ونادراً ما كان يمارس الرياضة وكان يقتات على ما يشتريه من المتجر القريب من منزله، كما كان يكره طلب المساعدة، ويؤمِن بقدرته على حل المشكلات من تلقاء نفسه، ويَعُدُّ هذا قوةً عظمى، ويحافظ عليها كمصدر فخر، لكنَّها كانت نقطة ضعفه أيضاً؛ إذ يتمتع المؤسسون ورواد الأعمال بشخصية فريدة تُعَدُّ في كثير من الأحيان الأمر الذي يساعدهم على النجاح في هذا المجال، ولكنَّها ستكون سبب سقوطهم إذا تُرِكَت دون رادع، وستُسرِّع هذه العملية الأزمات.
قبل ستة أشهر من مقابلة "جيك"، سبَّبَت شركته خسارة مجموعة صغيرة من الأشخاص الهامين للكثير من المال، رغم أنَّ هذا لم يكن خطأ "جيك" مباشرة، لكنَّه شعر بالمسؤولية عن ذلك في أعماقه، وانخفضَت معنويات الشركة، وبدأَت الصحافة تتحدث عن الأمر، ولم ينَم "جيك" لشهور.
أصبح قلقه مُنهِكاً لدرجة أنَّه واجه صعوبةً في القيام بالعمل الذي كان يعرف أنَّه بحاجة إلى القيام به لإصلاح الخطأ، وهذا ما جعله أكثر قلقاً، مما زاد المشكلة سوءاً، وبحلول الوقت الذي وصل فيه "جيك" إلى مكتبي، كانت صحته وشركته على وشك الانهيار.
يمكِن أن تدفع الصحة النفسية العمل إلى الأمام أو أن تعوقه:
وضعُ "جيك" ليس فريداً من نوعه، حيث رأيتُ خلال عملي مئات العملاء الذين وجدوا أنفسهم في موقف مماثل، وكانوا بالكاد متماسكين بما فيه الكفاية للتمكُّن من المضي قدماً.
ما لا يدركه معظم المؤسسين هو أنَّ الصحة النفسية هي أقرب إلى ضمان أنَّ سيارتك تحتوي على خزان كامل من البنزين، ويميل العديد من مؤسسي الشركات الناشئة إلى الانتظار لآخر لحظة قبل التوقف والاستراحة وتجديد طاقاتهم، لذلك تكمن المشكلة في أنَّهم إذا اصطدموا بمنعطف أو حاجز غير متوقع، فإنَّهم ينهارون، أو الأسوأ من ذلك قد يلحقون الضرر بأنفسهم بشكل دائم.
نحن نقترب من مرور عامين على تفشِّي جائحة كورونا، وتلوح التداعيات الاقتصادية طويلة الأمد في الأفق، وبصفتي طبيبةً نفسيةً إكلينيكيةً متخصصةً في علاج المؤسسين ورواد الأعمال، فأنا قلقة بشأن رواد الأعمال الذين لم يتلقوا أي نوع من العلاج بَعْد، ولكن من المحتمل أن يفعلوا ذلك، حيث لستُ قلقةً بشأن أعمالهم التجارية فقط؛ بل على كل واحد منا يحتاج إلى استمرار ازدهار الأعمال في هذا الوقت المحفوف بالمخاطر.
تشير الدراسات إلى أنَّ 72% من رواد الأعمال يعانون من مخاوف تتعلق بالصحة النفسية، لكنَّ نسبةً مماثلةً من المؤسسين لا يخضعون للعلاج حالياً، على الرغم من أنَّ شركة كوا (Coa)، قد شهدَت زيادةً بنسبة 900% في الاستفسارات المتعلقة ببرامج الصحة النفسية للموظفين، إلا أنَّه عندما نجري ورش العمل بالفعل، فإنَّ المؤسسين الذين يطلبون حضورنا لا يحضرون عادةً.
يشكل هذا مشكلة؛ لأنَّه في أوقات انعدام اليقين، يمكِن أن تؤدي صراعات الصحة النفسية على مستوى المؤسسين إلى قيادة غير مستقرة، ونقص في شعورهم بالمسؤولية، وانعدام الثقة، فغالباً ما يفشل القادة في إنشاء مكاتب عمل تُشعر الموظفين بالراحة والانتماء والمتعة، وهي خصائص ضرورية لتحقيق المرونة على مستوى الفرد والشركة عندما تواجه الصعوبات، كما أنَّ هذا يتسبب بآثار سلبية على الروح المعنوية والاحتفاظ بالموظفين والتحفيز والأداء والإنتاجية ومخرجات العمل، ويخلق علاقاتٍ سلبية.
كما قال مايكل ديرينج (Michael Dearing) مؤسس شركة هاريسون ميتال (Harrison Metal): "هناك الكثير من المال في مجال التكنولوجيا والكثير من المواهب الكافية، فالعنصر الحقيقي الذي عادةً ما ينفد من المؤسسين هو القدرة على صقل المهارات التي تتطلبها الشركات الناشئة". لكنَّ طريقة "جيك" ليست هي الطريقة الوحيدة لحل الأمور.
شاهد بالفيديو: 6 عادات خاطئة تقضي على صحتك النفسيّة
مشكلة التماسك:
سأخبرك عن عميل آخر يدعى "سام" (Sam)، نشأ "سام" عندما كان طفلاً في عائلة عسكرية شدَّدَت على أهمية العمل الجاد ومواجهة المشكلات وجهاً لوجه، وكان شعارهم الرئيس هو "التعامل مع الأمور"، وكان "سام" يفتخر بقدرته على تجاوز الأوقات الصعبة، وأسس شركة تكنولوجيا نمت بسرعة بعد تخرُّجه، ولكن بعد التعامل مع تجربة صعبة في العمل، دفعه صديقه إلى تجربة العلاج، حيث التقى بي.
