الآن، أنا لا أقول أنَّ نظام التعليم في اليابان مثالي (في الواقع، لديه مجموعة كاملة من المشاكل الأخرى، على الرَّغم من أنَّ الرياضيات لا تبدو أنَّها واحدة منها)، لكنَّني اعتقدت أنَّه سيكون من المثير للاهتمام التَّحدث بهذا الصَّدد طالما أنَّنا أتينا على ذكره. في الواقع، إذا كنت أحد الوالدين، فقد ترى أشياءَ يمكنك استخدامها مع طفلك أيضاً. إذ كما سنرى لاحقاً، تلعبُ العلاقة بين الوالدين والطِّفل دوراً هامَّاً للغاية في الكيفية التي يصبح فيها الأطفال اليابانيون متعلِّمين جيدين.
علاقة الحب القائمة بين اليابان والضَّغط النَّفسي
عندما أفكر في نظام التَّعليم الياباني، أفكر شخصياً في اختبار الالتحاق بالكُليَّات الجامعية الذي سيخضع لها معظم طلاب الدراسة الثانويَّة. ربما لأنَّني سبقَ ورأيت ما فعله ذلكَ الاختبار بأصدقائي في السَّنة أو السَّنتين اللّتين سَبَقَتَا قيامهم بتأديته. إذ إنَّ ذلك الاختبار الفردي هو وحده من يُقرِّرُ مستقبلك عند نهاية المرحلة الثانوية. فأنت يتسنى لك اختيار كُليَّة واحدة تريد الذَّهاب إليها. وهذه الكُليَّة لديها متطلباتٌ تكون عبارةً عن درجةٍ مُعَيَّنة. فإذا لم تحقق تلك النتيجة، فربما لا تذهب إلى الكلية التي تريد، والكُليَّة التي تذهب إليها تُقرِّر مصيرك وراتبك المستقبلي بشكل أكبر بكثير مما يحدث في أمريكا.
لذا، فأنت تريد أن تضع نصب عينيك أفضل كلية ممكنة تعتقد أنك تستطيع التسجيلَ فيها... ولكن إذا فشلت في الاختبار، فستقضي عاماً بصفتك "رونين" (الطَّالب الياباني الذي حصل على الشهادة الثانوية، ولم يتمكن من دخول الجامعة)؛ والذي هو في الأساس ذلك العام الذي تدرس فيه وتستعد للاختبار في العام المقبل، لأنَّك لم تلتحق بالجامعة. والآن يأتي دور التَّوتر والضَّغط النَّفسي. لكن ذلك الضَّغط النفسي لا يأتي من الاختبار نفسه وحسب، بل إنَّ التَّحضير للاختبار هو أسوأ بكثير. وغالباً ما يبدأ من المدرسة الابتدائية عندما يبدأ الطِّفلُ بالذَّهاب إلى (مدارس التَّحميل cram school)، أو "جوكو" باللغة اليابانيَّة.
ليجد الطِّفل نفسه وهو يذهبُ من مدرسة إلى مدرسة أخرى (بعد انتهاء دوامه في مدرسته الأساسيَّة) من أجل أن يُصبح مؤهلاً للالتحاق بمدرسةٍ متوسطة أفضل. وإذا تمكَّن من الالتحاق بمدرسة متوسطة أفضل، فسوف يذهبُ إلى المزيد من المدارس حتى يتمكن من الالتحاق بمدرسة ثانوية أفضل. ومدرسة ثانوية أفضل تعني فرصةً أفضل للحصول على درجةٍ أعلى في امتحان القبول بالجامعة. ومع ذلك، فالطَّالب الياباني يذهب إلى المزيد من مدارس التَّحميل خلال المرحلة الثانوية لإعداد نفسه للاختبار. فلا عجب أن يطلق عليه لقب "اختبار الجحيم". وإذا تخلَّفت ولم تدخل مدرسة جيِّدة؟ حسناً، ستدخل مدرسة تحميل إضافية، ومن بعدها مدرسة اسمها (kiddo).
لا عجب إذاً أنَّ اليابان لديها واحدة من أعلى معدلات الانتحار في العالم. وعلى الرَّغم من ذلك، فإنَّ الطُّلاب اليابانيين (والمجتمع الياباني ككل) قادرون على التَّعامل مع كمياتٍ هائلة من التَّوتر والضَّغط النَّفسي. فالضَّغط الذي يتعرَّض له الفرد الياباني بشكلٍ يومي أمر مشين في جميع أنحاء العالم المتحضِّر. أعتقد أنَّ هذا الضغط الشديد هو أوَّل علامةٍ لدينا، إذ إنَّه يُشيرُ إلى سبب نجاح نظام التَّعليم الياباني، ولكن بطريقة غير مباشرة للغاية. وفي نهاية المطاف، أعتقد أنَّ الأمر يتعلق بمفهوم يعرف باسم: (آماي amae) أو الاعتماد على الأهل إلى أبعد الحدود؛ الاعتماد العاطفي.
الاعتماد العاطفي والتَّدليل
إنَّ أحد أكثر الأشياء البغيضة لدى الأطفال اليابانيين برأيي؛ هو مدى اعتمادهم على أمهاتهم. ترى هذا مراراً وتكراراً، وهذا الاعتماد المفرط على الأهل يُشجع عليه المجتمع! "أنتم تخلقون مجتمعاً من الأطفال المدللين!"، هكذا كنت أظنُّ سابقاً، إلا أنَّني قد غيَّرتُ رأيي مؤخراً. تأتي كلمة آماي من كلمة (آمايرو amaeru)، والتي يمكن تعريفها بأنَّها "أن تتمنى أن تكون محبوباً" وذلك وفقاً للمحلل النَّفسي الياباني تاكيو دوي (الرَّجل الذي أشاعَ ذلك المُصطلح). علاوةً على ذلك، لهذا المصطلح أيضاً دلالات على الحاجة إلى التَّبعية وطلب التَّسامح مع احتياجات الفرد الفعلية.
هذا النَّوع من العلاقات هو النَّوع المثالي لجميع العلاقات الوثيقة في اليابان. يبدأ الأمر بالطِّفل والأم، ولكنه يتوسع ليشمل الطالب والمعلم والطالب وكبار الشخصيات ورجل المرتبات ورئيسه في العمل، والزوج وزوجته وما إلى ذلك. إذا كان الجميع قادراً على التَّسامح في احتياجاتهم لمصلحة أي شخص آخر، فسيعمل كل شيء، أو هكذا آمنَ المجتمع الياباني منذ فترة. واتضح أنَّهم على حق.
