يُقيَّم الإنسان في مجتمعنا على أساس عمره الزمني وليس على أساس نضجه العقلي، فيُعطي أحقية التقييم لسنوات العمر وليس للخبرة والتجارب؛ حيث يُعد الرجل الخمسيني ناضجاً لمجرَّد بلوغه هذا الرقم من السنوات، في حين أنَّه قد يكون مازال في بداية نضجه العقلي، وقد تجد شاباً في العشرين من عمره إلَّا أنَّ عمره العقلي وطريقة تفكيره وإحساسه بالمسؤولية يتعدَّى سنَّه العشريني بسنوات كثيرة.
من جهة أخرى، لا يُعطَى لمعيار الروح الأهمية التي يستحقها، فيُنظَر إلى الرجل الخمسيني على أنَّه هرِم من الداخل في حين أنَّ الروح لا علاقة لها نهائياً بسنوات العمر، فهي حرَّة تماماً، وتتبع توجهات الإنسان وأسلوب حياته ومنظومة تفكيره، فقد تجد شاباً في العشرين من عمره إلَّا أنَّه لا يملك أدنى أمل بالغد، ويعيش حياته بلا هدف أو رسالة، أي أنَّه فاقد للأمل تماماً، ولا يسعى للأفضل.
يتدخَّل المجتمع في قرارات زواج أولئك الذين قرَّروا الإصغاء إلى صوت قلوبهم وعقولهم وليس إلى عادات المجتمع ونظرته، وقد يستطيع منعهم من الإحساس بالسعادة والمتعة؛ فلا تستطيع أن تتخلَّص مَن اختارت الزواج من رجل يكبرها بخمسة عشر عاماً؛ من نظرات المجتمع وتعليقاتهم الجارحة، فلطالما ستسمع جملة "لقد تزوجته لأنَّه غني، إنَّها صفقة بينهما ليس أكثر".
من جهة أخرى، يُهاجَم من يتزوج بمن هي أكبر منه ويُتَّهم بكثير من الإتهامات اللاذعة، "لقد تزوجتها لمالها ومكانتها الاجتماعية وليس لأنَّك تحبها"، دون أن يعي المجتمع باقي الاحتياجات النفسية التي ساعدت تلك الأنثى وذاك الرجل في اختيارهما ذلك.
عندما يُنظَر إلى الزواج من منظور سطحي، ويسود سوء الظن عقول البشر، ويغيب احترام حرية الآخر وحقه في الاختيار، ويُحجَّم الزواج من كونه "مودَّة ورحمة وسكينة" إلى مجرَّد "صفقة" قائمة على تحقق شروط مُعيَّنة أهمها توافر المال وفرق العمر المثالي والمنزل والمركز العملي والاجتماعي، مُتناسين أنَّه عبارة عن تقاطع رؤى وانسجام أفكار، وتماهي أجساد، وتلاقي أرواح، وسريان وتدفق أهداف ورسالة.
هل يطعن "فارق العمر بين الشريكين" بقدسية السكينة والمودَّة؟ هذا ما سنجيب عليه من خلال هذا المقال.
ماذا تقول الدراسات بخصوص فارق العمر المثالي بين الأزواج؟
يتراوح فارق العمر المثالي بين الأزواج بين 3 إلى 5 سنوات لصالح الزوج، وذلك لدى أغلب الدراسات النفسية، في حين أعطت الدراسات هامشاً للزيادة حتى 10 سنوات لصالح الزوج، إلَّا أنَّها حذَّرت من فكرة تجاوز هذا الهامش، معتبرة أنَّ هذا الأمر يؤدي إلى وجود فجوة كبيرة بين الشريكين؛ حيث تُعَد كل عشر سنوات بمثابة جيل كامل، وقد يشعر الشريكان بالغربة وبأنَّ كلاً منهما ينتمي إلى جيل مختلف تماماً عن الآخر.
ولكن هل يعني هذا أنَّ الشركاء المتقاربون في العمر سوف يُحقِّقون زواجاً ناجحاً، وأنَّ الشركاء المتباعدون في العمر سوف يفشلون في الزواج؟ وإن كان الفارق العمري القليل هو المعيار الأساسي لنجاح الزواج، فلماذا إذاً نجد حالات الطلاق منتشرة بين الشركاء المتقاربين في العمر؟
إذاً، يحتاج الموضوع إلى تعمُّق ودراسة أكثر، لمعرفة كم يؤثِّر "فارق العمر" في نجاح معادلة الزواج.
