فمنهم مَن وجد في مواقع التواصل الاجتماعي ضالته ووسيلته الأنجع للبوح عن مشاعره أو استيائه أو رفضه وتذمره، فاتخذ من تلك المنصات خزاناً لملء شكواه الدائمة وسخطه غير محدود، وسارع إلى الكتابة عن أدق تفاصيل حياته الشخصية، معلِّقاً الأمل على كَمِّ التعليقات المؤيدة وحجم التسجيل لكلمة "أعجبني"؛ حتى بات التعبير عن المشاعر الخاصة وسيلة مُستهلَكة خاضعة للبيع، متناسياً خطورة الطاقة السلبية التي تتزايد من خلال انتشار الشكوى بين الناس، متنازلاً عن ضرورة قيادة نفسه لصالح ردات أفعاله المتسرعة.
وبدلاً من أن يحاكم هؤلاء الناس الأمر مع أنفسهم؛ هُرعوا إلى التعبير عنه على مواقع التواصل الاجتماعي بكل ما أوتوا من غضب وانفعال، وفي هذا الأمر بعدٌ عن قداسة الخصوصية، وميلٌ إلى النزعة الفوضوية للإنسان، وانحرافٌ عن الغاية الأساسية السامية للكتابة، فالكتابة التعبيرية أداة راقية جداً وهادفة ونبيلة، فهي بصمتك الخاصة في هذا العالم، وهي من أفضل وسائل تفريغ الطاقة السلبية على وجه الأرض.
عندما تجلس برفقة قلمك ودفترك، وتبدأ كتابة ما يجول في عقلك من أفكار ومشاعر سلبية كانت أم إيجابية، وتشارك دفترَك تجاربك القديمة بكل ما فيها من خيبات وأفراح ودروس مستفادة؛ فأنت تبني علاقة راقية وخاصة جداً وصادقة إلى أبعد حد بين عقلك وروحك وجسدك تكون لحظات استثنائية من التماهي المطلق، والانسجام غير المحدود، والتوازن الداخلي.
فمَا الشيء الذي يمكن أن تضع كامل ثقتك فيه أكثر مِن تلك الصفحة البيضاء، ومِن ذاك القلم المبارك؛ لكي تهبهما ذاتك، وآلامك، وأحلامك، وخيباتك، وخططك؛ ومَن الذي يستحق أن يكون سندك وشريكك ومُلهِمك أكثر من ذاتك؟ فاجلس معها تلقائياً وعفوياً، وامسك قلمك وابدأ الكتابة بدون قيود أو حواجز.
اكتب كما لو كنت ترقص لنفسك، سعيداً لوجودك، واستسلم لتلقائية القلم بين يديك كما تَطرَب للنغمات الموسيقية سامحاً لها بتحريككَ بمنتهى الانسيابية وكأنَّها تدخل إلى شَغاف قلبك، فهي لحظات من التجلي والوعي والصدق الرائع؛ لذا اكتب بمنتهى القوة والوضوح، وعبِّر عن كل ما يخطر في نفسك، وكن صديق ذاتك. اكتب لأنَّك تستحق أن تبقى نظيفاً وراقياً وغنياً ومهذباً وإنسانياً، فإن ابتعدت عن الكتابة؛ فقد ابتعدت عن ذاتك وهويتك.
العلاج بالكتابة؛ مدار حديثنا خلال هذا المقال.
ما هو العلاج بالكتابة؟
اكتشف عالم النفس الأمريكي جيمس بيكر عام 1986، تقنيةً رائعة للتخفيف من شدة التراكمات والضغوطات النفسية، وهي تقنية العلاج بالكتابة؛ إذ طلب من مجموعة من طلاب الجامعة كتابة يومياتهم بشكل يومي ولمدة 6 أشهر، وقد أظهر هؤلاء الطلاب توازناً نفسياً وسعادة أكبر بعد انتهاء مدة التجربة، كما قللت هذه التقنية من أعراض الصداع النصفي، والأرق، والتهاب المفاصل، كما أنَّها أبدت تأثيراً إيجابياً ملحوظاً في مرضى السرطان.
