بيد أنَّ التجربة تُظهر أنَّ التفكير الإيجابي ليس المفتاح الوحيد لتحقيق النجاح. فلنضرب لكم مثالاً بسيطاً يوضّح ذلك:
"أَجْمَعَ عددٌ من الأصدقاء على إنشاء شركةٍ تنشط في مجال الإعلان والتسويق، مدفوعين بالدعم الذي حصلوا عليه من عوائلهم وأصدقائهم المُقَرّبين. وتكلّموا بحماسٍ عن الإمكانيّات التي سيجلبها إليهم مشروعهم هذا. ومعاً، أمضوا أمسياتهم وهم يناقشون أفضل السُّبلِ للبدء في مشروعهم المشترك.
أولاً، قاموا بإنشاء الشركة، واتّخذوا قراراً مشتركاً يُحدِّد هيكلها التَّنظيميّ، بعد ذلك، بحثوا عن عددٍ قليل من العملاء المحتملين، وأجروا عصفاً ذهنياً للبتِّ في نوع المساعدة التي يمكن أن تُقدَّم إليهم. كانت البداية واعدة، وتُبَّشرُ بالخير.
ثمّ حدث شيءٌ ما، فقد تضاءل شغفهم تدريجياً، وتوقّفوا في النهاية عن عقد الاجتماعات؛ فانخفضت أرباح الشركة واختفت عن الساحة لاحقاً".
كانت الحماسة هي القاسم المشترك الوحيد لدى هؤلاء الأصدقاء؛ فقد كانوا على ثقةٍ بأنَّ عملهم سينجح ويزدهر، بيد أنَّ التَّفاؤل لم يكن كافياً لوحده. بل والأدهى من ذلك، لقد وقف تفاؤلهم الزائد عائقاً في وجه نجاحهم.
المخاطر الوخيمة للآمال العالية:
إنَّ التخيّل متعة؛ فعند تفويض طموحاتك للعقل، يمكنك تحقيق ما تريد؛ فتتخيّل أنَّك تحصل أخيراً على شيءٍ أردته لفترةٍ طويلة، أو أن يكون سيناريو حياتك يختلف تماماً عن الواقع.
ولكن هذا أيضاً ما يجعل التخيل أمراً خطيراً جداً؛ فعندما تقوم به، يشعر عقلك أنَّه قد حقّق ما تتصوره. وبعبارةٍ أخرى، فإنَّ الخيال يَحِلّ مَحَلَّ الواقع؛ ذلك لأنَّك تشعر بهذه البهجة في كلا السيناريوهين. رغم أنَّ هذا الشعور يبدو منطقياً، إلا أنَّك تواجه مشكلةً متمثّلةً في الشعور وكأنَّك وصلت بالفعل إلى هدفك.
فما الذي يحدث بالضبط داخل رؤوسنا حينما نجلس على مكاتبنا ونتصوّر أنفسنا مستلقين على الشاطئ في جوٍّ مُشمِسٍ ودافئ؟ وفقاً لغابرييل أوتينجن (Gabriele Oettingen)، أستاذة علم النفس التي تبحث في التفكير الإيجابي، ينخفض ضغط دمنا مع تفكيرنا في الأفكار السعيدة، فتنخفض معه مستويات الطاقة لدينا. وإن حدث ذلك، يصبح من الصعب علينا بناء الدافع لمتابعة القيام بما نُريد القيام به. إنَّ انخفاض الطاقة أشبه بنشاطات الاسترخاء الأخرى، مثل التأمل أو الاستلقاء على السرير.
لقد بات من الواضح إذاً لماذا نودّ أن نحلم بأشياء أفضل؛ فهو أمرٌ سهل التنفيذ وضمن نطاق سيطرتنا، وطريقٌ مُختصرٌ للمكان الذي نودّ أن نكون فيه. بيد أنَّ الإفراط في الحلم يُكلفنا غالياً على المدى الطويل.
طلاب جامعيون بين العمل والرومانسية:
أجرت "أوتينجن" مقابلاتٍ مع طلاب جامعيين لمعرفة مدى تأثير التفكير الإيجابي على جوانب مختلفة من حياتهم؛ حيث قسَّمت في دراستها الطلاب إلى مجموعتين اثنتين، فطلبت من المجموعة الأولى أن تتخيل أنَّ الأسبوع المقبل سيصبح رائعاً. في حين توجَّب على المجموعة الثانية كتابة أفكارهم عن الأسبوع القادم.
