كيف تخيَّل الفلاسفة عبر التَّاريخ صورة الحياة الهادفة:
قبل أن نتشعب بالعناصر التي تشكل معنى الحياة، لنَعُد بالزمن ونرى ما كان يقوله الحكماء عبر التاريخ عن الحياة الهادفة.
الإغريق:
آمن الإغريق القدماء بمفهوم "يودايمونيا". والذي يترجم إلى "السَّعادة" أو "الرفاهية". إذ آمن جميع الفلاسفة اليونانيين العظماء من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو، أنَّ الحياة الجيدة تعني العيشَ في حالة من يودايمونيا.
تختلف تفسيرات ما تشير إليه تلك الكلمة، إذ اعتقد البعض بأنَّ هذا الهدف يمكن الوصول إليه عبر اكتساب الفضائل (مثل ضبط النفس والشجاعة والحكمة). ويعتقد أرسطو على سبيل المثال، أنَّ هذا المفهوم لا يتطلب حُسنَ السُّلوك وحسب، بل واتخاذ الإجراءات وتحقيق التَّميز أيضاً. بينما يرى أبيقور -وهو فيلسوف إغريقيٌّ بارز آخر- أنَّ الحياة الجيدة هي حياة المتعة والتَّحرر من الألم والمعاناة.
الفلسفة التَّشاؤمية (Cynicism):
اعتقدت مدرسة الفكر اليونانية الشهيرة هذه -والتي تُعرف أيضاً باسم "الكلبيَّة"- أنَّ الغاية من الحياة هو أن تعيشَ حياة فضيلة تتَّفق مع الطبيعة، فالحياة السعيدة التي نادوا بها هي الحياة البسيطة الخالية من الممتلكات، والتَّنكر لرغبات الثَّروة أو امتلاك الممتلكات والشهرة والغرائز. وبدلاً من ذلك، يجب أن يخضع الأفراد لتدريبٍ صارمٍ ويعيشون بطريقةٍ فطريَّة جداً.
الفلسفة الرُّواقيَّة (Stoicism):
إنَّ مدرسة الفكر الرُّواقيَّة التي أسسها زينون السيشومي في حوالي 300 قبل الميلاد، تنظر للحياة الجيدة على أنَّها "العيش في وفاقٍ مع الطَّبيعة". يؤيد الرواقيون فعل الخير مع التزام الهدوء والتَّركيز على ما هو هامٌّ وتحت سيطرتنا، وليس هدر أفكارنا على ما لا يمكننا التأثير عليه. وعليه تكون السَّعادة بالنسبة إلى الفلسفة الرواقية: "تَقبُّلُ اللحظة الراهنة كما هي عليه عبر عدم السماح لرغباتنا في المتعة أو خوفنا من الألم بالسَّيطرة علينا، وذلك عبر إعمالِ عقولنا لفهم العالم من حولنا، والقيام بدورنا في الخطة التي قد وضعتها الطبيعة لنا، والعملَ يداً بيد ومعاملة الآخرين بإنصافٍ وعدل".
الألوهيَّة (Theism):
آمن الألوهيون بوجود معبود -إلهٌ خلق الكون-. لذا تكون الغاية من حياتنا بالتالي؛ تتماهى مع الغاية التي من أجلها خلق الله الكون. والله هو الذي يعطي لحياتنا الهدف والمعنى والقيم. وبدونه تصبح الحياة فارغةً لا معنى لها.
الفلسفة الوجوديَّة (Existentialism):
وفقاً لفلسفة القرن العشرين هذه، بدعم من العقول المشهورة مثل سورين كيركيجارد وفيودور دوستويفسكي وجان بول سارتر وفريدريش نيتشه؛ فإنَّ جميع البشر يتمتعون بالإرادة الحرة.
تؤمن هذه الفلسفة بأنَّ كل شخص يعطي معنى لحياته، وليس للمجتمع أو الدين. لذا فإنَّ غاية المرء فريدة من نوعها وتخضع لظروفه وطريقة فهمه.
