ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن المدونة "آشلي أبرامسون" (Ashley Abramson)، والذي تحدِّثنا فيه عن تجربتها الشخصية في التغلُّب على الضغوطات.
نظرت إليَّ الطبيبة بابتسامةٍ تعلو وجهها، واستأنفت قائلة: "حسناً، ليس عليكِ أن تكوني وحيدةً، يتطلَّب منك الأمر فقط التعرُّفَ إلى الشخص الذي يجلس بجانبك". يا لدهشتي! بالفعل لقد نجح الأمر؛ والآن، أنا وجاين -تلك المرأة الجميلة في منتصف العمر- أصدقاءٌ منذ ذلك الحين. لقد أنقذتني من مخاوفي وجعلتني أشعر بالارتياح والهدوء طوال مدَّة الرحلة.
وبعد عقدٍ من الزمن، وجدت نفسي أستخدم الاستراتيجية نفسها للتغلُّب على مخاوفي وشعوري بالوحدة في أثناء الحجر الصحي الذي فرضته جائحة الكورونا، حتَّى ولو جرى ذلك عن بعدٍ ومن خلف الشاشات؛ فعندما أشعر بالقلق الشديد، ألجأ إلى التواصل مع أفراد عائلتي لأستعيد شعوري بالطمأنينة، وبأنَّني لست وحيدةً في هذا العالم المخيف. لذا، أحاول إجراء المكالمات مع عائلتي ولو لمرةٍ واحدةٍ على الأقل في الأسبوع، كما أتحدَّث مع جيراني في أثناء تنسيقيَ الأزهارَ في حديقة منزلي؛ وبعد بذل القليل من المحاولات للتواصل، تمكَّنت من اللقاء بصديقة الطفولة التي رافقتني في أيام الروضة، وكلٌّ ذلك بفضل وسائل التواصل الاجتماعي.
بالنسبة إليّ، هذه الروابط ليست مجرد طرائق ممتعةٍ لتمضية وقتٍ بطيء الحركة في أثناء الحجر الصحي، بل إنَّها تبدو كطريقةٍ أساسيةٍ للتعامل مع القلق، ومفاتيحَ للراحة والشعور بالعافية.
معظم الناس على درايةٍ باستجابة الجسم التي تدعى استجابة "الكر أو الفر"، ففي أوقات التوتر الشديد، يحفِّزك الجهاز العصبي إمَّا على القتال الجسدي أو الهروب من التهديد. لطالما خدمت هذه الغريزة أسلافنا عند تعرُّضهم إلى هجومٍ من حيوان مفترسٍ وجائع؛ لكنَّ الضغوطات المعاصرة، والتي عادةً ما تكون اجتماعيةً أو عاطفية، لا تستدعي دائماً صراعاً أو هروباً.
في عام 2000، ناقشت مجموعةٌ من علماء النفس بحثاً مشهوراً يدور حول أنَّ هناك بديلاً سلوكياً "للكرِّ أو الفر" وهو: اهتمَّ وكن صديقاً (Tend-befriend).
ينطوي الودُّ والاهتمام عادةً على المبادرة بأفعال، وتقديم الرعاية، ومساعدة شخصٍ ما للتغلُّب على الضغوط من الناحية الفسيولوجية؛ بينما تتعلَّق الصداقة ببناء شبكاتٍ اجتماعيةً تعزِّز الشعور بالأمان.
وفقاً للباحثين، فإنَّ استجابة "اهتمَّ وكن صديقاً" تميل إلى كونها تختصُّ بالإناث بشكلٍ كبير، ويرتبط هذا إلى حدٍّ ما بالتكوين الفسيولوجي للإناث والذكور. يشرح "ريجان آي آر غورونغ" (Regan A.R.GURUNG) -أستاذ علم النفس في جامعة ولاية أوريغون- أنَّ المرأة تستجيب للتوتر والإجهاد على نحوٍ يختلف عن استجابة الرجال له، حيث أنَّها تقلِّل الإجهادَ عن طريق تشاطر التصوُّرات والمشاعر والاستراتيجيات، وهذا ما يسمَّى باستجابة: "اهتم وكن صديقاً"، والتي يعزِّزها الإستروجين. تدعم هذه الاستجابة الهرمونية الحوار والتعاون والحل السلمي للنزاعات، لذا تسمى النساء بـ "الجنس المتعاطف"؛ في حين يتناقض هذا مع استجابة الأدرينالين والتستوستيرون الفسيولوجية "الكر أو الفر" لدى الرجال.
