حيث تُعد المثالية أو البحث عن الكمال، واحدة من أهم التحديات التي تُواجه العديد من الأشخاص، والتي تجلب لصاحبها الإرهاق والتعاسة والعُقد والمشكلات، وكثيراً ما تُعيقه عن تحقيق ما يُريد.
فالسعي نحو الكمال لا يُحقق السعادة المتوقعة منه؛ بل ينتج عنه اضطربات نفسية كالاكتئاب، والقلق، وتدنِّي تقدير الذات؛ وذلك لأنَّ مَن يسعى إلى الكمال لن يشعر بالرضا مهما حقق من إنجازات، وقد ينتهي به المطاف إلى اللامبالاة والكف عن العمل لاعتقاده أنَّه مهما فعل فلن يصل إلى الكمال، فالوصول إلى حالة الكمال أمراً مستحيلاً في الحياة.
ما هي المثالية أو الكمالية، وما هي أسبابها؟
هي حالة ذهنية تتملك الإنسان وتدفعه لتحقيق الكمال في كل شيء، الأمر الذي يصل به إلى حد الهوس بالقيام بالمهام على أكمل وجه، وأحياناً أكثر من المطلوب، ولو كان ذلك على حساب نفسه وتحميلها فوق طاقتها.
والمثالية في علم النفس سمة شخصية واسعة تظهر بوضوح في رغبة الفرد الشديدة وسعيه الدائم إلى الكمال، والخلو من الأخطاء والعيوب، ويُرافق هذه الرغبة تقييم ونقد دائم للذات، ومخاوف بشأن تقييمات الآخرين.
وهنا يُفرِّق علماء النفس بين محاولة اتباع السلوكات الإيجابية قدر الإمكان من أجل تحقيق النجاح، وبين حالة الهوس بالمثالية والكمال التي يكون مصدرها رغبة الإنسان بالظهور أمام الآخرين بصورة الشخص الكامل، والعمل بدافع الخوف من الفشل والخجل من لوم الآخرين.
أسباب المثالية:
حتى اليوم لا يوجد سبب واضح وراء المثالية، ولم يتمكَّن علماء النفس من تحديد سبب ظهور هذا الاضطراب لدى شخص معين، ولكنَّهم أجمعوا على فكرة أنَّ المثالية أو الكمالية سلوك مكتسب؛ حيث يعتقد المثاليون أنَّهم يستمدون قيمتهم من الأفعال التي يُنجزونها، ومن خلال نظرة "الانبهار" التي ينظرها الآخرون إليهم، أو من كلمات الثناء والمديح التي تُوجَّه لهم، فهذه هي بداية الوقوع في مصيدة اضطراب المثالية.
ما هي سمات الشخصية المثالية؟
تُعرف هذه الحالة في الطب النفسي بـ "اضطراب الشخصية المثالية"، وهي الشخصية التي تبحث عن الكمال والدقة في كل شيء؛ في التصرفات، والمعاملات، والأكل، والملبس، ومن ثم لا يتمكَّن أصحابها من ممارسة حياتهم بطريقة بسيطة، ودائماً ما يشعرون بالذنب والتقصير وعدم الرضا، ومن أهم سماتها:
1. يفتقد الشخص المثالي أو الباحث عن الكمال، إلى الشعور بالنجاح والإنجاز، ولا يشعر بالرضا مهما كانت النتائج جيدة.
2. الفشل هو الشعور الدائم الذي يُسيطر على الشخص المثالي، دائماً ما يرى أي عمل أنجزه ناقصاً وليس كاملاً.
3. يُعاني الشخص المثالي من مشكلة التفكير الدائم؛ إذ لا يتوقف دماغه عن التفكير أبداً، ويجد صعوبة في الراحة أو الاسترخاء، أو في مشاركة أفكاره مع الآخرين.