ما هو العمر؟
- يعتقد كثير من الناس أنَّ العمر هو عدد السنوات التي مرَّت عليك منذ ولادتك، في حين أنَّ مسألة العمر أعمق بكثير من مجرَّد أرقام، فالعمر هو حصيلة التجارب والخبرات التي مرَّت عليك، وهو الوعي المتألِّق الذي يتَّقد في داخلك، وهو نواياك المُلهِمة وخططك الإيجابية وتطلُّعاتك المشرقة، وهو قدرتك على تحويل خساراتك إلى فرص للنمو والتطور.
- قد نجد رجلاً في الستين من عمره، إلَّا أنَّه لم يصل إلى مغزى الحياة، وما يزال يعيش يومه بمنتهى السذاجة -أي على هامش الحياة- دون أن يستثمر سنوات عمره في بناء رسالة قوية وهدف واضح، في حين أنَّنا قد نجد شاباً في الثلاثين من عمره إلَّا أنَّه ثري الأفكار وغني الأهداف، وقوي الإرادة، وحديدي الالتزام. يعَد تقييم الإنسان على أساس عمره الزمني أمراً جائراً جداً؛ حيث يجب أن يُقيَّم الإنسان على أساس نضجه العقلي والفكري.
- هل يعني هذا أنَّ علينا أن نلغي معيار "العمر" من ضمن معايير اختيار الشريك المناسب؟ والجواب هنا لا بالتأكيد؛ فما أعنيه هو عدم المبالغة في إعطاء جانب العمر أهمية قصوى في قضية الزواج، وعدم منحه وسام وشرف تقرير حياتنا المستقبلية، بل يجب التعامل معه على أنَّه عامل من ضمن عوامل مؤثِّرة في عملية الزواج، وتزداد أهمية هذا العامل أو تنقص استناداً إلى الطبيعية النفسية لكل من الشريكين، وإلى احتياجات كل منهما.
هل رؤية الزواج مكتملة لديك؟
- عندما تُذكَر أمامك كلمة الزواج، بماذا تفكِّر؟ هل تفكِّر بالحالة الرومنسية الحالمة، أم تفكِّر بالغزل والكلام والجميل والرحلات والسياحة، أم بالأولاد والتربية والتعليم، أم تفكِّر بالاحتواء والمشاركة والتقاطع، أم تفكِّر في المال والأخذ، أم في الشهرة والمكانة الاجتماعية، أم في التطور والارتقاء والقيمة المضافة؟
- في الحقيقة إنَّ الزواج عبارة عن تكامل احتياجات الطرفين، والهدف الأساسي من الزواج هو تحقيق السكينة النفسية والمودَّة والرحمة، ولكي تعلم ما هي احتياجاتك، عليك أن تفهم ذاتك في البداية، وتحدِّد ما الذي تريده من الطرف الآخر، وما الأمور التي تحقق لك الإشباع، وما هي نقاط ضعفك ونقاط قوَّتك، ومن ثم تنتقل إلى دراسة الآخر، وفهم احتياجاته والعمل على تحقيقها.
- تنقسم الأبعاد الأساسية في اختيار شريك الحياة إلى:
شاهد بالفديو: تعرّف على أغرب تقاليد الزواج في العالم
1. البعد الجسدي:
وهو دراسة مدى تقبُّلك جسد الطرف الآخر، ومدى انجذابك له، حيث يُمهِّد ذلك إلى نجاح العلاقة الحميمة مستقبلاً بين الطرفين.
2. البعد الفكري:
يُعنى هذا البعد بالجانب العقلي والفكري، أي مدى التقارب بين الشريكين في الطباع الشخصية وفي طريقة التفكير ومنهجيته، على سبيل المثال: لا تستطيع الأنثى المنطلقة والعفوية والطموحة تحمُّل الزواج من رجل شكَّاك منغلق وانطوائي؛ ولا يستطيع الرجل المحب للحياة والعاطفي والمتجدِّد تحمُّل الارتباط بأنثى تقليدية نكدية وسلبية، ولن يحتمل الرجل ذو الشخصية القلقة المتوترة، والذي يُدقِّق ويُضخِّم أدق التفاصيل؛ الزواج من أنثى قوية وعملية.