بدأ العمل مع "سام" ببطء، حيث كان من الصعب عليه السماح لي بالمساعدة، لكنَّه التزمَ بالعلاج، وبمرور الوقت، بدأ يدرك أنَّ قدرته على التعامل مع الأمور كانت قوةً وعقبةً في الوقت نفسه، ثمَّ بدأ في السماح لنفسه برؤية كيف شعر بالوحدة والارتباك في بعض الأحيان عند التصرف كما لو كان كل شيء على ما يرام عندما لم يكن كذلك، وعندما أصبح أكثر راحةً في الاعتماد عليَّ، تحسَّن أيضاً في الاعتماد على فريقه في العمل.
تحسَّن أداؤه ومرونته جنباً إلى جنب مع تحسُّن روتينه في الرعاية الذاتية؛ إذ توقَّفَ عن التضحية بالنوم من أجل العمل، وبدأ في تفويض مهام لم يكن يتقنها، ومارسَ التأمل في الصباح، وتخلى عن عادة التحقق من هاتفه لحظة استيقاظه، ووجد مدرباً ليتابع لياقته البدنية، وبدأ يَعِدُّ وقت العلاج/ والرعاية الذاتية وقتاً مقدساً.
ثمَّ ضربَت جائحة كورونا العالم، وأصبح من الواضح أنَّ كل شيء في شركة "سام" يجب أن يتغير بين عشية وضحاها، فكانت الطريقة الوحيدة للبقاء هي التحول الكامل الذي كان يتطلب قدراً هائلاً من العمل.
ومع ذلك، عندما وصلَت الأزمة، كان "سام" قد استبعدَ فكرة أنَّه يمكِنه تغيير كل شيء بمفرده، واتجهَ بدلاً من ذلك إلى فكرة أنَّه ليس من علامات الضعف طلب الدعم، وأنَّ النتائج ستكون أفضل عندما يكون لديك المزيد من الأشخاص الذين يتعاونون ويعملون عليها، فأصبح لديه الآن الطاقة النفسية والجسدية لمواجهة هذه العاصفة، ولقد اصطدمَ بعائق على طريق نجاحه، وكان مستعداً له، وكان لديه الطاقة للعودة إلى مساره، وحدث تغيير كبير بسبب هذا.
ركز "سام" طاقته العاطفية على الحاضر، ولم يقلق بشأن تسريح العمال قبل أن يضطر إلى ذلك، ولا بشأن فشل الشركة قبل أن تفشل؛ بل تواصلَ مع الزملاء والمستثمرين، وسعى إلى الحصول على رؤىً للتعامل مع المشكلات المطروحة.
تتصدى شركة "سام" للجائحة جيداً، ومعنويات الفريق قوية والإيمان بالشركة مرتفع، وجلب "سام" الموارد لدعم الصحة النفسية للفريق، وفتح "بابه" الافتراضي لسماع مخاوف الموظفين بدلاً من الابتعاد عنهم، مما ساعد في اتخاذ قرارات العمل، ولم يجرِ فريقه أيَّة عمليات تسريح كبيرة للعمال.
لا يولد المؤسسون المرنون هكذا؛ بل يزرعون المرونة في داخلهم:
من خلال الاستثمار في المجالات الرئيسة من حياتهم، يمكِن للمؤسسين تنمية المرونة العاطفية بالطريقة نفسها التي يُنمِّي بها لاعب كمال الأجسام العضلات، فمن خلال الاستثمار في 7 سمات رئيسة تظهر باستمرار عند القادة المرنين عاطفياً وهي:
- الوعي الذاتي.
- التعاطف.
- الاستعداد للعمل.
- الفضول.
- اليقظة.
- المرونة.
- التواصل الفعَّال.
يمكِن للمؤسس الذي دخل حياته المهنية كشخص مثل "جيك" أن يتحول إلى شخص مثل "سام"، وفي الواقع، هذا ما حدث مع "جيك" و"سام"، فهما شخصٌ واحد، ورأيتُ "جيك" لأول مرة بعد الأزمة التي واجهَتها شركته، وعملنا معاً لمدة عامين قبل انتشار فيروس كوفيد-19، وكانت قدرته على مواجهة هذه الأزمة غير المتوقعة التي كانت في نهاية المطاف أسوأ بكثيرٍ من الأولى بمثابة تحوُّل ملحوظ، وإنَّ تطوُّره وكيفية إنقاذ شركته هما دليلان على مدى أهمية المبادرة في مجال الصحة النفسية، وهو عمل يفشل الكثير من المؤسسين في القيام به، ويؤثر فينا جميعاً.
العمل والشركات ليسا العمود الفقري لاقتصادنا فحسب؛ بل هي أمور تُحدِّد جودة حياتنا، وعندما يهمل المؤسسون مرونتهم العاطفية فإنَّهم يؤثرون سلباً في المجتمع.
مع دخولنا مرحلة أخرى من التوتر وانعدام اليقين والتغيير السريع، حان الوقت للمؤسسين للتراجع وتقييم قدرة تحمُّلهم والاستثمار في بناء الصحة النفسية والعاطفية؛ فالطريقة الوحيدة للاستمرار في هذا المستقبل المضطرب هي استعدادنا له.
أضف تعليقاً