أفادت المجموعة الأولى -المليئة بالأفكار الإيجابية- على الفور أنَّها قد شعرت بقدرٍ أقلَّ من الطاقة مقارنة بالمجموعة الثانية. وفي الأسبوع التالي، كانت النتائج هي نفسها. أسبوعٌ واحدٌ هو فترةٌ زمنيّةٌ قصيرةٌ نسبيّاً في حياتنا؛ إذاً ما الذي يحدث إن قمنا بالتخيّل على مدى فترةٍ زمنيّةٍ أطول، ولنقل عامين مثلاً؟
طلبت "أوتينجين" من 83 طالباً في السنة الأخيرة من دراساتهم العليا تقييم مدى احتمالية حصولهم على وظيفة -سواءً أَكانت أفكارهم إيجابية أم سلبيّة- ورصد مدى تكرار هذه الأفكار.
بعد ذلك بعامين، أجرت "أوتينجين" مقابلة مع هؤلاء الطلاب مجدداً، فوجدت أنَّ المشاركين الذين راودتهم تخيّلات إيجابيّة عن الحياة بعد التخرّج لم يحاولوا بجدٍّ مثل نُظرائهم الذين راودتهم أفكارٌ سلبيّة. ونتيجةً لذلك، حصل الطلاب الذين تخيّلوا أموراً إيجابيّة على عددٍ أقلَّ من عروض العمل، وعلى رواتب متدنيّة بالمُجمل. لكن ومع ذلك، فقد حقق الطلاب الذين كانت لديهم توقعاتٌ كبيرةٌ بالنجاح أداءً أفضل، حيث حصلوا على المزيد من عروض العمل ورواتب أعلى. من المحتمل طبعاً أنَّهم كانوا أفضل المرشحين المتميزين في المجموعة.
وفيما يخصّ الحياة العاطفية لطلاب الجامعات، فقد جاءت النتائج متشابهة؛ فالطلاب الذين تخيلوا الكثير عن الشخص الذي كانوا مهتمين به، كانوا أقلَّ ميلاً للمبادرة لخوض العلاقة، أما الطلاب الذين توقّعوا النجاح في ذلك، كانوا أكثر ميلاً لبدء علاقةٍ مع الذين يريدون الدخول في علاقةٍ معهم.
تُظهر تجارب هؤلاء الطلبة أنَّ الإيجابية ليست سيئة بالضرورة؛ بيد أنَّها حينَ تُستخدم في أحلام اليقظة بدلاً من العمل، فإنَّها تتحوّل إلى مشكلة؛ إذ يوجد فارقٌ واضحٌ بين توقّع النجاح في أمرٍ ما، وبين التظاهر بأنَّك نجحت فيه فعلاً.
مجبولون بيولوجياً على التفاؤل:
ما يُميّزنا كبشرٍ هو أنَّنا نحبّ أن ننظر إلى الجوانب المشرقة للأمور، حيث يميل النّاس من جميع المناطق والأعراق والطبقات الاجتماعية والاقتصادية نحو الأمل أكثر من اليأس. ولعلَّنا قد نجد بعض المتشائمين، بيد أنَّ ما يقرب من 80 في المئة من الناس متفائلون. إذ غالباً ما يرى الناس الخير في كل تجربةٍ سلبية يمرُّون فيها. على سبيل المثال، قد نواجه تحدّياتٍ في حياتنا فنقول بأنَّها تجعلنا أقوى، أو نرتكب الأخطاء فنستخدمها كدروسٍ نتعلّم منها.
لطالما لعب التفاؤل دوراً رائعاً في تاريخ البشرية؛ فلا بُدَّ أنَّ الأشخاص الذين خاطروا أكثر من أيّ شخصٍ آخر عرفوه -المستكشفون والمجازفون والمخترعون- قد آمنوا بأنَّ هنالك شيئاً أفضل ينتظرهم. إذ يدلُّ قيامهم بتلك الأمور الخطيرة -والمهلكة أحياناً- على مقدار الإيمان الذي اعتراهم عند قيامهم بما قاموا به.
هذه السمة الإيجابية تعني قدرةً أفضلَ على مواجهة المصاعب والمثابرة في أوقات الأزمات، كما يعيش المتفائلون أيضاً حياةً أطول وأكثر صِحّةً من المتشائمين؛ فهم أقلُّ عرضةً للإصابة بارتفاع ضغط الدم والسُّكري، أو أقلَّ ميلاً لتدخين التَّبغ.