دعنا نعود إلى أول علاقة اعتماد عاطفي لدى الجميع: الأم والطفل. تُدلل معظم الأمهات أطفالهن إلى حدٍّ ما، إذ كُلُّ أمٍّ تقريباً تطعم أطفالها وتُغيّر لهم حفاضاتهم وتهدّئهم عندما يبكون... إلخ. لكن من المفترض على الأمهات اليابانيات أن يأخذن هذا الدَّلال إلى أبعد من ذلك.
إنَّه أمر شائع في المجتمع الياباني حتى أنَّهم توصلوا إلى طرق إضافية لوصف هذا النوع من العلاقات والحديث عنه. أنت بالتَّأكيد لا ترى ذلك في العديد من الثقافات الأخرى. إنَّه أشبهُ بأن يكون لدى الأسكيمو الكثير من الكلمات التي تُشير إلى الثَّلج. فلدى اليابانيين طرق أكثر للحديث عنها لأنَّها الأكثر أهمية في مجتمعهم. إليك ما أحاول الوصول إليه، على أيَّة حال. هذا الاعتماد... هذا التَّساهل... هذا الدَّلال … هذا الآماي... هو ما يبقي المجتمع الياباني قائماً. إنَّه السَّبب الجذري للنَّجاحات التي تراها في نظام التَّعليم الياباني. أعتقد أيضاً أنَّ هذا هو السَّبب في كون المجتمع منظماً وآمناً (على الأقل في الوقت الحالي)، ويعود السَّبب في ذلك إلى كم دلال الأم طفلها. دعنا نعرف لماذا هذا مهم جداً.
المهارات المعرفية مقابل المهارات الغير معرفية
يعتقد معظم الناس أنَّ معدل الذكاء، والقدرة على الحفظ، وما إلى ذلك، هي المقاييس الأساسية لتحديد مستقبل الطفل. هذه هي ما يسميها الاقتصاديون "المهارات المعرفية" والتي تَبَيَّنَ أنَّها ليست بالتنبؤات الجيدة للنجاح في المستقبل. أمَا التَّنبؤات الجيدة هي ما يعرف باسم "المهارات غير المعرفية". وهي أشياءٌ مثل المثابرة، والتَّحكم في النفس، والفضول، والضمير، والجَّلَدْ، والثقة بالنفس (وهناك الكثيرُ، أيضاً). فكر في الأمر بهذه الطريقة: سيكون للطفل الذي يتمتع بإصرار على دراسة الرياضيات والتَّدرب عليها لمدة 10 ساعات في الأسبوع، أداءً أفضل من الطفل الذكي معرفيَّاً والذي لا يُكلِّف نفسه عناء أداء واجباته المدرسية لأنَّه كسول، ولأنَّ ثمَّةَ من أخبره أنَّه "غايةٌ في الذَّكاء".
تمَّ إبراز أهمية المهارات المعرفية مقابل المهارات الغير معرفية في دراسة أجراها جيمس هيكمان على برنامج تطوير التَّعليم العام (GED). وقارن الطلاب الذين تخرجوا من المدرسة الثانوية مع أولئك الذين اجتازوا اختبار GED، الذي يُعَدُّ سبيلاً لأولئك الذين لم يتخرجوا من المدرسة الثانوية من أجل الحصول على شيء يَحِلُّ مَحَلَّ شهادة الدراسة الثانوية.
المشكلة هي أنَّ ذلك الاختبار يقيسُ المهارات المعرفية كوسيلةٍ لمعرفة ما إذا كان الشَّخص "يعرف ما يكفي من الأشياء" لاجتياز المرحلة الثانوية. فهو إذاً يرتبط ارتباطاً وثيقاً وفي كثير من النواحي، باختبارِ حاصل الذكاء (اختبار آخر للقُدرة العقليَّة). وهنا تكمن المشكلة. إذ أنَّ اختبارالذَكاء يَفْتَرِض أنَّ المدرسة الثانوية موجودة لتعليم الطلاب المهارات المعرفية ولا شيء غير ذلك. ومع وضعنا لذلك بعين الاعتبار، دعونا نلقي نظرة كيفَ أبلى هؤلاء الطلاب في الحياة لاحقاً. إنَّه ليس مشهداً سارَّاً.
عندما نظرَ هيكمان إلى الأشخاص البالغة أعمارهم 22 عاماً من كلا المجموعتين، كان الفارق كبيراً. فقد التحقَ 3% فقط من الذين اجتازوا اختبار تطوير التعليم العام في جامعة مدة الدِّراسة فيها أربع سنوات، أو حصلوا على نوعٍ من شهادةٍ ما بعد الثانوية. مقارنةً بــ 46% من خريجي المدارس الثانوية. علاوةً على ذلك، كان لدى من اجتازوا اختبار تطوير التعليم العام نفس النتيجة بالضبط التي كانت لدى المُتسربين من المدارس الثانوية. مثلَ معدل بطالةٍ أعلى، معدلات طلاقٍ أعلى، وانخفاض في الدَّخل السَّنوي، واحتمالية أكبر لتعاطي المخدرات غير المشروعة.. وما إلى ذلك.
على الرَّغم من أنَّهم متساوون على المستوى المعرفي -أو هكذا يُفترض على الأقل- مع زملائهم من خريجي المدارس الثانوية (وأكثر ذكاءً من أولئك الذين تسربوا من المدرسة الثانوية لكنَّهم لم يحصلوا على شهادة GED)، فإنَّ نجاحاتهم المستقبلية (أو عدم وجودها) كانت هي نفسها تماماً.
ما أحاول قوله هو هذا: إنَّ القدرات غير المعرفية ينتهي بها الأمر إلى أن تكون مؤشراً أفضلَ بكثيرٍ للنجاح من القدرات المعرفية. فقدرتك على المثابرة، والتَّحكم بالنَّفس، وما إلى ذلك هي الأشياء التي تحدد مستقبل كل طالب تقريباً، وليس مدى ذكاء شخص ما... على الرَّغم من أنَّ القدرات غير المعرفية تعوِّض عن الإمكانات الإدراكية الأعلى في فتراتٍ لاحقة من الحياة. لتوضيح ذلك، علينا فقط أن ننظر لاختبار "المارشميلو" الشَّهير.