ما الذي يعطي لحياتك معنى؟
إذاً، واستناداً إلى هذه الرحلة الموجزة عبر التاريخ، يتبيّن لنا أنَّ تفسير ما يصبغ وجودنا بالمعنى والغاية، يختلف تبعاً للفترة التاريخية ومدرسة الفكر السائدة. لكن وبلا شك، لا يزال هناك بعض القواسم المشتركة والأفكار المتكررة. مثل تفسير ظهورنا بسبب كيانٍ أكبر من أنفسنا، مثل الخضوع لإرادة الله أو المساهمة في المجتمع أو التَّماهي مع الطَّبيعة. لكن وفي الوقت نفسه، ينعكس كلٌّ من تلك المفاهيم بفوارق بسيطة تبعاً لوجهات نظرنا الفردية.
ومع ذلك، يمكن تقسيم الأشياء التي قد تكون مرشحةً في الغالب لإعطاء معنىً وغاية لحياتنا إلى بضع تصنيفاتٍ رئيسية:
1. العامل الاجتماعي:
بما أنَّ البشر مخلوقات اجتماعية، فلدينا حاجة فطرية بأن يكون في حياتنا شخصٌ يهتم بنا، وللتَّواصل مع الآخرين، وأن نكون جزءاً من مجموعة تُشعرنا بالانتماء.
وفقاً لأطول دراسة أجريت حول مفتاح السَّعادة والرضا عن الحياة - والتي امتدت لأكثر من 75 عاماً، فإنَّ الحياة الرَّغيدة تكمن في جودة علاقاتنا. إذ يخبرنا "د. روبيرت والدينجر" - البروفيسور الذي قاد البحث: "إنَّ قضاء وقتٍ جيِّدٍ مع الآخرين يحمينا من الآثار السَّلبيَّة المترتبة عن تقلبات الحياة".
ليست وحدها صداقاتنا ما يجعل الحياة جديرةً بأن تُعاش؛ بل هم أيضاً عائلاتنا وأطفالنا وأشقائنا وكل من نشعر بالحب والعطف تجاههم، والذين يمنحوننا بدورهم، محبتهم وإخلاصهم.
2. تحقيق الإنجازات:
على الرَّغم من أنَّ ربط قيمتنا فقط بنتائج مساعينا يمكن أن يخلق إحساساً غير مستقر بتقدير الذات، إلا أنَّنا لا نزال نرغب في أن يزيد نصيبنا من النَّجاح عن نظيره من الفشل. فنحن نرغب بأن نشعر بأنَّنا نمضي قدماً، ونتقدم ونحقق أهدافنا. لقد وجدت الدراسات أنَّ الإنجازات تجلب معنىً أكبر لحياتنا اليومية. وليس الرغبة في الشهرة أو إغراء أنَّ نكون محطَّ الاهتمام ما يجعل وجودنا يستأهل الجهد المبذول فيه، بل هو التقدير والامتنان والعرفان تجاه ما بذلناه من جهد. بعبارة أخرى، نريد من أعمالنا أن تكون ذا أهميَّةٍ وتحدث فرقاً.
3. الكفاءة والمعرفة والخبرة:
ترتبط دوافع الأهداف تلك ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الإنجاز. يقول كونراد لورنز، العالم النمساوي الحائز على جائزة نوبل في الطِّب: "إنَّ الحياة بحدِّ ذاتها؛ رحلةٌ لاكتساب المعرفة".
أن نصبح الأفضل في ما نقوم به، هو جزءٌ كبير من الاتجاه السَّائد لتحسين الذات في أيامنا هذه. ربما يكون التَّعبير الأكثر شهرة في هذا الصدد، هو ما نجده في المفهومين اليابانيين "كايزن" و"شوكونين". تشير كلمة كايزن إلى عملية التحسين المستمر؛ فعبر التَّعلم واكتساب الخبرة، نُحسِّنُ أنفسنا. لذا فإنَّ الكايزن أسلوب حياة.
بينما تعني كلمة شوكونين حِرَفِيّْ (craftsman). إنَّ الأمر يتعلق بالفخر بأنفسنا وبما نقوم به. إنَّه الدَّافع لتصبح أفضل على الصَّعيد الشَّخصي والمهني.
