لكي تضمن تقدمك في الحياة لا بد أن تتقن فن التغافل!

نعيش الحياة بكثيرٍ من الجديَّة والصرامة، مؤمنين بوجود لونين أساسين في الحياة؛ الأبيض والأسود، معتقدين أنَّ الرمادي لا يدل إلَّا على التلاعب والخبث، الأمر الذي يُوقِعنا في كثيرٍ من المشكلات والعراقيل، ويصيبنا بكثيرٍ من الأمراض النفسية والجسدية.



الحياة مكان تَصبُّ فيه مختلف مستويات الوعي والأخلاق والثقافة، فلا تستطيع أن تعيش الحياة مدققاً على أدق التفاصيل التي يقوم بها الآخرون، ممتعضاً من الفجوة التي بينك وبينهم، ومنزعجاً من اختلاف القيم الكبير بينك وبينهم، فعليك أن تحافظ على طاقتك وأعصابك وألَّا تهدرهما على توافه الأمور.

لا تستحق كل أمور الحياة الوقوف عندها، فمن الحكمة أن تصمت ولا تُعلِّق بكلمة واحدة في كثيرٍ من الحالات، وهذا الأمر لا يتنافى مع ضرورة إصلاح الخطأ في حال وجوده وتكراره الدائم، ولكنَّنا لا نستطيع إنكار حقيقة أنَّ إسداء النصائح في بعض الحالات يسبب شرخاً بينك وبين الشخص المقابل، كما لا نستطيع تجاهل ماهية الصلة التي تجمعك بالأشخاص المقابلين لك.

الحياة قصيرة، ومن الممكن أن نموت في أيَّة لحظة، لذلك اصنع مواقفاً حقيقية في القضايا التي تستدعي ذلك، ولا تقضِ حياتك في التدقيق والتمحيص على صغائر الأمور، مُنفِّراً الآخرين منك، جاذباً المشاعر السلبية إلى حياتك، فعليك تعلُّم فن التغافل لكي تسعد في الحياة.

فن التغافل؛ ما هو؟ وكيف نترجمه على أرض الواقع؟ مدار حديثنا خلال هذا المقال.

ما هو فن التغافل؟

هو القدرة على تجاهل الأمور عن قصد، بغية الاستمرار في العلاقة، أو لدرء المشكلات والمشاحنات، وهو استثمار الطاقة في الأمور الهامة والحفاظ عليها من الهدر والاستنزاف على توافه الأمور، وهو مهارة تجعل من حياتك أكثر سعادة ورضا وهناء.

ما هي الأمور التي تصرف طاقتك عليها؟

هل سألتَ نفسك سؤالاً هاماً مثل: "ما هي نوعية الأمور التي تصرف عليها طاقتك خلال يومك؟"؛ هل تصرف طاقتك على صنع علاقة أكثر نضجاً بينك وبين أولادك؟ أم تصرفها على تصيُّد الأخطاء والهفوات الصغيرة التي يقع بها ولدك، أو تصرفها على تذكر الماضي وما فيه من مآسٍ، أم تصرفها على التخطيط للانتقام من الحبيب الذي خانك؟

والسؤال هنا: "ما هي الفائدة من تذكُّر الماضي، وما هي النتائج الإيجابية التي ستجنيها من الانتقام من ذاك الحبيب الذي تصرَّف وفقاً لما يمليه عليه ضميره وأخلاقه؟

ما أريده منك هو حصر الأمور التي تهدر فيها طاقتك، ومن ثم تقييمها بصدق وأمانة، تُعدُّ هذه الخطوة الأولى في إتقان فن التغافل، ومن المؤكد أنَّك تتساءل عن مدى إمكانية تعميم التغافل على كل نواحي الحياة، أم أنَّه يقتصر تطبيقه على نواحٍ معيَّنة في الحياة؟

إقرأ أيضاً: 8 طرق بسيطة للاستمتاع في الحياة

متى يكون تغافلك حكمة؟

1. الطلاق:

إن كنتَ على علاقة زواج مع إنسانة ما، واتَّخذتُما بعد فترة معيَّنة قرار الانفصال عن بعضكما بعضاً، فهل أستطيع أن أعرف لماذا لا تزال تراقبها، وتسأل عن أخبارها، وتسعد في حال سماعك أخباراً غير سارة عنها؟ من جهة أخرى، لماذا تواظبين على الدعاء القاسي على طليقك والكلام السلبي عنه في حضرة الناس؟ ألم تنفصلي عنه؟ إذاً لماذا تشوِّهين سمعته؟

