلى إعادة شحن. لذا سنشرح في هذه المقالة، علامات الإرهاق الذهني وطرق محاربته.
أعراض الإرهاق الذهني:
أول بوادر التعب الذهني هي أكثرها وضوحاً: فالشَّعور بالنعاس وعدم التركيز يُنبّهنا إلى حقيقة أنَّنا مرهقون عقلياً. لكنَّ العارض الثالث، وربما المشكلة الأكثر تبعيَّة، غالباً ما لا يتم ملاحظته كعلامةٍ رئيسية على الطاقة الذهنية المستنزفة. فعندما تنخفض طاقتك الذهنية، تتوقف قشرة الفص الجبهي لديك عن العمل تقريباً.
إنَّ قشرة الفص الجبهي هي الجزء الأكثر تطوراً وعقلانيةً في الدماغ، وهي المسؤولة عن تجاوز غرائزك العاطفية عند الضرورة. لذا إن لاحظت أنَّك تستسلم بسهولة لرغباتك، أو تنفجر غاضباً بوجه زوجتك أو أحد أفراد أسرتك، أو تُكثر من استعمال البوق عندما تعلق في ازدحامٍ مروري؛ فعلى الأرجح أنَّ قشرة الفص الجبهي لديك لا تعمل بالشكل الصحيح. كما لو أنَّ الإرهاق الذهني يقوم بما يشبه عملية جراحةٍ فَصِّية من تلقاء نفسه.
الوسائل الخمس لعلاج الإرهاق الذهني:
لدينا جميعاً كمية محدودة من "هرمونات السَّعادة"؛ وهي النواقل العصبية مثل الدوبامين والسيروتونين، والتي تجعلنا نشعر بالحيوية الذهنية. لهذا السَّبب لا يتمكن مدمن المخدرات من أن يبقى منتشياً طوال الوقت. إذ يُستنزف لديه مخزون الدوبامين ويهبط بشدة في نهاية المطاف. فالمخدرات هي شكل من أشكال تكوين الطاقة الاصطناعية التي يمكن أن تخلق اندفاعاتٍ من الحيوية يليها انهيار مفاجئ.
لربما تعرضت لارتفاع سكر الدم أو اندفاع الكافيين الذي يتحول في مرحلة ما إلى حالة ذهنية مستنفدة. فالكافيين مثلاً، يُحبط عمل مستقبلات الأدينوزين (مادة كيميائية تتراكم على مدار اليوم، وتخبرك متى تكون متعباً)، ويحجب أعراض الشعور بالتعب بشكلٍ شبه تام إلى أن يزول مفعول الكافيين، لتشعرَ بتعبٍ أكبر بعد ذلك.
بما أنَّه من الواضح أنَّ العقاقير ليست هي الحل، فلم يتبقَّ لنا إذاً من خيارٍ سوى المزيد من الأساليب العضوية -من دون استخدام أيِّ عقارٍ كان- للوصول إلى حالةٍ من النَّشاط الذهني:
1. النوم:
هذا الأمر واضح للغاية، لأنَّ الجميع يعلم أنَّ النومَ أمرٌ بالغ الأهمية للعقل النشط. لكن قلة من النَّاس تدرك فعلاً مدى أهمية النوم. فمن خلال الحصول على كميةِ ونوعيةِ نومٍ مناسبتين، فإنَّك تسمح لعقلك بإزالة السُّموم الضارة التي تتراكم على مدار اليوم كناتج عرضيٍّ لنشاطه. علاوةً على ذلك، يقوم الدماغ بترسيخ الذكريات ومعالجة العواطف بطرقٍ تساعدك على العمل بأفضل حالاتك خلال ساعات الاستيقاظ.
لتحقيق أقصى استفادةٍ من نومك، من المفيد الالتزام بأوقات نومٍ منتظمة، والخلود للراحة في غرفةٍ مظلمةٍ معتدلةِ البرودة، وعزل الأصوات الخارجية، وتجنب النظر إلى شاشات الهاتف والتلفاز قبل الخلود إلى النَّوم.
2. النشاط البدني:
قد يبدو الأمر منافياً للمنطق بأن تقوم بصرفِ قدرٍ من الطاقة من أجل الحصول على المزيد منها. لكنَّ التمارين الرياضية هي عاملٌ إيجابيٌّ جداً لطاقة العقل والجسم، حيث إنَّها تهيء جسمك على أن يكون جاهزاً لمزيد من الإنتاجية. كما أنَّ عقلك يحب أن يكافئك على ممارسة الرياضة، لذا تراه يرسل لجسمك دفعاتٍ من الأدرينالين والإندورفين، وغيرها من "هرمونات السعادة"، ذلك عند قيامك بالجري ورفع الأثقال والقفز والرَّقص.
