يصعب على الأطفال المصابين بالقلق القيام بالنشاطات التي تبدو طبيعية، ويواجهون صعوبة في التكيف في المدرسة وتكوين الصداقات والتعلم، وهم معرضون أيضاً لأن يشعروا بالإحباط، وأن يتجنبوا التحديات عن طريق الهروب أو الانكفاء على أنفسهم، وبينما قد يشعر الآباء بحاجة ملحة لمساعدة أطفالهم، فإنَّ نهجهم يمكن أن يأتي بنتائج عكسية، على سبيل المثال، قد تؤدي محاولة دفع الأطفال إلى كبت مشاعرهم أو إبعادهم عن المواقف المسببة للقلق دون قصد إلى تفاقم قلقهم.
طوَّر الأطباء أساليب علاجية قائمة على العلم لمساعدة الأطفال القلقين؛ مثل العلاج السلوكي المعرفي للتخفيف من الأعراض، لكن يمكن أن تكون هذه العلاجات مرهقة ومكلفة، وقد لا تكون مضمونة؛ إذ يمكن أن ينذر القلق عند الأطفال في سن ما قبل المدرسة بحدوث اضطرابات في المستقبل، مثل القلق الاجتماعي أو الرهاب أو اضطراب الوسواس القهري، ولكن لا نعرف الكثير عن كيفية التخلص من القلق في بداياته في سن مبكرة جداً؛ حيث قد لا يكون لدى الأطفال حتى القدرة المعرفية للاستفادة من العلاج.
ماذا لو أمكن إعطاء الأطفال الصغار لقاحاً ضد القلق بطريقة أو بأخرى، لحمايتهم مستقبلاً من القلق والإحباط؟ يشير بحث جديد أجرته كيت فيتزجيرالد (Kate Fitzgerald)، أستاذة الطب النفسي والتوليد في جامعة ميشيغان (University of Michigan)، إلى أنَّ هذا قد يكون ممكناً.
كانت فيتزجيرالد تدرِّس الأطفال الصغار الذين يعانون من أعراض القلق، وتقوم باكتشافات مهمة حول العلامات في الدماغ التي تشير لوجود قلق الطفولة، وبناءً على هذا العمل، أنشأت هي وفريقها برنامجاً تدريبياً للأطفال الصغار، يهدف إلى زيادة قدراتهم المعرفية، والمساعدة على تقليل قلقهم، سواء على الفور أم في المستقبل.
تقول فيتزجيرالد: "نأمل أن يُظهر عملنا أنَّ قلق الأطفال ليس قدراً حتمياً، ولكن يمكن منعه إن تدخَّلنا في الوقت المناسب؛ حيث يبدو الأمر واعداً حتى الآن".
شاهد بالفيديو: أهم النصائح لحماية الطفل من المشاكل النفسية
القلق من وجهة نظر علم الأعصاب:
عندما نواجه مواقف صعبة أو مخيفة في الحياة، تعمل أدمغتنا فطرياً؛ حيث ترسل اللوزة الدماغية مواد كيميائية عصبية، مثل الأدرينالين؛ وذلك لجعل القلب ينبض ولإثارة استجابة الكر أو الفر في حالة الخطر، وفي الوقت نفسه، يحثُّ الفص الجبهي إدراكنا لتقييم الموقف، والاستفادة من التجارب السابقة، وحل المشكلات للتوصل إلى استجابة مناسبة، وتعمل هذه الأنظمة لدى الأشخاص الأصحاء جنباً إلى جنب، اعتماداً على ما هو مطلوب.
وفي هذا السياق، يمكن أن يحمل القليل من القلق جانباً إيجابياً، على سبيل المثال عندما يحفزنا على التدريب بجد؛ لإتقان مقطوعة موسيقية أو الدراسة للنجاح في الاختبار، ولكن، في حالة الأشخاص القلقين، فإنَّ الضغط يُثقل كاهلهم طوال الوقت، مما يجعلهم يرغبون في الهروب من التحدي، ويمكن أن يكون الأمر منهكاً ومرهقاً أيضاً؛ حيث يتعين عليهم في كثير من الأحيان بذل الجهد في التحكم لتجاوز الأمر؛ حيث إنَّ مواجهة المواقف العصيبة مع تهدئة استجابة الخوف تلك، هي مفتاح التغلب على القلق، لدى البالغين والأطفال على حد سواء.