هي أداة رائعة للعلاج النفسي؛ إذ تجعل الإنسان أكثر قرباً من ذاته واتحاداً معها، وتحفظ له خصوصيته ومساحته، وتساعده على التعاطي مع المحيط بطريقة أفضل وأكثر وعياً، وتمنحه مستوىً أعلى من الوعي والتصالح والنضج، فهي ذلك السند الخفي الذي يقف وراء كل نجاح حقيقي للإنسان، وهي طريقة للبوح الصادق والشفاف.
وتُضفِي تقنية الكتابة التعبيرية بُعداً آخر إلى حياتك لا يمكن الوصول إليه في أي تقنية أخرى، معتمدة على أبسط الوسائل وأرخصها ثمناً كالورقة والقلم، والسؤال هنا: "كيف لورقة بيضاء وقلم أن يغيرا حياة شخصٍ ما بأسرها؟".
شاهد بالفيديو: 12 نصيحة للحفاظ على الصحة النفسية
فوائد العلاج بالكتابة:
1. التفريغ الانفعالي:
تُعدُّ طريقة الكتابة من أكثر الطرائق نجاعة لتفريغ حجم الطاقة السلبية، فعندما تترجم ما يعتلج في عقلك وقلبك من أفكار ومشاعر سلبية على الورق، فكأنَّك تتحرر منهم وتضعهم في ورقة، الأمر الذي يبني جسر تواصل أكثر صلابة مع ذاتك، ويجعلك أكثر هدوءاً وسعادة وتوازناً.
تقول فتاة إنَّ الكتابة كانت بمنزلة الحضن الدافئ الذي تلجأ إليه في لحظات طفولتها القاسية، فهذا الحضن لم يخذلها يوماً، واحتوى ضعفها وحزنها بكل ما أوتي من حكمة وصبر، وتقول إنَّها قد شيدت علاقة وطيدة مع دفترها وقلمها؛ حتى باتت تشعر بالخيانة والتقصير في حال غيابها عنهما، فمَا الذي يستحق الاحترام والثقة والتقدير أكثر منهما، فهما اللذَان مسحا دموعها وأيقظا قواها الخفية وأشعلا الأفكار النيرة في طريق حياتها، وحددا لها مسارات سعادتها وهنائها.
2. حل المشكلات العالقة:
تعطيك تقنية الكتابة التعبيرية قدرةً أكبر على ضبط الأعصاب، وترفع شِدَّة المحاكمة المنطقية لديك، فتصبح أكثر رُقياً في أثناء التعبير عن مشاعر غضبك ولا تسمح لها بقيادتك؛ فتلجأ إلى إفراغ مشاعرك على الورق بدلاً من إفراغك إياها على شكل لكمات على وجه مَن أغضبك، فتصبح بالتالي شخصاً أكثر هدوءاً وتوازناً؛ الأمر الذي يعطيك قدرة على حل المشكلات العالقة في حياتك، فتراكم المشاعر السلبية أساس كل المشكلات، إلى درجة الوصول إلى غياب القدرة على إيجاد الحلول المناسبة، إلا أنَّه عندما يمتلك الإنسان سلاحاً قوياً كسلاح الكتابة؛ فعندها سيجد حلاً لأي أمر يتعرض له في حياته؛ إذ تمنحه الكتابة هدوءاً لعقله، واستقراراً لروحه، مما يفتح المجال للأفكار الإيجابية والحلول الإبداعية بالظهور.
3. الأمان:
تُعدُّ طريقة التفريغ بالكتابة من أكثر الطرائق أماناً على الإطلاق، فهي تعطيك الحرية الكاملة في أن تبوح بكل المشاعر والأفكار بدون أية قيود، على عكس التفريغ إلى شخص ما؛ فقد تصاب بالإحراج من مشاركة تفاصيل معينة معه، أو قد تخاف من إساءة فهمه لك في حال بوحك له بما تشعر به من مشاعر وأفكار.