ولكن في حين أنَّ عامل الاستجابة "اهتمَّ وكن صديقاً" قد يكون أكثرَ شيوعاً عند النساء، يشير غورونغ إلى أنَّه يمكن لأيِّ شخصٍ الاستفادة منه كوسيلةٍ للتعامل، وقد يكون مفيداً جداً، وخاصَّةً في وقتنا الحالي.
في الوقت الذي يعاني معظمنا فيه من العزلة والتهديد بسبب فيروس كورونا، نجد أنَّ استجابة الكر أو الفر غير مجدية، ولا تنفع في هذه الأوضاع.
سوف نتعرَّف سويَّاً إلى كيفية تحويل الضغوط نحو استجابةٍ تساعد في خلق التعاطف والدعم لأفراد المجتمع، في حين نستطيع جميعاً تحقيق أعلى استفادة من كليهما.
1. أظهِر المودة لشخصٍ عزيز:
لاحظ الباحثون أنَّ الاحتضان والعناق يحفِّزان استجابةً دماغية تُطلِق هرمون الأوكسيتوسين، والذي يقلِّل من الشعور بالإجهاد والتوتر، ويعزِّز مشاعر التواصل والود؛ لذا إذا كنت تستطيع احتضان شخصٍ ما في منزلك، حتَّى لو كان حيواناً أليفاً، فبادر بذلك؛ لأنَّه سيمنحك إحساساً رائعاً، وشعوراً قويَّاً بالثقة والأمان.
لا ينطبق هذا التأثير الإيجابي على الاحتضان الجسدي أو المادي فحسب، ولكن يتضمَّن أيضاً التعاطف وتقديم المساعدة وإظهار الاهتمام بالآخر، وقد يترجم من خلال العديد من الأفعال، مثل: تحضير الوجبة المفضلة لزميلك في الغرفة بعد قضائه يوماً مُتعباً، أو الاهتمام وإبداء التعاطف مع شريكك الذي يمرُّ بظروفٍ سيئة.
2. قدِّم لفتةً جميلةً حتَّى لو كانت عن بُعد:
تقول "إميلي أنسيل" (Emily Ansell)، الأستاذة المشاركة في الصحة السلوكية الحيوية في بنسلفانيا: "إذا كان نمط معيشتك لا يتيح لك الفرصة لتقديم الاهتمام بشكلٍ شخصي، فقد يكون من المُجدي أيضاً القيامَ بشيءٍ لطيف مع جارٍ أو حتَّى شخصٍ غريب، ولو كان من مسافةٍ بعيدة".
وفي بحثها أيضاً، وجدت أنسيل أنَّه عندما ينخرط الناس في سلوكاتٍ إيجابيةٍ خلال أوقات التوتر، فإنَّ ذلك كفيلٌ بتخفيض وتيرة الإجهاد ومدى تأثيرها في مزاجهم. وتقول أنسيل أنَّ لديها بعض النظريات ووجهات النظر التي تفسِّر فعالية هذا الأسلوب في التعامل: "قد يساعدنا في صرف انتباهنا عن التوتر والضغط الذي نعاني منه، وقد يمنحنا هذا إحساساً بالمعنى الحقيقي لوجودنا. ومن خلال التعامل بطريقةٍ إيجابية مع الآخرين، فنحن ننشِّط ونحفِّز هرمون المحبة (الأوكسيتوسين)، الأمر الذي يمكن أن يقلِّل من مشاعر الخوف والضيق".