أما في حالة الأطفال الصغار، فتكتشف فيتزجيرالد وفريقها أنَّ الدماغ قد يستجيب استجابة مختلفة قليلاً، فعلى سبيل المثال، يكون لدى الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 4 و7 سنوات استجابة مفاجئة أعلى من المعتاد في "المواقف المحايدة" - حيث لا يكون هناك أي تهديد - ولكن لديهم استجابة طبيعية مفاجئة في المواقف المخيفة، وهذا يشير إلى أنَّ لديهم المزيد من الأمور التي عليهم التغلب عليها عند مواجهة التحديات اليومية، مثل الذهاب إلى المدرسة أو مقابلة أشخاص جدد.
اكتشف فريقها أيضاً أنَّ جزءاً من الدماغ يستجيب عندما يرتكب الناس خطأً ما، فالاستجابة السلبية للأخطاء (ERN)، تكون أضعف لدى الأطفال القلقين الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و7 سنوات، مقارنة بالأطفال الأكبر سناً والبالغين المصابين بالقلق؛ وهذا على الأرجح لأنَّ الأطفال الصغار ليس لديهم قدرات معرفية متطورة يمكن أن تساعدهم على فهم الأخطاء عندما تحدث، ولكنَّ الأمر لا يدعو إلى القلق، ويمكن معالجته في كثير من الأحيان، تقول فيتزجيرالد إنَّه من دون مزيد من التحكم المعرفي، فإنَّ استجابتهم المفاجئة تسيطر عليهم، مما يجعلهم قلقين.
من المرجح أيضاً أن يصاب الطفل ذو التحكم المعرفي المنخفض بالقلق في وقت لاحق من الطفولة، في حين أنَّ الطفل الذي يتمتع بقدرة أعلى على ذلك، سيكون أكثر مقاومة للتوتر، ويمكن أن يؤدي رفع مستوى التحكم المعرفي إلى علاج القلق لدى الأطفال الصغار، ومن المحتمل أن يمنعه من أن يسوء مع مرور الوقت.
تقول فيتزجيرالد: "إذا تمكنا من مساعدة الأطفال على اكتساب بعض السيطرة المعرفية عندما يكونون قلقين، فقد يُحدث ذلك فارقاً في كيفية تعاملهم مع المواقف العصيبة، فنحن فقط بحاجة إلى تمكينهم من ذلك".
التخفيف من القلق:
أجرت فيتزجيرالد وزملاؤها دراسة تجريبية على أطفال مصابين بالقلق تتراوح أعمارهم بين 4 و7 سنوات لاختبار هذه الفكرة؛ حيث جاء الأطفال إلى "مخيم" صممه الباحثون لمدة أربع جلسات، مدة كل منها نصف يوم على مدار أسبوعين، وفي المخيم، لعب الأطفال ألعاباً ممتعة طفولية عادية، مثل لعبة "قال المعلم" ولعبة "واحد اثنان ثلاثة: تجمَّد"، والتي تساعد على تعزيز التحكم المعرفي.
رفع الاستشاريون في المخيم تدريجياً من التحدي في الألعاب لمساعدة الأطفال على إتقان المهارات اللازمة للقيام بعمل جيد، مثل المرونة واستخدام ذاكرتهم العاملة وتثبيط الاستجابات غير المرغوب فيها - مثل التحرك عندما يكون من المفترض أن يتجمدوا - لقد استمتعوا أيضاً بصحبة الأطفال الآخرين، الذين تبادلوا معهم طرائق لتحسين أدائهم، وشارك الآباء في نهاية كل جلسة، وتعلموا الألعاب من أطفالهم، حتى يتمكنوا من اللعب معاً في المنزل.