علاوةً على ذلك، فهو يزيد ممَّا يسمى عامل التغذية العصبية المستمد من الدماغ (BDNF)، وهو بروتين مسؤول عن نمو الخلايا العصبية والحفاظ عليها.
إنَّ النشاط البدني أمرٌ بالغ الأهمية لسعادة جنسنا البشري، ولكن غالبية البالغين منا لا يمارسون الرياضة على الإطلاق. يمكن أن تُعزى هذه المشكلة إلى التَّضارب من الناحية التطورية ما بين علم وظائف الأعضاء والبيئة. إذ لطالما كانت الطاقة مورداً شحيحاً، وقد برمجنا التطور لكي نحافظ عليها. وفي حين أنَّ الصراع من أجل البقاء كان -فيما سبق- يُحافظ على لياقتنا وصحتنا البدنية، فإنَّ عالمنا المعاصر يجعل من السَّهل علينا تجنُّبَ صرف طاقتنا. إذ نحن -من قبيل المفارقة- نرزح تحت ضغط إجبار أنفسنا على الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية.
3. التَّغذية:
مثله مثل ممارسة الرياضة، غالباً ما يتم النَّظر إلى النظام الغذائي في سياق فقدان الوزن أو الصحة البدنية. إذ لا يكون تأثيره على صحتك العقلية واضحاً على الفور. لربما تكون قد سمعت مقولةَ "أنَّ دماغك الثاني يتواجد في أمعائك".
لقد تطور ذلك "الدَّماغ"، أو بشكل أدق: الجهاز العصبي المعوي، قبل نصف مليار عام في الفقاريات الأولى. ولربما أفضى ذلك الجهاز العصبي، إلى ظهور الدماغ بالشكل الذي نجده عليه الآن.
يتكامل عمل الأمعاء بشكل كبير مع بقية وظائفك الدماغية، إذ تحتوي القناة الهضمية على 500 مليون خلية عصبية تتصل بالدماغ عبر المحور الدماغي المعوي الميكروبيومي (microbiome-gut-brain). كما أنَّ الأمعاء تنتج نسبة هائلة تبلغ 95٪ من السيروتونين، و50٪ من الدوبامين.
حوالي ربع الطاقة التي تستهلكها، سيتم نقلها إلى ذلك الدماغ العالي الاستهلاك، من أجل إبقاءه يعمل بأقصى قدراته. يمكن لما تتناوله أن يساعد في تحديد مشاعرك وأفكارك في كل لحظة (فكر في ذلك المخطط الذي يربط ما بين علم وظائف الأعضاء والأفكار والعواطف، وبين التغييرات الغذائية التي تُغير التركيب الكيميائي على المستوى الفيزيولوجي؛ مما يؤثر على وظائف دماغك).
أنا لا أحيط علماً بكل الإجابات التي تتعلق بتحسين تغذيتك العصبية (وفي كثير من الحالات لا تزال نتائج الأبحاث غير قاطعة في هذا الصدد)، ولكن إليك 3 مبادئ توجيهية للقيام بذلك:
- إنَّ النظام الغذائي هو حالةٌ شخصية للغاية، لذا يعود الأمر لك لكي تكتشف ما الذي يجعلك تشعر بالحيوية.
- إنَّ السُّكريات المكررة والأطعمة المصنعة تضر على الأرجح بعمل الدماغ.
- إنَّ دماغك يُحبُّ الدهون الصحية، مثل أحماض أوميغا 3.
4. التَّأمل:
يمكن للجلوس ساكناً وتدريب عقلك على التَّأمل، أن يزيد مستويات الطاقة الطبيعية لديك. إذ يمكن للتأمل أن يبطئ موجات دماغك، ويضع عقلك في حالة مريحة ويخرجه من وضع "الكرِّ والفر". إذ في مجتمع تسوده الجداول الزمنية وعمليات التحفيز المستمر، يَسمَحُ التَّأمل لعقلك بالتعافي والحفاظ على التركيز.