في أواخر الستينيات من القرن الماضي، قرر أستاذ في جامعة ستانفورد (مايكل) اختبار قوة إرادة الأطفال في سن الرابعة. أحضر الباحثون كل طفل إلى غرفة صغيرة وعرض عليهم قطعة مارشميلو. ومن ثمَّ قيلَ لهم إنَّ الباحث سيغادر الغرفة ويمكن للطِّفل أن يأكل المارشميلو عند عودته. ولكن إذا أرادوا تناول المارشملو على الفور، يمكنهم أن يرُنّوا الجرس، وعندها سيعود الباحث على الفور ويمكن للطفل تناوله. الفكرة هنا هو أنَّه إذا انتظر الطفل عودة الباحث من تلقاء نفسه ولم يرن الجرس، فسيحصل على قطعتي مارشميلو بدلاً من واحدة! وبهذه الطريقة، اختبروا ضبط النفس عند الطفل، وهي مهارة "غير معرفية" غايةٌ في الأهمية. وقد تبيَّن أنَّ العلاقة بين مدة انتظار الطفل ونجاحه المستقبلي كانت علاقة قوية جداً. إذ عندما قاموا بفحص الأطفال بعد مرور ما يزيد قليلاً عن عشرين عاماً، وجدوا أنَّ الأطفال الذين كانوا قادرين على الانتظار لمدة 15 دقيقة للحصول على المارشميلو، حصلوا على معدل أعلى بـ 210 نقطة في اختبار السات من أولئك الذين رنوا الجرس بعد مرور مجرد ثلاثين ثانية فقط. فكِّر في الأمر، كان الأطفال الأقوى بالمهارات غير المعرفية، قادرين على العمل بجدية أكبر وكان لديهم المزيد من قوَّة الإرادة، وضبط النَّفس (مثل: "هل يجب أن أدرس أم أشاهد التِّلفاز الليلة؟")، والجَلَد، وبسبب هذا سجلوا درجاتٍ أعلى في اختبارات السَّات، والذي يصادف أنَّ يكون له صلة مع الدَّخل المستقبلي ومؤشرات النَّجاح الأخرى.
كما أظهرت الدراسات مراراً وتكراراً، أنَّ المهارات غير المعرفية هي الأشياء التي تستحق التطوير لدى أطفالك.
الاعتماد العاطفي وتنمية المهارات الغير معرفيَّة
نحن نعلم الآن أنَّ المهارات غير المعرفية تعتبرُ وسيلةٌ ممتازة للتَّنبؤ بمستقبل الطِّفل، ولكن كيف يرتبط كُلُ ذلك بالاعتماد العاطفي؟ حسناً، لقد اتَّضح أنَّ الاتِّكال على الأهل (الآماي) ومدى ذلك الاتِّكال، يرتبط بشكلٍ مُباشر بمدى قدرة المرء على تطوير تلك المهارات الخاصة. كان أحد الباحثين (مياني Meaney) ينظرُ في تأثير أُمهات الفئران على الفئران الصِّغار. فَعندما تلعقُ الفأرة الأم وتعتني بواحدة من الجراء، فإنَّ ذلك -وبشكل مثيرٍ للدهشة- يُغيِّر بالفعل من تعبيره الجيني! إذ تكونُ بعض المواد الكيميائية مثبتةً على سلاسل معينة في الحمض النووي للجرو، وعندما تلعق الفأرة الأم وتُداعب طفلها، يصبح "تسلسل الجينات" قيد التشغيل. وعن طريق تفعيل ذلك التَّسلسل الجيني الخاص (من خلال ما يكفي من الحب والاهتمام)، يكبر أطفال الفئران ليكونوا أكثر شجاعة وفضولاً وأقلَّ عصبية.
عندما يعيشُ الفأر حياةً صحية غير مرهقة، فقد لا يسبب هذا الأمر بفرقٍ كبير. ولكن عندما يلتقط العلماء ويضغطون على الفئران الصغيرة مراراً وتكراراً من أجلِ إجراء إحدى التجارب، فإنَّ ذلك الأمر يُحدث فرقاً كبيراً. فقد وجد العلماء أنَّ أطفال الفئران الذين لديهم ارتباط قوي بأمهاتهم (الأم اعتادت أن تلعقهم لتخفيف الضغط) نشأوا مع تسلسل حمض نووي مفعل. أما الأمهات اللاتي كُنَّ أقلَّ اهتماماً فقد خلَّفنَ فئراناً كانوا أكثرَ عصبيَّةً وخجلاً وأقلَّ شجاعة. إنَّ هذه "الصِّلة" (الذي يجب أن أُشيرَ إلى أنَّها مرتبطة إلى حد كبير بالاعتماد العاطفي) قد أحدثت فرقاً كبيراً في تطوير المهارات غير المعرفية لدى هؤلاء الفئران وحياتهم المستقبلية.
وبشكلٍ غير مُستَغرَب، كان ذلك الأمر يجري على البشر كذلك. في الستينيات، أجرى اينسورث، أستاذ بجامعة جونز هوبكنز، اختباراً لدراسة هذا الأمر. كان لديه طفل عمره عام واحد وأمُّه تجلسُ في غرفة وتلعب معه لفترة من الوقت. ثم غادرت الأم الغرفة وتركت الطفل في بعض الأحيان بمفرده أو مع شخص غريب. بعد فترة، تعود الأم. ثم قاموا بتصنيف ردود الفعل من قبل الطفل:
- بعض الأطفال قاموا بالتَّرحيب بالأمَّ بسعادة، يركض صوبها لإعادة التَّواصل معها بفرح و / أو بالدموع (تَعَلُّق آمن).
- بعض الأطفال تظاهروا بتجاهل الأم عند عودتها، وبعضهم صَفَقَ يُؤنِّب الأم حالَ رجوعها، وبعضهم سقط على الأرض مُتكوِّماً على نفسه (تعلُّق قلق / مضطرب).
على الرُّغم من أنَّ اينسورث وضع نظرية مفادها أنَّ هذا الافتقار إلى الارتباط أو التَّعلق (الحالة الثانية)، بإمكانه أن "يخلق تأثيرات نفسية يمكن أن تدوم مدى الحياة" (ولقد كان على صواب، بالمناسبة)، إلا أنَّه لم يتم تطوير ذلك الإختبار إلا حتى عام 1972 من قِبل إيفريت ووترز. فقد جاءَ بـ 267 امرأة حامل وجميعهن يعشن تحت خطِّ الفقر. عندما بلغَ أطفالهنَّ عمر السَّنة، تم إخضاعهم جميعاً لاختبار الارتباط بالأم الذي قام به اينسورث في السِّتينيات. ثم في مرحلة ما قبل المدرسة، تم تصنيف ثلثي الأطفال "المتعلقين بشكل آمن" من قبل معلميهم على أنَّهم "فعالون" من حيث السُّلوك، بالمقارنة مع واحد فقط من كل ثمانية (12.5٪) من الأطفال الذين كانوا "متعلقين بقلق" حصلوا على تصنيف "فعال".
