وفي الواقع، تُقدَّر أهميته كثيراً لدرجة أنَّ الثقافات في جميع أنحاء العالم لديها احتفالات بالأعياد التي تركز في الامتنان، مثل "مهرجان القمر" (Moon Festival) في "الصين" (China) و"مهرجان الحصاد" (Erntedankfest) في "ألمانيا" (Germany) و"عيد الشكر الأمريكي" (American Thanksgiving) والعديد من الأمثلة الأخرى.
فبينما نجتمع مع العائلة والأصدقاء في مواسم الأعياد هذه، ونتوقف قليلاً لممارسة القول المأثور القديم المتمثل في الشعور بالامتنان للبركات الموجودة لدينا، ربما ينبغي أن نسأل أنفسنا سؤالاً: "كم مرة نشعر بالامتنان حقاً دون عطلة تذكرنا به؟" فقد نجد أنَّ إجابتنا: "ليس في كثيرٍ من الأحيان"؛ ولكنَّ الخبر السار هو أنَّه بقليل من الوعي الذاتي والجهد الواعي، يمكننا تقوية قدرتنا على الامتنان؛ إذ إنَّ عيش حياة أفضل وممارسة الامتنان يعود علينا بالفوائد التالية:
1. علاقات أفضل:
العلاقات أساسية في حياتنا؛ ونظراً لأنَّ لها هذا التأثير العميق في حياتنا، فإنَّ رعاية علاقاتنا الاجتماعية أمر هام جداً؛ وإظهار الامتنان هو مكان رائع للبدء، وكما يقول "روبرت إيمونز" (Robert Emmons) أستاذ علم النفس في "جامعة كاليفورنيا، ديفيس" (The University of California, Davis)، ورئيس التحرير المؤسس لمجلة "علم النفس الإيجابي" (The Journal of Positive Psychology)، والخبير العلمي الرائد في العالم في مجال الامتنان: إنَّ الامتنان له تأثير إيجابي كبير في العلاقات، وكتب على موقعه على الويب: "الأشخاص الذين لديهم قدرة كبيرة على إظهار الامتنان، لديهم القدرة على التعاطف وفهم وجهات نظر الآخرين، فلقد صُنِّفوا على أنَّهم أكثر كرماً وأكثر تعاوناً من قِبل معارفهم.
إنَّ الأشخاص الممتنين يضعون أهمية أقل للأشياء المادية ويميلون إلى عدم الحكم على نجاح الآخرين بناءً على ما لديهم وهم أقل حسداً للآخرين واجتماعيون أكثر؛ إذ يمكن أن يؤدي الشعور بالامتنان أيضاً إلى التأثير في فرص رد الجميل؛ وهذا يعني أنَّه كلَّما زاد شعورنا بالامتنان، زادت احتمالية ممارسة السلوكات المفيدة واستمرار السلوكات التي تؤدي إلى مساعدة الآخرين".
أظهرت دراسة في علم النفس أنَّ الامتنان يشجع هذه السلوكات المساعدة، ويمكن أن يزيد من نسبة المساعدة المقدمة للغرباء، ويمكن أيضاً أن يكون للامتنان تأثير إيجابي في مكان العمل؛ فوفقاً لـ "إيمونز" الامتنان هو: "المادة المطلقة لتحسين الأداء"؛ إذ إنَّه يدفع الناس إلى أن يكونوا أكثر تعاوناً ولطفاً ويظهرون التعاطف ويشجعون الآخرين؛ بل ويتطوعون في مهام عمل إضافية.
يستطيع الامتنان في الواقع تقليل مشكلة المبالغة في تقدير الحقوق؛ إذ يشعر الناس بأنَّ الآخرين يدينون لهم بشيء ما، ولا تضر المبالغة في تقدير الحقوق بالعلاقات مع الآخرين فحسب؛ بل تضر بالنفس ويمكن أن يتجلى في شكل عدوان وعنف وسرقة وسوء أداء في العمل وحسد وجشع واستياء وانعدام المسؤولية وإلقاء اللوم على الآخرين، ووفقاً لـ "إيمونز": "الشخص الذي يشعر بأنَّه يحق له الحصول على كل شيء لن يكون ممتناً لأي شيء؛ فالامتنان هو ترياق الاستحقاق".