إن لم يسبق لك أبداً أن قمت بالتَّأمل، فإليك بعض الموارد التي تساعدك على البدء بذلك:
- ما هو التأمل؟
- 8 خطوات تساعد المبتدئين على تعلُّم رياضة التأمل.
- الدراسة والتأمّل والمشي... 3 عادات يومية ستُغيّر حياتك.
- تأمّل ساعة... ما أهمية التأمل في حياتنا وكيف يجب أن تمارس هذا الفنّ الشافي؟
5. البيئة الاجتماعية:
لا يقتصر الأمر على كيفية استخدامنا لطاقاتنا، بل يتعداه إلى كيفية تفاعلنا مع العالم أيضاً. تتضمن بيئتك الاجتماعية المجتمع الذي تقضي أوقاتك فيه، وحالتك المعيشية، وتفاعلك مع الآخرين خلال اليوم.
لربما تكون قد سمعت بهذه العبارة من قبل: "حيث يُصرَف الاهتمام، تتدفق الطاقة وتزدهر الحياة". إذ أينما تواجدت، فإنَّ انتباهك لا يُشكِّل عقلك وحسب (اللدونة العصبية)، ولكنَّه يحدد أيضاً أين تنفق طاقتك.
نحن نعيش للأسف، في عالم تتشتت فيه طاقة معظم الناس على مجموعة واسعة من أدوات الإشباع قصير الأمد، بما في ذلك الإعلانات الموجهة وألعاب الفيديو والمواد الإباحية ووسائل التواصل الاجتماعي، ومقاطعَ يوتيوب تظهر أطفالاً يفتحون علبَ هداياهم!! هذه هي نوع المعلومات التي تستوطن أدمغتهم وتصوغ رغباتهم، وهنا ينفقون طاقاتهم.
علاوةً على ذلك، إن كنت تمضي وقتاً مع النَّاس وتقومُ بأمورٍ لا تُحبِّذها، فأغلب الظَّنِّ أنَّ تلك الأمور تستنفذ طاقتك. والعكس بالعكس، إذ يمكن لقضاء بعض الوقت بصحبة أشخاصٍ بهيجين وإيجابيين، أن يُشكِّلَ مكسباً صافياً من الطَّاقة. ذلك لأنَّ حماسهم تجاه الحياة سينتقل إليك.
قد يتعين عليك أيضاً أن تنظر إلى تفاعلاتك مع الطبيعة؛ هل تقضي وقتاً في الحصول على قدرٍ وافرٍ من الهواء النَّقي ومن نور الشمس؟ هل تُعرِّض نفسك لمناظر طبيعية خلابة، أم تظل حبيس جدران غرفتك أو مكتبك؟
يمكن أن يكون للفروقات الصغيرة في المكان الذي تضع نفسك فيه بالغ الأثر على طاقتك العقلية.
رَفع حجمِ بطاريتك الذهنية:
عبر تصديك للمجالات الخمس المذكورة أعلاه، ستُبقي إرهاقك الذهني في حدِّه الأدنى. ولربما تشعر "بنشوةٍ طبيعيَّة" تنتج عن ظروف المعيشة المثالية. وعندها لن تدوم بطاريتك الذهنية لفترة أطول وحسب، بل ستحصل أيضاً على ترقيةٍ "مجازيةٍ" من بطاريات من قياس (AA) إلى حزمة بطارياتٍ بقدرة 80 فولت. هذا عداك عن إضافة شيء قد يكون مفقوداً من خطة السلامة الذهنية خاصتك. إذ قد تفكر أيضاً في التَّخلص من / أو تقليل أي شيء يستنزف من مخزون طاقتك. فعبر رأب الصَّدع الموجود فيه، ستجد أنَّ الإرهاق الذهني يستغرق وقتاً أطول ليحدث.
قد تتضمن بعض أمثلة الطاقة المهدرة؛ العلاقات السامة وإدمان المخدرات والأطعمة غير الصحية والعمل المضني جداً ودفقَ الأفكار السَّلبية. وبدلاً من اجتراع مرارة التجارب السلبية في حياتك، ابدأ في تركيز انتباهك (وبالتالي طاقتك) على مُتعِ الحياة مهما قلَّ حجمها.
الطاقةُ مثلها مثل المال، كلاهما مَورِدَان محدودان. لذا نأملُ أن نكون قد قدمنا لك بعض الاستراتيجيات التي تنفعك في الحدِّ من إرهاقك الذهني، وتوجيه طاقتك العقلية إلى مجالها السَّليم.
أضف تعليقاً