ومن جهة أخرى، تُعدُّ وسيلة التفريغ بالكتابة من الوسائل الإيجابية على عكس وسيلة التفريغ السلبية المتكررة بين الأشخاص، والتي تؤدي إلى انتشار الطاقة السلبية في المجتمع وتُعلِّم ثقافة الشكوى وإدمان فكرة إلقاء اللوم على الظروف والآخرين واحتراف لعب دور الضحية.
4. الثقة والقرب من الذات:
تمنحك الكتابة التعبيرية ثقة أكبر وسعادة ورضا وتقبلاً، فعندما تكتب ما تشعر به بكامل الحرية والشفافية، فأنت تؤكد لذاتك بأنَّها الأقرب إليك والأصدق والأكثر ثقة وأماناً، وتصبح شخصاً أكثر اتزاناً ونضجاً، بكيفيةٍ تكون فيها صلباً أمام آراء الناس وتعليقاتهم السلبية، فحديثك الداخلي مع ذاتك غنيٌ وثري للغاية ولا يترك مجالاً لأي ثغرة خارجية أن تخترقه.
5. تطوير الذات:
تُعطِيك الكتابة التعبيرية فرصة رائعة لفهم ذاتك أكثر والسعي إلى تحسينها وارتقائها، فعندما تكتب سلوكاتك ومشاعرك وأفكارك يوماً بعد يوم، ثم تعود إلى مراجعتها، فإنَّك قد تكتشف أموراً وصفات جديدة عنك بحاجة إلى بعض التعديلات، الأمر الذي يجعلك تقوم بالتحسين المستمر لذاتك.
تحولت الكتابة التعبيرية لدى الكثير من الأشخاص من وسيلة لتفريغ الطاقة السلبية إلى هواية وشغف وحب حقيقي وعمل يقدم قيمة مضافة للآخرين؛ إذ اكتشف هؤلاء الأشخاص أنفسهم من خلال الكتابة، وتولدت لديهم أفكار إبداعية نيرة، وسعوا جاهدين إلى تحقيق رسالتهم من خلال شغفهم، فمنهم مَن أصبح من المؤثرين والمُحفِزين ومدربي الحياة على مستوى العالم، بعد إنتاجهم كتباً رائعة وقيّمة.
6. علاقات اجتماعية أقوى:
تُعدُّ الكتابة وسيلة تفريغ رائعة من أجل التحرر من الطاقة السلبية؛ لذلك تختفي من قلب مَن يتبناها كل مشاعر الكره والبغض والنفور والغضب والغيرة والحسد، ويعود إلى فطرته السليمة ونقائه ونظافته، الأمر الذي يجعل تواصله مع الآخرين أكثر قوة ومتانة.
7. معالجة الكثير من المشكلات النفسية:
تعالج الكتابة الكثير من المشكلات النفسية كالرُّهاب الاجتماعي والكآبة والخوف واضطرابات النوم، كما أنَّها ترفع مناعة الجسم وتحارب السرطان؛ إذ أثبتت الدراسات تحسُّن وضع مرضى السرطان الذين واظبوا على كتابة يومياتهم ومشاعرهم وأفكارهم بحرية تامة ودون قيود.
كيفية جعل الكتابة عادة:
- لا تُحدِّد وقتاً معيناً من أجل الكتابة؛ بل اجعل الأمر تلقائياً وعفوياً، فعندما تتملكك الرغبة بالكتابة؛ انفرد بذاتك في مكان مريح وهادئ، واستسلم لسيل الأفكار المتدفق، وبركان المشاعر الملتهب؛ واكتب بمنتهى الصدق والوضوح بِنيَّة أن تتحرر من التراكمات السلبية وتصبح أكثر سعادة وتوازناً.