بعد 10 سنوات، تمت دعوة 48 طالباً إلى معسكر صيفي حيث تمت دراستهم من دون علمهم. أولئك الذين كانوا متعلقين بقلق بأمهاتهم أثناء الطفولة كانوا يقضون وقتاً أطول لوحدهم، وكانوا أقل ثقة، ويواجهون صعوباتٍ اجتماعيَّة أكثر. لننتقل الآن إلى المرحلة الثانوية لرؤية المفارقة الحقيقية. باستخدام بيانات الطلاب عندما كانوا أطفالاً في الرابعة من العمر، وجدوا أنَّه كان بإمكانهم التنبؤ بدقة 77 بالمئة من الأطفال الذين سيتسربون من المدرسة الثانوية... ونحن نعلم جميعاً كيف أنَّ التَّسرب من المدرسة الثانوية تجعل المتسربين يميلون لأَن يُصبحوا حاملينَ لشهادة (GED) أو بدونها.
الشيء المثير للاهتمام حول "الارتباط" هو كيف تفكر المجتمعات اليابانية والأمريكية في الأمر بطريقة مختلفة. إذ في اليابان، يتم تشجيع هذا "الارتباط" بشدة، حتى في العلاقات التي تتعدى علاقة الطفل بأمه. أما في أمريكا، فيتم التَّشجيع على الاستقلالية أكثر. وعلى الرَّغم من أنَّ موقف أمريكا قد خفت حدته منذ أيام كتاب الدكتور سبوك للأطفال، إلا أنَّ هذا ما زال يحدث إلى حد ما.
إنَّ هذا مجرد تخمين، لكنَّني أتساءل إن كان للأمر علاقة بتفشي مرض اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه في مجتمعنا. السَّبب في أنني أقول هذا هو بسبب الفرق بين عدد الأولاد والبنات الذين يعانون منه. فالأَولاد في أمريكا يعانون من اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط بنسبة 13.2٪، أما الفتيات 5.6٪ فقط. إذا كنت تفكر في الفرق في كيفية تربية الأولاد والبنات، فمن الصعب تجاهل هذا التناقض. إذ يتم تدليل الفتيات في أمريكا أكثر، وإعطاءهنَّ المزيدَ من الاهتمام، وهنَّ أكثر احتمالاً لأن يتعلَّمن التَّبعيَّة. بالمقارنة مع الأولاد الذين من المفترض أن يكونوا أكثر استقلالية وصلابة. هل من الممكن أن تكون الطريقة التي نُرَبّي بها الأولاد مقابل البنات، هي التي تجعل المزيد من الأولاد يعانون من مشكلة في الاهتمام؟
إنَّ ضبط النَّفس وقوة الإرادة والقدرة على الاهتمام كلها مهارات غير معرفية. فإذا كان "التَّعلق" و "التَّبعية" هما الأمران اللذان يطوران مهارات الطفل غير الإدراكية... فهل هذا هو السَّبب في أنَّ عدد الأولاد يعانون من اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه أكثر من البنات؟ وهل يمكن أن يكون الجنون الذي رافق كتاب "رعاية الأطفال والرُّضع" من الدكتور سبوك، (الذي شجع الوالدين على البرودة عند الأطفال وعدم تدليلهم) جزءاً من السَّبب وراء ارتفاع معدلات الإصابة باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه في الولايات المتحدة، وذلك بسبب الافتقار إلى أمرٍ مثلَ الاعتماد العاطفي؟ يبدو الأمر ممكناً بالتَّأكيد، رغم أنَّني سأضطر إلى تقديمه إلى الخبراء في هذا الأمر، لأنَّه مجرد تخمين.
وبالعودة إلى تجربة الارتباط، وكيف للدلال أن يبطل مفعول التَّوتُّر، إنَّ ما يثير الاهتمام حقاً في ذلك الأمر (الذي اكتشفناه من أمهات الفئران)، هو أنَّه طالما أنَّ الأم تهتم باحتياجات أطفالها وتدللهم، فيمكن تلافي أضرار التَّوتر. لقد تبين مراراً وتكراراً بأنَّ الحياة التي يسودها التَّوتُّر ضارة جداً بالأطفال ونموهم. فأثناء الطُّفولة، يهاجم ذلك التَّوتر قشرة الفص الجبهي، وهي جزء حاسم لأنشطة التنظيم الذاتي بجميع أنواعها، العاطفية والمعرفية على حدٍّ سواء. ونتيجةً لذلك، فإنَّ الأطفال الذين يكبرون في بيئات مرهقة يجدون صعوبة أكبر في التَّركيز وصعوبةً في الجلوس ساكنين، وصعوبة في تجاوز خيبات الأمل، وصعوبة في اتباع التَّوجيهات".
في الواقع، هناك ارتباطات مباشرة بين ضغوط الطفولة وحياتك المستقبلية. فباستخدام شيء يسمى "مجموع ACE" (وهي طريقة لتحديد مستويات التَّوتر في مرحلة الطفولة)، قامت طَبيبة الأطفال بروك هاريس بإرسال استبيان إلى 700 مريض في عيادتها. ثم حولت الإجابات إلى مجموع ACE ووجدت أمراً مذهلاً. أولئك الذين لديهم 0-3 درجة ACE (توتر منخفض في مرحلة الطفولة)، حوالي 3% منهم كان لديه مشاكل في التَّعلم أو السلوك، وذلك بالمقارنة مع 51٪ ممن حصلوا على درجة ACE أعلى من 4.
يؤثر التَّوتر أثناء الطفولة على قدرتك على الاهتمام والتحكم في أعصابك واتباع التوجيهات وما إلى ذلك... أشياء مرتبطة مباشرة بالمهارات غير المعرفية التي تحدث لتوقع نجاحك في المستقبل.
قد تقول لي فجأة: "انتظر يا رجل، لقد قلت منذ قليل أنَّ الطفولة اليابانية مرهقة للغاية!" هذا صحيح، ولكن هل تذكر أمهات الفئران وأطفال الفئران؟ يمكن أن يزول أثر التَّوتر عن طريق تدليل أمهات الفئران لأطفالهن. مع وجود ارتباط قوي بما فيه الكفاية، يتم التَّخلص من جميع ضغوطات المنزل والحياة، مما يعني أنَّه يمكن للطفل أن يتعلم من الإجهاد من دون جميع المشاكل الطويلة الأجل التي يمكن أن يسببها له.