وهنا على كل من الشريكين دراسة شخصيات بعضهما في أثناء فترة الخطوبة، وعدم التغاضي عند ملاحظة تفاصيل هامَّة، حيث تُعَد فترة الخطوبة مرحلة ثانية من مراحل الحب، وهي مرحلة اكتشاف عيوب الآخر، علماً أنَّ مرحلة التعلق هي المرحلة الأولى من مراحل الحب، وتؤدي زيادة مدة التعلق عن الحد الطبيعي لها إلى انخفاض قدرة الشخص على المحاكمة المنطقية، حيث تتشكل غشاوة على قلبه تمنعه من رؤية الأمور على حقيقتها. أمَّا المرحلة الثالثة من مراحل الحب فهي مرحلة التكيُّف، وهنا يكتشف كل من الطرفين عيوب الآخر ويختبران مدى إمكانية التعايش مع هذه العيوب، وتحويلها فرصاً للنمو والتطور.
3. البعد العاطفي:
وهنا يكون لدى كل من الطرفين احتياجات عاطفية مُعيَّنة؛ فعلى سبيل المثال: قد يكون للأنثى احتياجاً للأمان والحنان، تحديداً إن كانت قد حُرِمت من والدها في عمر صغير، وقد يحتاج الرجل إلى التقدير والثقة، تحديداً إن نشأ في بيئة غير داعمة نفسياً.
إذاً، تختلف الاحتياجات النفسية لكل طرف من الطرفين بناءً على مستوى الوعي، والتجربة العائلية، والطباع الشخصية؛ فعلى سبيل المثال: قد تكون الاحتياجات العاطفية -فيما يخصُّ قضية الزواج- لأنثى واعية وقوية ومسؤولة هي: الاحتواء والاحترام والالتزام والسعي نحو الأفضل دوماً، بينما قد لا تتعدَّى الاحتياجات العاطفية لأنثى ذات مستوى وعي منخفض وبيئة قاسية؛ حصولها على حق الاعتراف بها.
4. البعد الاجتماعي:
قد يكون البعد الاجتماعي هاماً جداً لدى بعض الناس في تقييم شريك الحياة، حيث يهتم الشخص بالحصول على القبول المجتمعي لزواجه. ومن جهة أخرى، قد يركِّز الشخص على اختيار شريك حياة ذو مكانة اجتماعية، ويمتلك اسم عائلة مرموق.
5. البعد الروحي:
وهنا يدرس كل من الطرفين قيمهم الروحية، وعلاقتهم مع الخالق، ويقرِّرون مدى إمكانية الانسجام فيما بينهما. فقد يكون رجل ما مُتديناً تديُّناً فكرياً، أي من ناحية الأخلاق والقيم، إلَّا أنَّه غير ملتزم بالتديُّن السلوكي من صلاة وصيام. ومن جهة أخرى، قد يكون لدى أنثى ما تديُّناً كبيراً من ناحية السلوكات إلَّا أنَّها لا تملك تديُّناً فكرياً، فهي على سبيل المثال قد لا تمانع الغيبة والنميمة في حين يجد ذاك الرجل أنَّ الغيبة والنميمة من الكبائر.
ما بين "تكامل الاحتياجات" و "فارق العمر":
- قد تجدين ضالَّتك في الرجل كبير السِّن، وقد يتحقق الهدف من الزواج معه، بحيث تجدين معه السكينة والرحمة والمودَّة.
إنَّ فارق العمر الكبير ليس بالضرورة أن يكون عاملاً سلبياً في العلاقة، ففي بعض الحالات توجد مزايا لفارق العمر الكبير بين الشريكين؛ على سبيل المثال: إن كان لدينا رجل خمسيني العمر يعاني ضعفاً جنسياً، ولديه مركز وظيفي مرموق وحالته المادية ميسورة جداً، وكان لدينا فتاة في منتصف العشرينات ذات شخصية هيستيرية، أي أنَّها تعشق المظاهر والسفر والاستعراض، وتبحث عن المال، وليس لديها رغبات جنسية، فهي توجِّه طاقتها باتجاه لفت النظر؛ عندها يكون ارتباط هاتين الشخصيتين مثالياً بالرغم من وجود فارق في العمر كبير، حيث يُشبِع كل طرف احتياجات الآخر، فهي تُشبع عنده رغبة المشاركة والحيوية والانطلاق، وهو يُشبع لديها عشقها للاستعراض وعدم مطالبتها بشيء يخصُّ العلاقة الخاصة بينهما. - إذاً يجب ألَّا نتسرَّع ونحكم على العلاقة بالفشل لمجرَّد وجود فارق في العمر، بل أن ندرس احتياجات كل من الطرفين، ونبحث عن وجود إمكانية تكامل وتناغم هذه الاحتياجات.