يغرق معظم البشر في بحر من المشاعر السلبية والرغبات العدوانية، في حال الانفصال عن شريك الحياة، في حين أنَّه من الحكمة التغافل في هذه الحالة، وتجاوز الأمر تماماً، والبدء من جديد. الطلاق فرصة لكي تكتشف ذاتك من جديد، وتقرر الأمور التي تناسبك تماماً، وتنطلق في الحياة بروح مفعمة بالطاقة والنية السليمة للآخرين، فلا تحصر نفسك في دوامة الانتقام والمشاعر السلبية القاتلة؛ بل ركِّز طاقتك على ذاتك، وتطويرها، بدلاً من تركيزها على النميمة ومراقبة الآخَر.

2. النقد غير البناء:

يميل بعض الناس إلى انتقادك بطريقة غير منطقية، وهجومية، وبدون وجود دلائل ملموسة، بحيث تشعر أنَّ الهدف من النقد هو تحطيمك لا غير، على سبيل المثال: "قد ينتقدك شخص ما على رغبتك في بناء مسار مهني خاص بك، فيقلل من قيمة أفكارك وطموحك، ويُظهِر لك عدم كفاءتك لفعل الأمر الذي خطَّطتَ له"، عندما تشعر أنَّ النقد لا يضيف إلى حصيلتك النفسية والمعنوية شيئاً إيجابياً، ولا يطورك ويدفع بك إلى الأمام؛ فهنا عليك أن تتجاهل وتتغافل عنه، فليس من الحكمة الدخول بجدال عقيم مع شخص يحترف أذية الآخرين والنيل من طموحاتهم.

شاهد بالفديو: كيف تتقبل النقد وتتعامل مع الانتقادات السلبية في العمل؟

3. الخطأ غير المقصود:

قد تقوم زوجتك بأخطاء صغيرة غير مقصودة معك، كأن تتذمر وتنفعل وتُغيِّر لهجتها معك من جراء انقطاع الماء عن المنزل، وبالرغم من أنَّه لا صلة لك بالموضوع، إلَّا أنَّ عليك تجاهل انفعالها واحتوائها بالقدر الكافي، فهي في حالة من التوتر العالي ولا يجوز التدقيق على كلماتها وألفاظها، ومن جهة أخرى، لا تتوقع من صغيرك أن يضبط تصرفاته تماماً، فعليك أن تتغافل عن كثيرٍ من الأمور التي سيقوم بها، كإحداث ضجةٍ كبيرةٍ في أثناء لعبه، أو افتعال المشكلات مع أخيه. كذلك لا يتحتَّمُ عليكِ الوقوف على كل كلمة يقولها زوجك، ففي حال عودته متعباً من العمل؛ تجاهلي عصبيته الواضحة وردوده الجافة.

4. الطبع:

نقضي حياتنا في محاولة تغيير الآخرين، وتبوء محاولاتنا بالفشل في أغلب الأوقات، فلا يتغير أحد على سطح الأرض إلَّا إذا امتلك النية الحقيقية للتغيير، لذلك قدِّم النصيحة لمن يستحقها ويستطيع العمل عليها، وتجاهل من لا ينوي التغيير مطلقاً، على سبيل المثال: إن يئستَ من تكرار النصائح نفسها إلى صديقك الذي لا يحترم المواعيد مطلقاً، فعندها عليك أن تتجاهل تصرفه وتتقبَّل طبعه في التأخُّر عن المواعيد.

يؤدي أسلوب النصيحة إلى نشوء شَرخٍ بينك وبين الطرف الآخر في بعض الحالات، لذلك عليك بنفسك؛ فقم بالأمور التي يمليها عليك ضميرك وقيمك وتغافل عن الآخرين. ينفع هذا الأسلوب في الحقيقة مع الأشخاص غير المقربين منك، ولكن في حال كان الشخص مقرباً منك كثيراً؛ فعندها تجاهل الأمور الثانوية، وتكلَّم في الأمور الجوهرية التي قد يؤدي التجاهل عنها إلى إصابتك بالأمراض النفسية والمشاعر السلبية القاتلة.

5. الغضب:

لا تُضخِّم الأمور التي تَحدث في حياتك؛ بل كن مرناً وتغافل عن بعضها، على سبيل المثال: في حال غَضِبَ مديرك منك على أمر ما، واستخدم لهجة قاسية معك إلى حد ما؛ فلا تُكَبِّر الأمر ولا تعِش جو الدراما مقرراً الانتقام منه؛ بل تغافل وانسَ الموضوع، فلطالما يَحدث هكذا مواقف في العمل، واستوعب غضب الآخرين، ولا تُحوِّل الأمر إلى كارثة، ولكن في حال تكرار الأمر بطريقة مؤذية؛ فعليك هنا بالتأكيد وضع حدٍّ لتمادي الآخر.