4. مبدأ الكل أو لا شيء في التفكير:
يضع المثاليون أهدافاً كبيرة، ويعملون بجد على تحقيقها، وهذا أمر جيدٌ، ولكن تكمن المشكلة في أنَّهم لا يشعرون بالرضا حتى عند تحقيقهم نتائج ممتازة، طالما هم لم يُحققوا تلك الأهداف الكبيرة بحرفيتها، فلن يقبلوا بأقل مما هو مثالي، فبالنسبة إليهم "تحقيق شيء أقل ولو بقليل يُعد فشلاً ذريعاً"، فهم يتَّبعون مبدأ "الكل أو لاشيء" في التفكير، بمعنى إما أن يسير كل شيء كما يريدون وإما فلا.
5. نقد الذات لدرجة جلدها:
الشخص المثالي فنان في نقد ذاته، ففي الوقت الذي يشعر فيه الشخص الطبيعي بالفخر تجاه إنجازاته، نجد أنَّ المثالي ينسى إنجازه ويُركز على الأخطاء والثغرات، وينشغل بمواطن النقص والضعف ولا يرى أي شيء آخر، مما يجعله أكثر إصداراً للأحكام وأكثر قسوة على نفسه وعلى الآخرين.
6. دائم الخوف:
يسعى الشخص الطبيعي نحو أهدافه مدفوعاً بالرغبة والشغف، ويستمتع بكل خطوة يخطوها تجاه هذه الأهداف، بينما دافع الشخص المثالي هو الخوف من عدم تحقق الأهداف، وينظر إلى أي إنجاز أقل من المثالي على أنَّه فشلٌ.
7. أهداف غير واقعية:
يضع الشخص المثالي أهدافاً ومعاييرَ غير واقعية وغير قابلة للتحقيق، الأمر الذي يُرهقه، ويجعله يصطدم بالواقع فيُصاب بالإحباط والشعور بالفشل.
8. التركيز على النتائج:
يستمتع الأشخاص الطبيعيون بالطريق نحو أهدافهم، أكثر من استمتاعهم بتحقيق الهدف نفسه أحياناً، أما الأشخاص المثاليون فهم يرون النتيجة النهائية ولا شيء غيرها، ولا يجعلهم انشغالهم بالهدف والخوف من الفشل يستمتعون بالرحلة نحو القمة.
9. الاكتئاب عند الفشل:
الشخص المثالي هو دوماً أقل سعادة من غيره، فالشخص الطبيعي يتقبَّل الفشل، ويقف مجدداً على أقدامه بعده، في حين يغرق الشخص المثالي في بحر من الأحزان وجلد الذات، عندما تفشل أهدافه والتي غالباً ما تكون غير واقعية.
10. الكسل والتأجيل:
قد تبدو هذه السمة غريبة ومُستهجنة عن الشخص المثالي، فكيف يُمكن للشخص المثالي أن يتكاسل عن أداء أعماله؟ لكن في الحقيقة إنَّ هذه السمة موجودة بالشخص المثالي، وسببها خارج عن إرادته وهو خوفه الشديد من الفشل، فهو يعيش حالة قلق مستمرة تجاه القيام بشيء ما، دون أن يكون مثالياً، الأمر الذي يشل قدرته تماماً ويحول دون قيامه بأي شيء، فالخوف من الفشل أو عدم الإنجاز المثالي يُغرقه في الكسل والتأجيل.
شاهد بالفيديو: كيف تتخلص من المماطلة والتأجيل؟
11. تدنِّي تقدير الذات:
يشعر الشخص الطبيعي بالرضا عن إنجازاته، حتى لو لم تكن مثالية، في حين يُطالب الشخص المثالي نفسه دوماً بالكمال، وكما قلنا سابقاً إنَّه يرى أي إنجاز أقل من المثالي فشلاً ذريعاً، لذلك هو دائماً غير راضٍ عن النتائج التي يُحققها، وتقديره لذاته متدنٍ.