2. نوم أفضل:
يؤثر النوم في أدائنا في العمل والطريقة التي نمضي بها يومنا بأكمله، فدون نوم جيد ليلاً، نشعر بالتشويش وعدم التركيز والخمول وحتى الانفعال؛ إذ ترتبط قلة النوم أيضاً بزيادة مخاطر الإصابة بالسمنة وأمراض القلب والسكري؛ إذ إنَّها تلحق ضرراً كبيراً بصحتنا.
ووجدت العديد من الدراسات أنَّ الامتنان يساعد على تحسين النوم، فعلى سبيل المثال: وجدت دراسة في مجلة "بيهيفيورل سليب ميديسن" (Behavioral Sleep Medicine) أنَّ ممارسة الامتنان يمكن أن تساعدنا على النوم لفترة أطول وبشكل صحي أكثر، وربما كعلاج لمخاوف ما قبل النوم أو الاكتئاب.
لذا، في المرة القادمة التي تواجه فيها مشكلة في النوم، بدلاً من أخذ الأدوية، لماذا لا تقرأ مجلة عن الامتنان؟ أو جرب تقنية النوم من خلال الشعور بالامتنان؛ فاستلقِ على السرير وأَغمِض عينيك، وركز في شيء أنت ممتن لوجوده مع تذكر كل الأسباب، ومن ثم استرخ؛ لأنَّ المشاعر الجيدة تغمرك، ويمكنك أيضاً القيام بتمرينات التنفس والشعور بالامتنان وطرد المشاعر غير المرغوب فيها والتوتر والسلبية.
شاهد: 6 نصائح لتحقيق الامتنان في حياتك
3. تحسين الصحة البدنية:
بينما نكتشف باستمرار تأثير عقولنا في الصحة البدنية، قد تفاجئك معرفة أنَّ شيئاً صغيراً مثل ممارسة الامتنان يمكن أن يكون مفيداً للغاية؛ إذ أظهرت الدراسات أنَّ الامتنان يمكن أن يساعد على تحسين الألم العضلي الليفي والذاكرة وضغط الدم وتغير معدل ضربات القلب. ويؤدي أيضاً إلى انخفاض مستويات الخلل الوظيفي البطاني؛ بل ويحسن أداء القلب والأوعية الدموية.
ووفقاً لمركز "يو سي ديفيس" (UC-Davis) الطبي فإنَّ الامتنان يخفض الكولسترول الضار (LDL)، بينما يرفع الكوليسترول الجيد (HDL)، ويمكنه أيضاً خفض مستويات الكورتيزول وتحسين وظيفة المناعة، وفي حين أنَّ البحث في هذا المجال ما يزال محدوداً، إلَّا أنَّ الدراسات واعدة، ومع كل الفوائد الصحية المحتملة من فعلٍ صغير مثل ممارسة الامتنان، فعليك أن تجربه.
4. صحة عقلية أفضل:
ربما يأتي أهم تأثير للامتنان من تحسين الشعور بالصحة العقلية، وكشفت دراسات "إيمونز" العديدة عن هذه الحقيقة؛ إذ كتب: "الأشخاص الممتنون يبلغون عن مستويات أعلى من المشاعر الإيجابية والرضا عن الحياة والحيوية والتفاؤل وانخفاض مستويات الاكتئاب والتوتر".
كما أنَّ "سونيا ليوبوميرسكي" (Sonja Lyubomirsky)، أستاذة علم النفس في "جامعة كاليفورنيا، ريفرسايد" (University of California, Riverside) ومؤلفة كتابَي "طريق السعادة" (The How of Happiness) و"أساطير السعادة" (The Myths of Happiness)؛ إذ درست التأثير الإيجابي للشعور بالامتنان في السعادة.
تقول إنَّ الامتنان لا يساعدنا فقط على الشعور بالأشياء الجيدة؛ وإنَّما يساعدنا أيضاً على عدم الاستخفاف بالأشياء، كما يقودنا الامتنان أيضاً إلى أن نكون أكثر فائدة للآخرين، وعندما تجتمع كل هذه الأشياء، تزيد شعورنا بالسعادة.