إحدى دراسات من جامعة نيويورك تُبين ذلك بشكلٍ واضح. إذ تَتَبَّع كلانسي بلير 1200 طفل منذ ولادتهم، و قام بقياس ردود أفعالهم تجاه الضُّغوطات والتَّوتر من خلال التَّموجات في مستويات هرمون الكورتيزول. وقد أثرت اضطرابات الأسرة وغيرها من المشاكل في المنزل، بشكلٍ واضحٍ على مستويات الكورتيزول عند الطفل، وهو أمر متوقع. ولكن، وجد بلير أنَّه إذا كانت الأم مستجيبة ومتنبهة لطفلها، وكان هناك هذا الارتباط، فإنَّ هذا من شأنه أن يُلغي التَّوتر ويضبط مستويات الكورتيزول لدى الطفل. مما يحول دون تلف قشرة الفص الجبهي، ويسمحُ بدَوره لمهارات الطفل غير المعرفية بالازدهار (ناهيك عن المهارات المعرفية أيضاً!). كل ذلك يعزى للاعتماد العاطفي.
هذا هو السَّبب الذي يجعلني أعتقد أنَّ الطِّفل الياباني قادرٌ على أن ينمو في مثل ذلك النظام الدراسي الصَّعب والمرهق. إذ على الرَّغم من ذلك الضغط النفسي الذي يتعرض له، فإنَّ الأمرَ عادةً ما ينتهي معه بسلام! فمقدار الضغط الذي يجعل لزاماً على الأم أن تدلل أطفالها، هو ما يجعل هؤلاء الأطفال واقفين على أقدامهم وأصحَّاء. أنا لا أقول أنَّه لا يوجد مساوئ لهذا الأمر، لأنَّه يوجد، لكن من الصَّعب تجاهل مدى تعاملِ الكثير من الأطفال مع الإجهاد، بشكلٍ يسمح لهم بتعلُّم دروسٍ هامة عن الفشل ويجعلهم يتعاملون معه ويصبحون أقوى. كما أنَّ أمهاتهم وجميع الأشخاص الآخرين الذين لديهم علاقات ترتكز على مفهوم الاعتماد العاطفي، موجودون لمساعدتهم والحيلولة دونَ انهيارهم.
شاهد بالفيديو: 8 ممارسات لتزرع الثقة في نفس طفلك
لِنُضف الإجهاد و"المثابرة" للمعادلة
والآن بتنا نعلم أنَّ الاعتماد العاطفي (الآماي) تسمح للأطفال بالتَّعامل مع الإجهاد والضَّغط النفسي، من دون أن تطغى عليهم تأثيراته السَّلبية. ونحن نعلم أيضاً أن الاعتماد العاطفي يُساهم في إنشاء جيلٍ من الأطفال يتمتَّعون بمهارات غير معرفية أقوى، والذي يُعتبر أفضل مؤشرٍ للنَّجاح في المستقبل. ولكن، هذا يركِّزُ إلى حدٍّ ما على المراحل الأولى من الطُّفولة (على الرَّغم من أنَّه هناك الكثير من أطفال المدارس اليابانية الأكبر سناً الذين هم بدورهم يعتمدون وبدرجة كبيرةٍ على أمهاتهم).
وماذا عن المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية في المدرسة؟ ما الذي يحدث هنا لتطوير هؤلاء الجنود الذين يمتلكون المهارات الغير المعرفية (وبالتَّالي المعرفية لاحقاً)؟
بالنسبة لي يتعلق الأمر بكلمة (ganbare - 頑 張 れ が ん ば れ)، والتي تعني "المثابرة".
إنَّها كلمةٌ شائعة للغاية في المجتمع الياباني. في الواقع، إنَّ النَّاس هناكَ يهتفون بها لأدنى سببٍ تقريباً. فإذا كُنتَ تلعبُ التِّنس، فسيصرخ أنصارك فيك "ganbare ابذل أقصى ما بوسعك" بدلاً من أن يقولوا "أنتَ لها!"، أمَّا إذا كنت ستخوض امتحاناً صعباً، فستسمع "ganbare" أيضاً... كما لو أنَّ بذلَ أقصى ما بوسعك سيساعدك في الحصول على درجة أفضل قبل إجراء الإختبار حتَّى. الفرقُ واضح جدَّاً على أيَّةِ حال. فعبارَة "يمكنك أن تفعل ذلك!" تتمحور حول الأمل. أما عبارة "غانباري" مفتوحة على احتمال عدم نجاحك بالقيام بذلك (تم أخذ احتمال الفشل بعين الاعتبار)، لكنَّها ومع ذلك تطالبك بأن تبذل قصارى جهدك، من دون أن تتجاهل احتمال الفشل. في الواقع، لقد اتَّضح أنَّ مجرد بذل جهد أكبر سيجعلك تحصل على درجات اختبار أفضل، بغض النظر عن استعدادك لللاختبار. وذلك ما يدعوه علماء النَّفس "الاجتهاد"، وهي مهارة غير معرفية هامَّة بشكل لا يصدق. أنا أؤمن باستشراء "الغانباري" (المثابرة!) من كل حنجرةٍ يابانية، لأنَّهم وبكل بساطة يُذكِّرون النَّاس بأن يكونوا أكثر ضميراً. إنَّهم يُذكِّرون النَّاس بأن يبذلوا أقصى ما بوسعهم حتى من أجل صَغائر الأمور، وأن يركزوا ويحاولوا جاهدين حتى عندما لا يكون عليهم القيامَ بذلك.