كيف تصنع معنىً لحياتك:
هناك في واقع الأمر، الكثير من المفاهيم والفوارق الدقيقة التي تتعدى التَّصنيفات الثلاث المذكورة أعلاه. لذا نقدم إليك فيما يلي بعضاً من المفاهيم الإضافية التي ستدلك على المكان الذي تبحث فيه عن معنىً لحياتك:
1. كن على علمٍ بما يجعلك سعيداً:
وهذا يشمل شغفك والرغبة في التَّواصل مع الآخرين، والقراءة والكتابة والسفر والإبقاء على شكلِ جسمك لائقاً. على الرغم من أنَّ هذه الأنشطة التي تستمتع بها قد لا تعطي المعنى الوحيد لحياتك، إلا أنَّها لا تزال تنطوي على إمكانات جمَّة من حيث جعلِكَ سعيداً وراضياً. فهم دوافعُ فرحٍ؛ غاياتٌ وأهدافٌ صغيرة. والتي مع مرور الوقت، قد تسهم في تحقيق غاياتك وأهدافك الأكبر. لكنَّهم الآن، سيقدمون لك أمراً تتطلع إليه، ويمنحوكَ هدفاً تستيقظُ من أجله في الصَّباح.
2. قم بتكوين أسرة:
يوفر لنا علم الأحياء التطوري الدافع الرئيسي وراء وجودنا على الأرض كبشر؛ ألا وهو ضمان عدم انقراض الجنس البشري. ليصبح تكوين الأسرة وإنجاب الأطفال من هذا المنطلق، أحد أكثر العوامل التي تجعل حياةَ النَّاس ذات معنى. كما يماثل ذلك أيضاً حاجتنا الأساسية إلى الشعور بالانتماء، وإلى أن يكون هناك شخص يشاركنا نجاحاتنا وهمومنا، ونعتني به ويعتني بنا.
3. امتلك رغبة في ترك بصمتكَ في هذا العالم:
مع إدراكنا لمدى سرعةِ فنائنا، تأتي رغبة طبيعية للإتيانِ بأمرٍ ذا قيمةٍ من شأنه أن يُحدِث فرقاً في هذا العالم. إذ نمتلك بين أيدينا جميعاً القدرة في التأثير على حياة الآخرين، بغض النظر عن حجم ذلك التَّأثير. لذا تستطيع أن تبدأ بأمرٍ بسيط، وتقوم بعدئذٍ بالبناء عليه. فإن كنت تُحبُّ القطط الأليفة مثلاً، تبنَّ واحدة وامنحها حياةً أفضل. كما بإمكانك أن تتطوع لتقديم خدماتٍ اجتماعية؛ كأن تساعد على تقديم الطعام في مأوىً للمشردين أو كبار السن، أو أن تتبرع بمساعداتٍ مادية أو عينية لإحدى دور الأيتام.
كيف تعيشُ حياةً هادفة؟
1. كُن رؤوفاً بنفسك وبالآخرين:
تفيد دراسةٌ أجرتها دائرة الصحة الوطنية البريطانية في عام 2014، أنَّه يوجد خمس خطوات يمكننا اتخاذها لنعيش حياة هادفةً أكثر:
- التَّواصل مع العائلة والمجتمع.
- ممارسة النشاطات البدنية.
- التَّعلم الدائم.
- إجزال العطاء تجاه الآخرين.
- الوعي التَّام بالعالم من حولك.
إنَّ ما تنطوي عليه هذه التوصيات، هو أنَّ ما يدخل الدفء والسُّرور لحياتنا هو الاهتمام بأنفسنا وبالآخرين؛ عبر القيام بما يجعلنا نشعر بأنَّنا بحالةٍ جيدة. ولا أعتقد أنَّني بحاجة لإقناعك بفوائد العطاء وممارسة التأمل -إذ تلك أمورٌ مُثبتَة- لصحتنا الجسدية والعقلية والنفسية.
فكونك لطيفاً وعطوفاً ومسانداً للآخرين؛ هي وبكلِّ تأكيد، سلوكيات رابحة لزيادة طول العمر وخفض مستويات التوتر والاكتئاب.
2. كُن شخصاً ذو فائدة:
وفقاً لداريوس فوروكس، وهو رجل أعمال ومؤلفٌ مشهور؛ فإنَّ معنى الحياة ليس السعي وراء السعادة، ولكن جعل أنفسنا نافعين. فبدلاً من البحث عن السَّعادة والغاية من الحياة من خلال الأشياء المادية، يجب أن ننخرط في أعمال مفيدة تسهم في تمكين الآخرين وجعلهم سعداء.