إقرأ أيضاً: ماهي المشاكل التي يسببها الغضب؟ وماهي طرق التخلص منه؟

كيف تتقن فن التغافل؟

1. التَّقبُّل:

تَقبَّل واقعك، واختلاف الناس عنك، ووجود سَويَّات مختلفة من الوعي والأخلاق والقيم بين جميع الناس. يمنحك التقبل إمكانية أكبر لِتوقع ردَّات فعل الآخرين، وقدرةً أكبر على بناء علاقات ناجحة، وميزة أفضل للوصول إلى التغافل النافع، ومن جهة أخرى، إن واظبت على تبنِّي عادات الشكوى والتذمر القاتلتَين، وفي هدر طاقتك على مراقبة التفاصيل الصغيرة التي يقوم بها النَّاس، مع عدم الرضا عن حياتك وواقعك؛ فستُصاب بمشاعر سلبية قاسية ورغبة في الابتعاد عن الناس والبقاء وحيداً.

2. التسامح:

فعِّل خاصية التسامح والقلب الرحيم لديك، فلا فائدة من مشاعر الانتقام والسخط والتذمر من الآخرين، وسامِح مَن أساء إليك، وتجاوز الأمر وابدأ من جديد، لا تقِف عند نقطة معيَّنة سلبية في حياتك؛ بل استفِد منها واقلب صفحتها.

3. استثمار الحياة:

الحياة قصيرة جداً، لذلك لا تعِشها مع التفكير المفرط، والتدقيق المبالغ فيه، ومشاعر السخط، والتذمر، والشكوى، وتذكَّر أنَّك من الممكن أن تموت في أيَّة لحظة، لذلك عليك استثمار طاقتك في الأماكن التي تقدِّم قيمة مضافة لك ولمجتمعك، متغافلاً عن كثيرٍ من الأمور التي يؤدي إثارتها إلى إحداث المشكلات والمشاحنات، ومتسامياً عن الرد على كثيرٍ من الأفراد صِعاب المراس بهدف تحقيق هدف أعلى يخدم الجميع.

4. مفهوم التميز:

لا تجعل رغبتك الملحة في التميز تأسرك، وتحوِّلك إلى إنسان رافض تماماً لواقعه، وغير راضٍ عمَّا يحيط به من أشخاص؛ بل اسعَ إلى الأفضل دوماً ولكن ابنِ قصتك الخاصة، فكل شخص مميز وفقاً لإمكانياته وللمكان الذي يجد نفسه فيه. كن مرناً ولا تسعَ إلى الكمال وتغافل عن الأمور التي لا تستطيع تغييرها في الحياة، وركِّز طاقتك على الأمور التي تقع ضمن دائرة تأثيرك فقط.

5. مفهوم السعادة:

السعادة هي قدرتك على تقبُّل المعاناة والأشياء السلبية في الحياة، ومن ثمَّ العمل على تفعيل نقاط قوَّتك واستثمارها بما يحقق المنفعة لك ولغيرك، فالمعاناة لا بُدَّ منها في الحياة، ومن الحكمة التعاطي معها بالتقبل والتغافل النافع، فعندما تتجاهل المعاناة وتركز على ما أنت قادر على تقديمه؛ ستصل حتماً إلى السعادة.

6. الوعي:

كلما ازداد وعيك؛ ازداد تغافلك، استثمر في ذاتك؛ فهو أعظم استثمار على وجه الأرض، ويترفع الشخص الواعي عن المشكلات ويتسامى عن الحديث في الأمور الصغيرة، ويضع النية السليمة نُصب عينيه دوماً، ويتسامح مع الآخرين، ويركز ويأخذ موقفاً حازماً في الأمور التي تستحق ذلك.

إقرأ أيضاً: كيف ترفع من قيمة ذاتك وتثق بنفسك أكثر

الخلاصة:

تغافل لكي تتجاوز نصف مشكلات الحياة، وتغافل عن الأمور التي ليس بمقدورك تغييرها، وركز طاقتك وجهدك في الأمور التي تصب في تحقيق منفعة لك ولغيرك، وتذكًَر أنَّ الحياة قصيرة، فلا تقضِها في التدقيق والتمحيص على صغائر الأمور.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5، 6




مقالات مرتبطة