في إحدى الدِّراسات التي أُجريت خلال الستِّينيات، أخضع كالفن إدلوند تسعةً وسبعينَ طفلاً لاختبار الذَّكاء. كلٌّ منهم لديهم خلفيات اجتماعية واقتصادية متماثلة. ومن ثم قام بتقسيم المجموعة إلى قِسمين وجعلهم يبدأون بالاختبار. بعد سبعة أسابيع، خضعوا مرَّةً أخرى لنفس الاختبار، إلا أنَّه في تلكَ المرَّة أخبرَ إحدى المجموعات بأنَّها ستحصل على حلوى M&M لكلِّ إجابةٍ صحيحة. في الاختبار الأول، كان لدى المجموعتين مُعدَّل ذكاءٍ متوسِّطٍ إلى حدٍّ ما. في الاختبار الثاني، ارتفعَ مُعدَّل الذَّكاء لدى المجموعة التي حصلت على حلوى M&M بمعدل 12 نقطة. ومن أجل التَّوسع في تلك التَّجربة، قام باحثان في جامعة فلوريدا بتقسيم المجموعتين. الجزء المثير للاهتمام هو أنَّ الأطفال "الذين يعانون من انخفاضٍ في معدَّل الذكاء"، والذين سجلوا 79 نقطة كمعدل وسطي في اختبار الذكاء، سجلوا الآن معدَّل 97، وهو معدَّلٌ متوسط لا منخفض. في هذه الحالة، ما هو معدل ذكائهم الحقيقي؟ هل هو الـ 79 -والذي يعتبر معدَّلاً منخفضاً- عندما لم يكونوا "يحاولون بشدة"، أم أنَّه 97 درجة التي حصلوا عليه عندما بذلوا قُصارى جهدهم فيه؟
أشعر أنَّ هذا الأمر يسري على كُلِّ شيء. إذ سيساعد هذا "الاجتهاد" كُلَّاً من الأطفال والبالغين على تحسين أدائهم في شتَّى المجالات، وليس فقط في اختبارات الذَّكاء. فالاهتمام الكافي وأخذ الأمورِ بجدِّيةٍ أكبر حتى عندما لا تكون مضطرَّاً إلى ذلك هو دليلٌ على أنَّك تمتلك اصراراً، وتَحكُّماً بالنَّفس، وبعض المهارات غير المعرفية الأخرى.
إذ فقط من خلال "بذلكَ قُصارى جهدك"، يمكنكَ أن تُصبح أكثر ذكاءً، ويأتي ذلك الحافزُ لأن تبذلَ قصارى جهدك متمثِّلاً بكلمةٍ واحدة، أراهن أنَّه بإمكانك الآن تخمين ما هي تلك الكلمة: "غانباري - المثابرة".
وضعُ صورٍ نَمطيَّة وصعوباتُ التَّعلُّم
هناك اختلافٌ كبيرٌ آخرُ أراهُ بين الأطفال اليابانيين والأمريكيين؛ وهو كيفية فصل الأطفالِ بعضهم عن بعض. هذا صحيح، فحتَّى بعد انتهاء الفصل العنصري في الولايات المُتَّحدة، ما زلنا نرى نوعاً آخرَ من الفصل في أمريكا: وهو الفصل المعرفي. في اليابان، إذا تراجع مستواك الدِّراسي، فلن تتأخر عن الدِّراسة ولن يتمُّ فصلك عن رفاقك ووضعك في "فصولٍ دراسيَّةٍ خاصَّة" (الشيء بالشَّيء يُذكر؛ إنَّ الكثير من الناس تطغى عليهم الصِّبغة المؤسسية، لسوء الحظ). كلا، لا يحدث ذلك في اليابان، إذ يمكنك البقاء مع زملاءِ صفِّكَ والتَّخَرُّجَ معهم، وهذا أمرٌ قاطع لا مفرَّ منه.
الفكرةُ تكمنُ في أنَّ "هوية المجموعة" هي قُوَّةٌ هائلة. إذا عرَّفت نفسك على أنَّك شخصٌ غبي، فسوف لن تُبليَ حسناً في المدرسة. أمَّا إذا عرفت نفسك على أنَّك شخصٌ "مختلف"، فسوف تتصرف بشكلٍ مُختلف. في إحدى الدِّراسات التي أجريت في التِّسعينيات، تم اختبار الطلاب في جامعة برينستون حول مدى قدرتهم على إكمال دورةِ غولفٍ مصغَّرة مكونة من 10 حُفَر. بالنِّسبةِ للطلاب البيض الذين قيل لهم إنَّ هذا هو اختبارٌ "لقدرتهم الطبيعية في الرِّياضة"، فقد سجلوا 4 ضربات أقل من طُلاب بيضٍ آخرين قيلَ لهم إنَّ هذا اختبارٌ يهدف إلى قياس قدرتهم على التَّفكير بطريقةٍ استراتيجيَّة.
وبالمقابل بالنِّسبة للطلاب السُّود، فعندما تمَّ إخبارهم أنَّ هذا كان بمثابة اختبار للمعلومات الاستراتيجية، فقد كانوا أسوأ بأربع ضربات. أمَّا عندما قيل لهم إنَّه كان اختباراً للقدرة الرياضية الطبيعية، فقد حققوا أداءً أفضل. إذاً كما ترى، يمكن لوضعكَ لنفسك ضمن قوالب نمطية، التَّأثير على طريقةِ أدائك.
في الصفوف الدِّراسية الأمريكية، يتم وضع الطلاب المصابين باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه ضمن قوالب نمطيِّةٍ تضعهم على أنَّهم أقل قدرة على الانتباهِ في المدرسة. وفي حالاتٍ أكثرَ تطرفاً، يمكن وضعهم في صفوفٍ خاصة حيث يصبح هذا القالب النَّمطي أقوى. أمَّا في الصُّفوفِ الدِّراسية اليابانية، فأنتَ في صفِّك سواءً أَأَعجبك ذلك أم لا، ويتوقع من الجميع أن يكونوا متماثلين على مستوى الأداء، في السَّرَّاء والضَّراء.
أودُّ أن أعتقد أنَّ هذا التَّوقع -أن تكونَ جزءاً من وحدة المجموعة في الصَّف المدرسي- هو جزء من السَّبب الذي يجعل الطلاب في اليابان يحرزون نتائج أفضل من نظرائهم في الولايات المتحدة. لكن إيَّاكَ أن يدفعنَّك ذلك لكي تَظنَّ أنَّ التَّركيزَ على المجموعةِ خالٍ من المساوئ. إذ عندما تكون مختلفاً، غالباً ما يتم نبذك أو التَّنمر عليكَ أكثر مما يحدث في الصفوف الدراسية في الولايات المتحدة، وهو أمر له نفس التَّبعات السَّيئة التي لدى الفصل (فصل الطلاب المختلفين عن نظرائهم الطبيعيين) في الصُّفوف الدِّراسية، لا بل قد يكون ربَّما أسوأ). وبالتَّالي فكما يوجد إيجابياتٌ لذلك الأمر، هناك أيضاً بعض السَّلبيات فيه. فأولاً وآخراً، إنَّ نظام التَّعليم في اليابان أبعد ما يكون عن الكمال.