- ففي حال تقدَّم شخص ما إلى فتاة وكان يكبرها بخمسة عشر عاماً، عندها عليها أن تدرس احتياجاتها وتجد إن كانت مُحقَّقة في علاقتها معه، فقد يكون لديها احتياجاً للأمان والحنان -تحديداً في ظل غياب وجود الأب في حياتها- وكان شريكها ذو نمط شخصية أبوية، أي لديه إحساس مضاعف بالمسؤولية والاهتمام، فعندها سيكون ارتباطهما مثالياً.
ومن جهة أخرى، قد يكون لهذا الشريك احتياجاً للبراءة والصدق والعفوية فيجدهم عند تلك الفتاة. بالمقابل قد يتقدَّم لذات الفتاة شاب أكبر منها بسنتين فقط، وقد يكون هذا الفارق مثالياً، إلَّا أنَّها لا تجد لديه ما تحتاجه من أفكار ومشاعر، فقد يعاملها بطريقة ندِّية بدلاً من احتوائها واستيعابها. - قد يكون لدينا رجل يبحث عن امرأة ذات شخصية عاطفية وحنونة، نتيجة غياب الأم في حياته، وقد يكون في الثلاثينات من عمره وفقير المال، عندها قد يكون ارتباطه بامرأة في الأربعينيات وذات مركز ومال ارتباطاً مثالياً لحالته ووضعه.
- يُشجِّع وجود فارق عمري كبير بين الطرفين، الطرف الأكبر سنَّاً في المحافظة على أفضل صورة له، وعلى الاهتمام الدائم في صحته.
- يجب ألَّا نحكم على الشخص من سنِّه، فقد نجد رجلاً خمسيني العمر إلَّا أنَّ شكله وروحه يوحيان بأنَّه في الثلاثينيات، وكذلك بالنسبة للمرأة؛ وبالمقابل، قد نجد شاباً في الثلاثينيات إلَّا أنَّ روحه كهلة؛ إذاً القضية نسبية ولا نستطيع تعميم فرضية ما على مسألة الزواج.
- ومرَّة أخرى، نحن لا نشجِّع على وجود فارق عمري كبير بين الشريكين، ولكن ما نقوله أنَّ على كل من الطرفين دراسة احتياجاتهما والنظر إلى الزواج من زاوية متكاملة، لأنَّ الزواج مسألة غاية في الأهمية، ويتطلب وعياً ومسؤولية.
ما بين المجتمع وفارق العمر:
على كل امرأة متزوجة من رجل أكبر منها بأكثر من عشر سنوات، وعلى كل رجل متزوج من امرأة أكبر منه؛ ألَّا يصغون إلى كلام المجتمع وتجريحاته، وألَّا يدخلون في حلقة مفرغة من فقدان الهوية، ففي بعض الحالات قد ترضخ المرأة المتزوجة برجل أصغر منها إلى ضغوط المجتمع وتكبر الشكوك في قلبها، وتشعر بأنَّ زوجها يخونها، فتلهث إلى عمليات التجميل لكي ترمِّم أزمة الثقة التي أشعلها المجتمع في داخلها.
ومن جهة أخرى، قد يُصاب الرجل المتزوج بامرأة أصغر منه بكثير بمشاعر الغيرة المفرطة والشك القاتل، وذلك بسبب تأثُّره بتعليقات المجتمع السلبية؛ لذلك على كل من الطرفين المحافظة على النيَّة السليمة بينهما، وعلى حسن الظن، وعليهما التركيز في حياتهما وسعادتهما وسكينتهما.
الخلاصة:
ينتشر "اللَّاتزامن" في حياتنا، فبالرغم من سيطرة مظاهر الحضارة على كل المجتمعات، إلَّا أنَّنا لانزال نواجه كثيراً من العقول المتحجِّرة ممَّن ترفض التطور والارتقاء، فترى كثيراً من الأشخاص ممَّن يقودون أكثر السيارات رفاهية ويقطنون أرقى الأحياء، إلَّا أنَّ مستويات وعيهم ما تزال منخفضة، ولا يزالون يعتمدون معايير تقييم مُجحِفة في حق الإنسان. تذكَّر أنَّ الهدف من الزواج هو السكينة والمودَّة، فتمسَّك بذاك الذي يحقق لك الغاية من الزواج بغض النظر عن فارق العمر.
أضف تعليقاً