12. الاهتمام برأي الآخرين به:
يهتم الشخص المهووس بالمثالية، برأي الآخرين به، ويحب أن يمدحوه على الدوام، ويشعر بالقلق والرهبة إذا لم يحصل على المديح الذي يرغبه.
13. دقيق بشكل مُفرط:
يقوم الشخص المهووس بالكمال والمثالية بإنجاز أعماله بدقة مبالغ فيها، لدرجة تجعله غالباً ما يستهلك ضعف الوقت الذي يحتاجه العمل، حتى أنَّه يصل بوقت مبكر جداً قبل موعده، لكيلا يتعدى كونه دقيقاً في مواعيده.
14. صعوبة اتخاذ القرارات:
يجد الشخص الذي يسعى للكمال، صعوبة بالغة في اتخاذ القرارات؛ وذلك لأنَّه يستغرق أياماً وليالٍ لدراسة الأمر من كافة الجوانب، وذلك لخوفه المَرضي من وقوع أي خطأ أو ثغرة صغيرة.
ما هو علاج هوس السعي إلى المثالية؟
يرى الباحثون أنَّ المثالية سلوك مُكتسب، يُمكن علاجه باتباع النصائح التالية:
1. الاعتراف بوجود المشكلة:
الاعتراف بوجود المشكلة هو نصف الحل؛ لذا ليتخلص الإنسان من مشكلة الهوس بالكمال، عليه بدايةً أن يعترف بوجودها، وأن ينظر إلى المشكلة على أنَّها تصرف غير مرغوب يودُّ تغييره، وليست طبع أو سمة شخصية؛ وذلك لأنَّ تغيير التصرفات أسهل بكثير من تغيير الطبائع، ويجب عليه أيضاً تحديد المواقف التي يشعر خلالها أنَّ هوسه بالكمال يتجلى فيها، أكثر من أي وقت آخر.
2. التساؤل "ما الذي يُغذي هذا الهوس بالكمال؟":
يجب أن يسأل الإنسان المصاب بالهوس بالكمال نفسه: "ما الذي يُغذي هذا الهوس بالكمال؟ هل هو الشعور بالخوف من شيء معين؟ أم الرغبة في المجد والتباهي؟ أم الشعور بانعدام الاستقرار وقلة الثقة بالنفس؟"، فيفهم حينها السبب الحقيقي الذي يجعله مهووساً إلى هذا الحد بأن يكون كل شيء مثالياً، وعندها يستطيع مواجهة سبب المشكلة ومعالجتها.
3. مواجهة الاحتمال الأسوأ:
يُحاول الإنسان من خلال هوسه بالكمال ضمان عدم الفشل، لكن هذه الطريقة ليست الأفضل لتحفيز التفكير الإبداعي؛ لذا على الإنسان أن يتخيل أسوأ ما يُمكن أن يحصل له في موقف أو مجال معين، عندها سيكتشف أنَّ الأمر ليس كارثياً، وأنَّه سيكون قادراً بشكل أو بآخر؛ على القيام بشيء ما لإنقاذ الموقف.
4. تحديد معايير العمل قبل البدء به:
على الإنسان قبل أن يبدأ بعملٍ ما، وقبل أن يغرق في دوامة السعي إلى الكمال، أن يحدد لنفسه المعايير التي سيعتمد عليها في عمله ذلك، فليس من الضروري أن يكون كل شيء مثالياً، أو ذا جودة عالية للغاية، أحياناً قد تكون المعايير المطلوبة في العمل منخفضة، فلماذا نُرهق أنفسنا بأمور ليست مطلوبة بهذه الدرجة من المثالية.