توازن دقيق
لقد رأينا كيف أنَّ اهتمام الأم يعطي طفلها الأدوات التي تُمَكِّنُه من السَّيطرة على عالمه. لقد رأينا أيضاً كيف تتخلَّل المهارات غير المعرفية، مثل المثابرة، كل زاوية وركن من أركان المجتمع الياباني. بعد ذلك، ألقينا نظرة على وضع الصُّور النَّمطية وكيف يتم تشجيعها بدرجةٍ أقل، على الأقل فيما يتعلق بـ "من هو ذكي ومن هو غير ذكي"، مما يمنح الجميع أرضيَّةً أكثرَ تكافؤاً.
بإمكاني القول أنَّ اليابان تُنشئ -وبلا شك- الكثيرَ من الأطفال مع الكثير من العزم والمثابرة. وبعد رؤية التَّأثير الذي يمكن أن تحدثه الآماي (الاعتماد العاطفي) على طفل يكبر (في أي مكان في العالم)، يجعلني ذلك أتساءل عما إذا كان هذا يشغل حَيِّزاً كبيراً من السبب في أنَّ الأطفال اليابانيين يمكنهم تحمل الكثير من التوتر والمشقة أثناء تعليمهم (وما بعده... وصولاً للحياة الوظيفيَّة!). كما أنَّني أتساءل عما إذا كان هذا هو السَّبب الذي يدفعهم للضغط بشدَّةٍ على أطفالهم. هل يفعلون ذلك لعلمهم أنَّ أطفالهم يستطيعون تحمُّل ذلك الكَّمَّ الهائل من الضَّغط؟ أعتقد أنَّهم كذلك.
في حين أنَّ تدليل طفلك وتركه يعتمد عليك أمرٌ له بالغ الأثر في تحييد النتائج الضارة للضَّغط النَّفسي في سنٍّ مبكرة، فإنَّ الضَّغط عليهم له أهميته كذلك. في الآونة الأخيرة، كان الكثير من علماء النفس ينظرون إلى حياة الأثرياء وأطفالهم، ويفاجؤون عندما يكتشفوا أنَّ هؤلاء الأطفال يبدوا أنَّهم يواجهون مشاكل أكثر من تلك التي يواجهها نظرائهم الفقراء.
عندما تنظر إلى آباء الأطفال الأثرياء الذين يذهبون إلى مدارس فاخرة، تبدأ في رؤية نوعين من المشاكل المتعلِّقة بالآباء.
أوَّلهم هو الآباء الذين ينفصلون عاطفياً عن أبنائهم (أين هم من مبدأ الاعتماد العاطفي؟)، بينما لا يزالون يتوقعون مستويات عالية من الإنجاز (وهنا تجد الإجهاد والضَّغط النَّفسي المُطبَّق على أبنائهم). فَبالنسبة لهم، أولادهم أولاً وآخراً يذهبون إلى مدرسة خاصة للأغنياء، لذا يجب عليهم أن يُبلوا حسناً في دراستهم. وقُضي الأمر!!!
أمَّا هؤلاء الأطفال، الذين ينتهي بهم الأمر يواجهون مشاكل في التَّعلق بوالديهم، ينتهي بهم المطاف بكل أنواع المشاكل فيما بعد:
فقد وُجِدَ وبشكل مثير للدَّهشة، أنَّ المراهقين الأثرياء يتعاطونَ الكحول والسجائر والماريجوانا وأشدَّ أنواع المخدرات غير القانونية، أكثر من نُظرائهم ذوي الدخل المنخفض. وكانت ما نسبته 35% من الفتيات من ساكنات ضواحي المدن، قد اختبرنَ من قبل تلك المواد الأربعة جميعها، مقارنةً بنسبة 15% من فتيات الأحياء الفقيرة في المدن. كما عانت الفتيات الثَّريات طبقاً لهذه الدراسة من ارتفاعٍ في معدلات الاكتئاب. كما أبلغَ ما نسبته 22% منهنَّ عن وجود أعراض مرضية بارزةٍ عندهن. (كيف سينجح هؤلاء الأطفال في تلك الحالة؟!!).
أمَّا النَّوع الثاني من الآباءُ هو على النَّقيضِ من النَّوعِ الأول؛ هم هؤلاء الآباء الذين يُبالغون وبشدَّة في تدليلِ أطفالهم. إذ توضح إحدى الدراسات كيف يميل الأشخاص الذين يكسبون مليون دولار أو أكثر سنوياً، إلى أن يكونوا "أقلَّ صرامةٍ من آبائهم". وهو ما يعني بالأساس أنَّهم يجعلونَ الحياة غايةً في السُّهولةِ على أبنائهم. وهذا ما يُترجم إلى الكثير من الدَّلال والقليل جدَّاً من الضَّغط عليهم، وكما تعلَّمنا من آباء النوع الأول، ينبغي عليك ألَّا تملك واحدةً دون الأُخرى. هذا النوع من الآباء تجدهم يحثُّون المعلمين على أن يرفعوا درجات أبنائهم في الاختبارات، أو أن يمنحوا مزيداً من الوقتِ لأبنائهم من أجلِ القيام ببعض المهام، أو حتى يطلبونَ أن يُعيد أطفالهم الامتحان مرة أخرى. ومن دون أن يضطرُّوا أبدًا للتعامل مع تبعاتِ فشلهم، ومن دون أن يتعرَّضوا للضُّغوط، فإنَّ هؤلاء الأطفال يكبرون وهم لا حولَ لهم ولا قوَّة، وغير قادرينَ على مجابهة تحديات الحياة الواقعيَّة.
إنَّ الكثيرَ من الاعتماد العاطفي (الآماي) ليس جيداً، والشُّعور بالضغط الشديد ليس جيداً أيضاً، لكن مع توافر نسبة متساوية فيما بينهما…. يؤول الأمر إلى شكلٍ جيد؛ لذا في مجتمعٍ يغمره الاعتماد العاطفي، يصبح عندها منطقيَّاً أن نشهد معدل متساوي من الضغط، أمَّا حينما يصبح هذان الأمران غير متوازنين، فستُصْدَم عندئذٍ بمشاكل على الصَّعيدين التَّعليمي والاجتماعي.
كيف نجحَ الأطفال اليابانيون؟
إذاً إليكم كيف أرى الأمور تحدث في المجتمع الياباني… على الأقل الأمور التي تجري بشكلٍ سليمٍ لديهم. إذ هناك الكثير من الأمور الخاطئة كذلك، غير أنَّه مع هوس أميركا في الآونة الأخيرة "بجعل نظام مدارسها يبدو مثل اليابان بدرجة أكبر"، فكَّرت في أنَّه من المفيد إلقاء الضوء على الأمر برُمَّته وبكل جزئياته من أجل أن ترى لمَاذا يعمل النظام جيداً، وذلكَ بدلاً من النَّظر للأمر بشكلٍ سطحي ومحاولة تبديد مزيد من الأموال على الرياضيات والعلوم.