لمعرفة تأثير هذا التدريب على أدمغة الأطفال وسلوكهم، قامت فيتزجيرالد وزملاؤها بقياس استجاباتهم المفاجئة قبل أن يأتوا إلى المخيم، وبعد أربعة إلى ستة أسابيع من انتهاء التدريب؛ للقيام بذلك، كان الأطفال يلعبون ألعاب فيديو تتطلب تحكماً إدراكياً، بينما راقبوا ردود أفعالهم المفاجئة واستجابتهم للأخطاء، بالإضافة إلى ذلك، جمع الباحثون معلومات من الآباء والأطفال أنفسهم حول أعراض القلق قبل الحضور إلى المخيم وبعده.
بعد تحليل البيانات، وجد الفريق أنَّ استجابة الأطفال للأخطاء زادت؛ مما يدل على قدر أكبر من التحكم المعرفي، بينما انخفضت استجاباتهم المفاجئة، وهو نمط مرتبط بقلق أقل في ذلك العمر.
قالت فيتزجيرالد: "إنَّ استجابة الدماغ للأخطاء زادت بالفعل، ولكن زيادة حسنة؛ حيث كان الأطفال يُظهرون تحسناً في القيام بالأشياء الصعبة وإيقاف الاستجابة الغريزية، بما في ذلك استجابة الخوف".
وانعكس هذا في تقييمات الأطفال وآبائهم؛ حيث أبلغوا عن ظهور أعراض قلق أقل - بما في ذلك الخوف وتجنُّب المواقف الصعبة - بعد التدريب، وهو أمر وجدته فيتزجيرالد مفيداً بشكل خاص؛ حيث تقول: "من المهم ربط الدماغ بالسلوك، ولكنَّ الأمر الأكثر روعة هو الأطفال الذين شاركوا في البرنامج، وغادروا بأعراض قلق أقل".
على سبيل المثال، قالت إحدى الأمهات أنَّ ابنتها، التي كانت تعاني من أعراض اضطراب الوسواس القهري قبل الحضور إلى المخيم، قد حققت تحسناً ملحوظاً، حتى خلال فترة التدريب.
تذكر فيتزجيرالد طفلاً آخر في المخيم يبلغ من العمر خمس سنوات، كان خائفاً جداً من ارتكاب أخطاء في صفوف رياض الأطفال؛ مما أدى إلى نوبات من البكاء وغيرها من السلوكات التخريبية، مما دفع المدرسين إلى الاتصال يومياً بوالديه، لكن بعد حضور المخيم وتعلُّم كيفية تهدئة القلق، تغيَّر كل شيء.
تقول فيتزجيرالد: "بعد أسبوع من ممارسة تلك الألعاب التي كانت جزءاً من العلاج، لم يعُد أحد يتصل من روضة الأطفال إلى المنزل، وتأثرت والدته بذلك كثيراً، فبعد الحضور إلى المخيم، نجح في التكيف مع روضة الأطفال وبدأ بالاستمتاع بها ".
بعد النتائج المشجعة لهذه الدراسة التجريبية، تقدَّمت فيتزجيرالد بطلب وحصلت على منحة من معاهد الصحة الوطنية الأمريكية (National Institutes of Health) بقيمة 3 ملايين دولار لتوسيع برنامجها وإجراء مزيد من الأبحاث، وتأمل أن تساعدها الدراسات المستقبلية في تحديد المكون الرئيس في البرنامج الذي أدى إلى تخفيف القلق، وربما إيجاد طريقة لتخصيص العلاج للأطفال الفرديين، وقد يحتاج بعضهم إلى جرعة أقوى من التدريب أو نشاطات مختلفة قليلاً من أجل التحسن.
إذا كانت النتائج الأولية التي توصلت إليها صحيحة، فقد يكون لعملها آثار واسعة؛ حيث يوفر أنموذجاً يمكن للآخرين اتباعه لعلاج اضطرابات قلق الأطفال والوقاية منها في المستقبل.
أضف تعليقاً