الوجه الآخر لعملة التفاؤل هو أنَّنا قد نبالغ أحياناً في تقدير قدراتنا، فحينما يتعلّم المبتدئون مهارةً جديدة، يميلون إلى الاعتقاد بأنَّ أدائهم أفضل بكثير مما هو عليه بالفعل (أو سيكون أفضل على أقلِّ تقدير). لكن حينما يضرب الواقع ضربته، سيكون أمراً محبطاً بالنسبة إليهم إن اكتشفوا أنَّهم ليسوا بتلك الجودة كما كانوا يَحسَبون أنفسهم.
كما أنَّ الإفراط في التفاؤل يجعلنا نستخفّ بالمخاطر؛ وهو ما قد يدفعنا إلى تجاهل العواقب السلبيّة لأفعالنا، مثل التدخين بشراهة، أو الركوب في سيارة دون ربط حزام الأمان، أو القيام بخطوة مهنيّة محفوفة بالمخاطر دون أخذ الاحتياطات اللازمة.
لذا يتعيَّن علينا في مثل هذه الأوقات، التوقُّف والتَّفكُّر فيما نُخَطِّط للقيام به.
فكِّر تفكيراً منطقياً:
نحتاج جميعاً إلى بعض الإيجابيّة في حياتنا لكي نبقى صامدين حين نمرُّ بأوقاتٍ عصيبة. وإلّا، كيف سنرى الضوء في نهاية النفق المظلم؟ الجيّد في الأمر هو أنَّنا نميل فطرياً إلى أن نكون إيجابيّين. لكن تبقى الخطوة الأولى هي التفكير مليَّاً فيما يتعيَّن علينا القيام به. لذا لا بأس في أن تحلم بالسيناريو المثالي. أما الخطوة التالية هي تقييم واقع الحال. لذا فَكّر في مكامن قوتك، وإلى أيّ حدٍّ أنت بعيدٌ عن الهدف الذي تريد تحقيقه. لكن تذكر أنَّه من المهمّ أن تكون صادقاً مع نفسك؛ إذ عندما تتخيّل، من السهل أن تنسى الأمور الاعتيادية والتفاصيل المزعجة.
لذلك اسأل نفسك حينما تقارن هدفك بشخصيتك، وتَفَكَّر في وضعك الراهن: هل تتوافق الأجزاء بعضها مع بعض، أم أنَّها غير منطقية؟ إن كانت الإجابة الثانية هي الصحيحة، فمن الأفضل أن تضع هذا الهدف في أدنى درجاتِ سُلَّم أولوياتك.
أمَّا إن كان الهدف مُهِمّاً ومُجْدِيَاً؛ فمن الجيّد التفكير في أشياء قد تسير بصورةٍ خاطئة، والتَّمعن فيما يمكنك القيام به حيال ذلك. إنَّ إعداد خطة طوارئ يجعل الهدف أقلَّ رهبة؛ ذلك لأنَّك تكون قد توقعت مسبقاً حدوث مشكلاتٍ محتملة، وجَهَّزْتَ لنفسك طرائقَ للتعامل معها.
التفكير الإيجابي لا يكفي بمفرده:
يأخذ التفكير الإيجابيّ أشكالاً عدة. وهي تتراوح بين التوقّعات العالية لأنفسنا، ومجّرد توقّع حدوث أشياء عظيمة من تلقاء نفسها. ربما يمكنك تخمين أيّ منهما هو الأفضل!
ليست هناك حاجةٌ للتخلّص من التفكير الإيجابي؛ وبالنظر إلى الطبيعة البشرية، لن يكون من السهل التخلص منه على أيّ حال. لكن بدلاً من ذلك، يجب أن تعمل الإيجابية عملَ "مُكمِّلٍ" لخططنا ومجهوداتنا؛ فهي ليست سوى جزءٌ واحدٌ من الصّورة الكاملة، والتي تشتمل على استباق المشكلات وتخطيط خطواتنا، ومعرفة ما إذا كان يتعيَّنُ علينا المضيَّ فيها.
إنَّ الرغبة في حدوث أمرٍ ما شيءٌ لطيف، بيد أنَّها تظلُّ "مجرّد رغبة" لا توصلك إلى ما تصبو إليه ما لم تُقرَن بأفعالٍ تحوِّلُ تخيلاتك إلى أمرٍ واقع.
أضف تعليقاً