وتقول "ليوبوميرسكي": إنَّ الامتنان يقلل أيضاً المشاعر والتجارب السلبية، وقالت في عرض تقديمي قدمه مركز "جريتر جود ساينس" (Greater Good Science Center): "يكاد يكون من المستحيل الشعور بالامتنان في الوقت نفسه الذي تشعر فيه بالجشع أو الحسد أو المرارة أو القلق"، وتؤكد الأبحاث المقدمة في المؤتمر السنوي "للجمعية الأمريكية لعلم النفس" (American Psychological Association) لعام 2012 أنَّ الامتنان لا يجعلنا أكثر سعادة فحسب؛ بل يمكن أن يقودنا إلى اتخاذ خيارات حياتية إيجابية.
وتوصلت الدراسة إلى أنَّ: "المراهقين الذين يشعرون بالامتنان هم أكثر عرضة من أقرانهم الأقل امتناناً لأن يكونوا سعداء، وأقل عرضة لتعاطي المخدرات والكحول وأقل عرضة لمشكلات السلوك في المدرسة"، وفقاً لملخص صادر عن مجلة "ساينس ديلي" (Science Daily)؛ فيمكن أن يؤدي الامتنان أيضاً دوراً رئيساً في التغلب على الصدمة.
ووجدت دراسة أُجريَت على قدامى المحاربين في "فيتنام" (Vietnam) المصابين باضطراب الكرب التالي للصدمة النفسية (PTSD)، في مجلة "بيهيفيور أند ريسيرش ثيربي" (Behavior and Research Therapy)، أنَّ الامتنان يمكن أن يعزز المرونة ويحسن اضطراب الكرب التالي للصدمة النفسية.
بينما أظهرت دراسة في "مجلة علم النفس الإيجابي" (The Journal of Positive Psychology) أنَّ الامتنان يمنح تأثيراً وقائياً ضد الاضطرابات العقلية في أعقاب الاضطرابات الطبيعية كالكوارث، ومن الهام ملاحظة أنَّه بينما تُظهر الدراسات أنَّ للامتنان العديد من فوائد الصحة العقلية، فإنَّ بعض هذه الفوائد تتطلب وقتاً وممارسة منتظمة حتى تتحقق بالكامل؛ وهذا هو السبب الرئيس الذي يجعل من الهام ليس فقط ممارسة الامتنان خلال الأعياد؛ وإنَّما جعلها عادة منتظمة أيضاً.
يمكن أن يؤدي الشعور بالامتنان إلى إحداث تغييرات في الدماغ؛ إذ وجدت دراسة نُشِرَت في مجلة "نيوروأمج" (NeuroImage) في عام 2015 أنَّه بعد شهور من القيام بمهمة صغيرة في الكتابة عن الامتنان، كانت أدمغة المشاركين ما تزال تشعر بالامتنان؛ إذ أظهرت دراسة أخرى نُشِرَت في مجلة "فرونتيرز إن سايكولوجي" (Frontiers in Psychology) أنَّ "شدة الامتنان مرتبطة بنشاط الدماغ في مناطق متميزة من القشرة المخية قبل الجبهية المرتبطة بالمكافأة الاجتماعية والإدراك الأخلاقي"، واقترح مُعِدُّو الدراسة أنَّ الامتنان قد يؤثر حتى في مستقبل أشباه الأفيونيات، والتي تؤثر في الدماغ بشكل مشابه لمسكنات الألم.
5. تنمية القدرة على الشعور بالامتنان:
يمكن تنمية الامتنان مثل الفضائل والعادات الحميدة الأخرى، ولاكتشاف مستوى امتنانك؛ تمتلك مجلة "غريتر غود" (Greater Good) اختباراً عبر الإنترنت يمكنك إجراؤه لمعرفة مستواك.
ويوجد عدد من اختبارات الامتنان الأخرى؛ إذ يُعَدُّ GQ-6 مقياساً قصيراً للتقرير الذاتي عن الرغبة في الشعور بالامتنان؛ إذ يجيب المشاركون عن 6 عناصر بمقياس من 1 إلى 7، ويُعَدُّ أحد أكثر الاختبارات استعمالاً من قبل علماء النفس والباحثين.