وحتى تجني التأثيرات نفسها، تبنَّى هذه الأفعال كعادات، وحاول القيامَ بشيء لطيفٍ لشخصٍ ما كلَّما شعرت أنَّك بحالةٍ نفسية سيئة. في الظروف العادية، قد يعني ذلك شراء فنجان قهوة للشخص الذي يقف خلفك في الطابور؛ أمَّا في أثناء تفشِّي الوباء والحجر الصحي المفروض، فقد تضطر إلى أن تكون أكثر تعقلاً في التعاطي مع الأمر. يمكنك الاتصال بصديقٍ والاستماع إلى مشاكله والشَّدَّ من أزره، أو يمكنك خياطة بعض الأقنعة الطبية لمستشفى أو لعيادةٍ محلية، أو التبرُّع بالمال لمؤسسةٍ خيريةٍ تُقدِّم وجبات الطعام إلى الأشخاص الذين يعانون من الفقر.
تقول أنسيل: "إنَّ الهامَّ هو إيجاد طرائق ملموسةٍ يقدِّم فيها الناس مساعدةً لتخفيف معاناة الآخرين. قد لا نعرف من قد يكون الشخص المستفيد من حسن نوايانا وإخلاصنا في تقديم المساعدة، ولكن يكفينا أنَّ هذه السلوكات لا تزال إيجابيةً وتمنحنا الراحة والسكينة الداخلية".
3. تواصل من أجل الحصول على الدعم:
وفقاً لما تحدَّث عنه "جلين جيهر" (Glenn Geher)، وهو عالم نفسٍ تطوُّريٌّ وأستاذٌ في جامعة ولاية نيويورك (نيو بالتز)، فإنَّ الجزء "كن صديقاً" من عامل استجابة "اهتمَّ وكن صديقاً" ينبع من مُحرِّكٍ سلوكيٍّ لدى المرء للبحث عن الأمان بـ "العدد"؛ وهي الفرضية القائلة بأنَّه من خلال كونه جزءاً من مجموعةٍ يقلِّل احتمال أن يكون الفرد ضحية حادثٍ أو هجومٍ أو أيَّ حدثٍ سيءٍ آخر، ويتعلَّق الأمر بتكوين علاقةٍ ذات قيمةٍ ومبنيةٍ على أسسٍ واضحةٍ مع شخصٍ معين لكي يتمكَّن من التعاون معه على درء التهديدات المحتملة في الحياة، والحدِّ من التعرض للضغوط.
من وجهة نظر علم النفس التطوري، يُلاحظ جيهر أنَّ هذا النوع من الاستجابة هو أكثر شيوعاً عند الإناث اللواتي "عندما يكنَّ تحت الضغط، غالباً ما يحشدن موارد إناث أُخرياتٍ من حولهن".
ولِتجنيَ أقصى استفادةٍ من غريزة الصداقة، يمكنك تركيز طاقتك الناتجة عن الضغط والتوتر في بناء وتقوية شبكةٍ من العلاقات الاجتماعية التي تمنحك الشعور بأنَّك لست وحيداً، وأنَّ هناك في مكانٍ ما آخرون يشاطرونك آلامك وأفراحك.
أدرِج ساعةً في روتينك تقضيها في الحديث مع زملائك في العمل من حينٍ إلى آخر حتَّى ولو كنت مرهقاً، أو في تبادل بعض النكات والنهفات مع أصدقائك، أو اقضِ ساعةً على الهاتف مع شخصٍ مُقرَّبٍ مثل: زميلك في الغرفة أو أحد أفضل أصدقائك من المدرسة.
حتَّى لو لم تَبُح بمشكلاتك أو تُفشي أسرارك العميقة، فسوف تشعر بأنَّ لديك شبكةً من الأشخاص الذين يمكنك الوثوق بهم، فذلك كفيلٌ بتخفيف معاناتك وتقليل الضغط والتوتر، حتَّى إذا كان هذا الضغط هو جائحة فيروس كورونا العالمية الذي لن يزول في وقتٍ قريب.
وكما تعلَّمت من أخصائيتي النفسية خلال تلك السنوات الماضية: هناك راحةٌ نفسية هائلة في معرفة أنَّك لن تُترَك وحيداً في هذا العالم الرحيب لتواجهه بمفردك.
أضف تعليقاً