أولاً، يولدُ الطِّفل. يمكنني أن أتطرق بالتَّفصيل في كيفَ تميل الأمهات اليابانيات إلى اختيار الولادات الطبيعية على حساب الولادة القيصريَّة، وكيف يخلق ذلك ارتباطاً أقوى بين الوليدِ والأم، لكنَّني لا أعرف الكثير عن ذلك، لذا دعونا نترك هذا الجزء لمن يفقه فيه.
بعد ذلك ينمو الطِّفل والأم بالقرب من بعضهم، وعبر كل الاعتماد العاطفي (الآماي) الذي تمنحه الأم، ينمو شعور بالاعتمادية من جانب الطفل تجاهَ أمِّه، ويتشكَّل ذلك النَّوع من التعلُّق، وينمو خلال فترة الطفولة. إنَّ هذه الاعتمادية تبدو بغيضة حقاً لكل مَن لم يكبر ويترعرع في اليابان.
إنَّ تلك الكميَّة المكثفة للاعتماد العاطفي هي ما تؤسس لمستقبلهم، وبحلول وقت التحاقهم بالمدرسة، يصبحون أكثر شجاعةً وفضولاً، ولديهم تحكُّم أعلى بالذات وغيرها من الأمور، وتتطور معهم كلُّ تلكَ المهارات غير المعرفية. أعتقد أنَّه هذا هو السبب وراء رؤيتك طفلاً في الثالثة من عُمره يستقل القطار بنفسه، ويذهب لقضاء حاجيات والديه وما إلى ذلك. أنتَ لن ترَ ذلك في أمريكا أبداً، على الرَّغم من أنَّني أعتقد أنَّ هذا يرجع في الغالب إلى جميع الأشرار الموجودين هناك (هل هؤلاء الأشرار لم يحصلوا على كفايتهم من الآماي يا ترى؟). وعندما يلتحقون بالمدرسة، فإنَّ تلكَ المهارات غير المعرفية تساعدهم في التَّواصل اجتماعيَّاً بشكلٍ أفضل وفي التَّعامل مع الإحباطات، إذ إنَّ الأطفال مشاغبين للغاية وعادةً ما يفعلون ما يحلو لهم، وأن تستطيع التَّعامل مع الأطفال الآخرين وأن تُسيطرَ على أعصابك؛ هو ما سوف يجعلك تستمر خلال سنوات المدرسة الأولى.
ومن هنا تبدأ حقاً بمشاهدة الكثير من المُثابرةِ أيضاً، وهي إحدى المهارات غير المعرفية التي تعتبر هامَّة جداً لتعليم كل شخص في المجتمع الياباني. وتستمر وتنطبع هذه الصفة في ذاكرتك في كافة جوانب الحياة، ويمكننا رؤية العديد من طلاب المرحلة الإعدادية والثانوية يُقدِّرون المثابرة ويفضلونها على القدرة الطبيعية. في واقع الأمر هل سبقَ لك وأن شاهدت فيلم رسوم متحركة (أنيمي) ياباني لم يكن يدور حول بعض الأطفال يتغلَّبون على الصِّعاب فقط عبرَ بذل قصارى جهدهم؟ حسناً، ربما لم يسبق لك وأن رأيتَ ذلك، لكن هذا الموضوع متكرر بشدة لسببٍ ما. كل هذا النمو الشخصي يصل أقصى مداه عند نهاية المرحلة الثانوية، عندما يُضطرون لاجتياز اختبار التحاقهم بالجامعة، والسبَّب الوحيد لعدم تدميرهم من قِبل كل هذه الضغوطات حتى هذه اللحظة يرجع إلى الطريقة التي ترتكز إليها تلك العلاقات: إذ يرجع الأمر برمَّته إلى الاعتماد العاطفي، من المعلمين والطلاب الآخرين والأقارب… وغيرهم. إنَّ تكرار هذه العلاقة بين الأم والطفل هو السبيل الوحيد لتحقيق التوازن التَّخلص من التوتر والضغط النَّفسي، الذي يتواجد أصلاً في اليابان أكثر بكثير من معظم الأماكن الأخرى في العالم.
أنا لا أعلم من الذي جاء أولاً، وهل ضغوطات المجتمع جعلت اليابان يتطوَّر بطريقة تسمح لهم بمواكبتها؟ أم هل ما حدث أنَّ الاعتماد العاطفي في المجتمع هو ما سمحَ لهم بالتَّعامل مع الشعور المتزايد بالضغط؛ لذا قاموا بإضافة المزيد والمزيد منه، بشكلٍ يسمح لأطفالهم بالتعلُّم والنمو على نحوٍ أقوى؟ إنَّ هذا الأمرَ لهوَ تجسيدٌ حيٌّ لمعضلة الدجاجة والبيضة.
بغضِّ النَّظر عن الإجابة، أعتقد أننا سنشهد تغيُّراً في الأمور؛ فأنا أعتقد أنّ التغيُّر يحصل في حقيقة الأمر. إذ يتحول نظام التَّعليم المدرسي الياباني ليُصبِحَ أقلَّ "يابانية"، وربما يكون ذلك أمراً حسناً، وربما سنشهد مزيداً من الابتكار يخرج عن هذا التغيُّر (شيء ما يميل الأميريكيون لفعله بطريقة أفضل)، لدي شعور بأن هناك حلاَّ وسطاً يُرضي الجميع، وعلى الرغم من ذلك، لا أعتقد أنَّ هذا الحل في المنتصف تماماً؛ لأنني مؤمن أنَّ العلم قد قال كلمته فيما يتعلَّق بالكثير من هذه الأفكار، لكن أعتقد أنَّ هذا الحل يحمل في طياته ضغوطاتٍ أقلَّ مما لدى المجتمع الياباني اليوم.
ومع ذلك ما زال بإمكاننا أن نتعلم الكثير من المجتمع الياباني، ويمكنهم تعلُّم الكثير من المجتمع الأمريكي، طالما أنَّ التَّعليم يحافظ على تطوره بتقدُّم الأجيال، فسوف نرى أشياءَ جيدة تحدث، مع أنَّ الأمر من المرجح أن يستغرق طويلاً حتى نتمكن من تغيير كامل مجتمعنا (وهو أمر، كما أعتقد، شبه مستحيل في مدة زمنيَّة قصيرة).
أضف تعليقاً