فإذا كان مستوى الامتنان لدينا منخفضاً، فقد نستخف بالأمور ونفتقر إلى التقدير عندما تسير الحياة على ما يرام، وعندما نمر بمشكلة في حياتنا قد نركز في المشكلة وننسى الأشياء الجيدة.
وللمساعدة على تنمية الامتنان؛ يوصي "إيمونز" بممارسة سهلة: "أولاً، فكِّر في أحد أكثر الأحداث المؤسفة التي مررت بها، وكم مرة تجد نفسك تفكر في هذا الحدث اليوم؟ وهل التناقض مع الحاضر يجعلك تشعر بالامتنان والسرور؟ وهل تدرك أنَّ وضع حياتك الحالي ليس بالسوء الذي يمكن أن يكون عليه؟ وحاول أن تدرك وتقدر مدى تحسن حياتك الآن".
وحتى في الأوقات الصعبة يجب أن نكون ممتنين إلى الدروس التي نتعلمها منها، ونكمل اقتباس الشاعر "رالف والدو إمرسون" أعلاه: "ولأنَّ كل الأمور ساهمت في تقدمك؛ يجب عليك تضمين كل الأمور التي حصلت معك في امتنانك"، فدون المطر لن نقدِّر أبداً ضوء الشمس.
ووفقاً لموقع "ذا ديلي ستوك" (The Daily Stoic)، فإنَّ الامتنان جزء لا يتجزأ من الرواقية؛ إذ "رأى الرواقيون الامتنان كنوع من الطب، وأنَّ الشكر على كل تجربة هو مفتاح الصحة العقلية"؛ إذ إنَّ تنمية الامتنان ليست بالأمر الصعب، ولا يتطلب الأمر سوى القليل من اليقظة والجهد الذهني؛ فالأشياء الصغيرة مثل الاحتفاظ بقائمة أو مجلة للامتنان أو قول شكر صادق لشخص ما أو كتابة رسالة شكر، كلها تعزز إحساسنا بالامتنان.
ومن الهام أيضاً الاحتفاظ بأفكار الامتنان؛ وذلك من خلال التعرُّف إلى الأشياء التي نشعر بالامتنان لها؛ إذ تشمل الاحتمالات الأخرى استعمال مشاعر الامتنان، مثل الاحتفاظ بملاحظات إيجابية أو صور لك ولعائلتك ووضعها حول مائدة العشاء، أو حاول الحصول على صديق الامتنان لمشاركة الأشياء التي تشعر بالامتنان لكل منكما كل أسبوع.
فعلى الرغم من أنَّ ذلك لن يحدث بين عشية وضحاها، ولكن مع الممارسة المستمرة فإنَّ الامتنان سيتعزز ويزداد، وكلما بذلنا المزيد من الجهد اليوم، أصبح الأمر أسهل بالمستقبل. وتذكَّر أنَّ السعادة الحقيقية لا تأتي من الشكر الاعتيادي؛ وإنَّما من تنمية نزعة الامتنان.
وربما تكون أفضل الكلمات التي يمكن أن نتذكرها خلال موسم أعياد الشكر هذا هي تلك التي اقتبسها "إيمونز" من الرئيس الأمريكي السادس عشر "أبراهام لينكولن" (Abraham Lincoln): "لقد نَموْنا في الأعداد والثروة والقوة كما لم تنمُ أيَّة دولة أخرى على الإطلاق؛ لكنَّنا نسينا الله! لقد نسينا اليد الكريمة التي حفظتنا في سلام وكثرتنا وأغنتنا وقوَّتنا، وقد تخيلنا عبثاً في خداع قلوبنا أنَّ كل هذه البركات نتجت عن بعض الحكمة والفضيلة الفائقة الخاصة بنا".
ويتطلب الامتنان التواضع والتأمل الذاتي والاعتراف بأنَّ هناك قوة أكبر من أنفسنا، ونحن مدينون لها بالشكر، وهناك الكثير من الأشياء التي يجب أن نكون ممتنين لها، فما الذي أنت ممتن له اليوم؟
أضف تعليقاً