" آخر شيء أريد أن أكتشفه عندما أكون على فراش الموت؛ هو أنَّه لا يوجد دليل على أنَّني قد عشت قبلاً" -داريوس فوروكس.
3. تواصل مع من حولك:
يعتقد آلان دي بوتون، مؤسس إحدى المدونات الشهيرة، أنَّ الغرض من الحياة ينقسم إلى ثلاثة أنشطة:
- عمليات التواصل.
- التَّفهم.
- تقديم الخدمات.
تتعلق بعض أهمِّ لحظات حياتنا بطريقة تواصلنا مع ما يجري من حولنا، سواءً أكان ذلك تجاه شخصٍ أم أغنية أم كتاب. فتواصلنا مع محيطنا هو ما يخرجنا من عزلتنا. أمَّا بالنسبة للتَّفهم، فهو قدرتنا على فهم العالم من حولنا. وتقديم الخدمات يُلَخِّصُه العمل على تحسين حياة الآخرين.
3. استخدم نموذج بيور:
يقترح "بيتر وونغ" عالم النفس الكندي، نموذجاً يُعرف باسم نموذج "بيور" للأفراد (PURE model)، والذي يساعدهم على إيجادِ معنىً لحياتهم:
- يدل حرف "P" على الهدف (Purpose) وامتلاك غاياتٍ نبيلة.
- يدل حرف "U" على فهم (Understating) من نحن وفهم العالم من حولنا.
- يدل حرف "R" على المسؤولية (Responsibility). وذلك يعني أنَّنا نتحمل المسؤولية الوحيدة عن اختيار الحياة التي نريدها، والاجراءات التي نتخذها والعواقب التي تترتب عليها.
- كما يدل حرف "E" على الحاجة إلى التقييم (Evaluation)، لضمان أنَّنا نسير على المسار الصحيح للوصول لأهدافنا.
لذا كما يمكنك أن تلاحظ، يوجد العديد من الطرق التي يمكنك استكشافها، والتي من شأنها أن تعود عليك بإحساسٍ واضحٍ بهدف حياتك. صحيح أنَّك قد تشعر أحياناً أن أفعالك ليست سوى قطرة في محيط، وأنَّك أصغر من أن تحدث فرقاً؛ إلا أنَّ إحساسك هذا هو إحساس خاطئ. إذ يتعلق هدف ومعنى الحياة بإبراز أفضل ما فيك، وفعل الخير تجاه نفسك والآخرين. وفي حين قد يبدو كلامي هذا مبتذلاً، إلا أنَّنا إذا التزمنا جميعاً بالهدف المتمثل في تحسين أنفسنا والعالم الذي نعيش فيه؛ فيمكن عندئذٍ أن تتحول القطرة الواحدة إلى موجة.
ملخص ما سبق:
ربما يكون البحثُ عن معنىً لحياتنا هو الدَّافع الأكثر أهمية وراء كل ما نقوم به. وهذا هو السَّبب الذي تكمن وراءه جميع الأسباب.
تتمثل إحدى أبرز طرق بناء هدفك؛ في السَّعي لتصبح أفضل نسخة من نفسك. ذلك عن طريق مساعدة وخدمة الآخرين وتحديد الأهداف والسَّعي لتحقيقها.
إنَّ ما يجعل من الصعب معرفة ما هي "الغاية من الحياة"، هو أنَّه مفهوم فضفاض إلى حدٍّ ما. إذ يمكن أن يفسَّر بتفسيرات عدَّة، تبعاً لكلِّ فردٍ منا. ولعلَّ أفضل طريقة نشبِّه بها غايتنا وهدف وجودنا؛ بأنَّها لوحة فسيفساء تتكون كل قطعة منها من إنجازاتٍ وتجارب عشناها، في كل جانب من جوانب حياتنا. إضافة لتجارب عائلتنا وأصدقائنا. لذا عليك أن تنظر إليها بمجملها، كي تستطيع أن تعرف فيما لو كنت راضياً عن الصورة التي رسمتها لنفسك.
أضف تعليقاً