- أما في حال عدم رغبتك في الكتابة وعدم ممارستك لها سابقاً، فعندها تمرن عليها تدريجياً، واستخدمها في علاج كل مخاوفك؛ فإن كنت تخاف من الوقوف أمام الجمهور، فعليك أن تجلس مع ذاتك، وتبدأ الكتابة متسائلاً عن أسئلة هامة، ومحاولاً الإجابة عنها، مثل: "ما هي الأشياء التي تخيفك؟ وما هو تعبيرك عن الخوف؟ ولماذا تخاف؟ هل ستبقى على هذا المنوال طوال الحياة؟ هل تستحق الحياة منَّا أن نقضيها خائفين؟ وماذا لو حدث أسوأ احتمال ممكن؟ فهل ستكون هذه نهاية العالم؟ وكيف السبيل إلى الوصول إلى الراحة والثقة؟
- لطالما تخيَّلت نفسك خائفاً، ومتردداً في أثناء إلقائك محاضرة ما، والسؤال هنا: "ماذا لو تخيلت نفسك في الوضع الإيجابي المعاكس، كأن تتخيل ذاتك وأنت تُلقِي المحاضرة بطريقة سلسلة ومرنة، وتحقق نسبة عالية من التواصل الجيد مع الجمهور، ومن ثم اجلس مع نفسك وابدأ في كتابة مشاعرك وأفكارك وحالتك النفسية التي خبِرتها في أثناء تخيلك الإيجابي، وعندها ستأخذك الكتابة بهذه الطريقة خلال كل مستويات المشاعر، من المشاعر السلبية والخوف والعجز إلى مشاعر الراحة والأمان والهدوء، وبالتالي حلت الكتابة أزمتك ومشكلتك وجعلتك أقوى وأمتن.
- تعلَّم الجلوس مع ذاتك؛ يُخطِئ أغلب الناس عندما يتجاهلون الجلوس مع ذواتهم، ويَعدُّون الجلوس إلى الناس، أهم وأكثر فائدة من الجلوس مع ذواتهم؛ مع أنَّ النجاح الحقيقي للإنسان يبدأ من معرفته ذاته، ومن المصارحة والبوح الصادق مع الذات بِنيَّة تحسينها وترقيتها، فإن كنت بعيداً عن ذاتك، فلن تستطيع الوصول إلى السعادة الحقة.
- لكي تتحول الكتابة إلى عادة لديك؛ درب نفسك على كتابة يومياتك لمدة عشر دقائق يومياً؛ واكتب عن المواقف التي اختبرتها خلال يومك؛ لذا اكتب بِنيَّة التفريغ أولاً، ثم بنية اكتشاف ذاتك وثغراتك ومحاولة تحسينها، وبنية الوصول إلى الهدوء النفسي من أجل فسح المجال لتدفق الإلهامات والأفكار والإبداع إلى حياتك.
- اقرأ؛ لأنَّ القراءة المتواصلة تنمي ذخيرتك اللغوية، وتفتح في عقلك أبواباً جديدة وأبعاداً مختلفة، مما يصقل قدرتك على الكتابة ويجعلك متماهياً مع ذاتك أكثر وقريباً من رسالتك أكثر.
علاقة الكتابة والقول والعمل:
يظنُّ كثيرٌ من النَّاس بأنَّ القول منفصلٌ عن العمل ولكنَّ الواقع بخلاف ذلك؛ فقد قال الخليفة الأموي الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "مَن عدَّ كلامه من عمله، قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه"، وجاء في الحديث الشريف عن معاذ بن جبل قوله صلى الله عليه وسلم: "... فقُلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكلَّمُ بِه؟ قال: ثَكلتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِ علَى وجوهِهِم، أو علَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم؟".
فالكتابة كالكلام، بل هي كلام مكتوبٌ وهي من الأعمال التي سنحاسب عليها يوم القيامة؛ لذا من الجميل تذكُّر الوصية التالية:
وما من كاتِبٍ إلا سيفنى | ويبقى الدهرَ ما كتبت يداهُ |
فلا تكتـُب بكفِّك غيرَ شيء | يسرُّك في القيامة أن تراهُ |
الخلاصة:
الكتابة متعة حقيقية؛ فلا تحرم نفسك متعةً تضيف إلى حياتك هدوءاً وتوازناً وراحة بال وسعادة، بل تأخذك بعيداً إلى احتمالات أكثر نضجاً وقوة ووعياً، وتُقرِّبك من حقيقتك، وهويتك، ورسالتك، وتصنع لك بصمتك وقوتك التأثيرية.
أضف تعليقاً