5. الانتباه للحديث مع النفس:
أن يُراقب الإنسان الكلمات والجمل التي يُحدِّث بها نفسه، وينتبه إن كانت تُغذي شخصيته المثالية أم لا، من الأمثلة على ذلك كلمات من قبيل: "إن كنت سأقوم بهذا الأمر، سأقوم به بشكل صحيح تماماً وإلا فلا"، فيجب عليه على الفور استبدالها بكلمات أخرى، مثل: "سأحاول القيام بالأمر بشكل صحيح قدر الإمكان".
6. وضع مواعيد نهائية للتسليم:
أن يضع الإنسان لنفسه موعداً نهائياً لتسليم العمل أو المطلوب منه؛ فبذلك لن يُتاح له الكثير من الوقت للعودة إليه والاستمرار في التعديل والتغيير سعياً إلى الكمال.
7. معرفة أنَّ الخطأ فرصة للتعلم:
ليتخلص الشخص المثالي من هوسه بالكمال والمثالية، يجب أن يُدرك في قرارة نفسه أنَّ الوقوع في الخطأ ليس نهاية المطاف، على العكس هو أحد خطوات التعلُّم، فلولا الأخطاء لما وجدنا الكثير من الاكتشافات المهمة اليوم، والدليل على ذلك نماذج الأشخاص الناجحين الذين أخفقوا مرات عديدة، وفي النهاية تعلَّموا من أخطائهم ووصلوا إلى القمة.
8. وضع أهداف واقعية قابلة للتنفيذ، وتقسيم المهام الكبيرة إلى خطوات صغيرة، للشعور بالإنجازات البسيطة أولاً.
9. التحلي بالمرونة في موضوع تحقيق الأحلام، أي عدم التمسك بها حرفياً طوال الوقت.
10. التفاني في العمل أمر جيد، لكن يجب تذكُّر أنَّ هناك أموراً أخرى في الحياة تستحق الاهتمام ومنحها وقتها أيضاً؛ كالعائلة والصحة الجسدية والنفسية.
11. التحرر من فكرة أنَّ الخطأ أمر غير مسموح، فالخطأ وارد في الحياة، وهو أمر طبيعي.
12. إدراك أنَّ هناك شيئاً يُسمى (جيد بما فيه الكفاية)، والتوقف عن البحث عن الكمال فيما نقوم، وأن نبحث فقط عن المستوى الجيد في الأشياء.
13. تدريب النفس على فكرة تقبُّل الأمور وإن لم تكن مثالية، وأنَّ الأشياء لا تسير كما هو مخطط لها دائماً، وفي أحيان كثيرة علينا قبول الواقع كما هو.
14. للتخلص من المثالية، يجب أن يُقارن الإنسان نفسه بنفسه، ويبتعد عن مقارنة نفسه بالآخرين، التي تؤدي إلى الشعور بالفشل وعدم الرضا عن النفس.
15. تقليل العلاقات مع الأشخاص الباحثين عن الكمال بعصبية وتشدُّد، وإحاطة أنفسنا بالشخصيات المرنة التي تُحاول تحسين نفسها بطريقة إيجابية وصحية.
في الختام، اكتفِ بالممتاز بدلاً من المثالي:
من الجميل أن يسعى الإنسان للتطور والتحسين المستمر، ولكن ليس من الحكمة أن يُغرق نفسه في السعي إلى الكمال لدرجة يتوقف فيها عن التقدم إلى الأمام، فأن تكون شخصاً مثالياً مهووساً بالكمال، ساعياً على الدوام إلى تحقيق أهدافٍ غير واقعية، أمراً ليس صحياً؛ وذلك لأنَّك ستدخل في حلقة مُفرغة من الخوف والقلق وانعدام الرضا، وينتهي بك المطاف بالفشل حُكماً.
لذا فقد حان الوقت للتخلص من هذا الهوس المَرضي، وتعلُّم الاكتفاء بالـ "ممتاز" بدلاً من "المثالي"، فإن كنت قد بذلت أقصى جهدك لإنجاز أمر ما، فهذا يكفي لتشعر بالرضا عن نفسك.
أضف تعليقاً