وأصبح الحديث عن السعادة والمال من زاوية مختلفة كالحديث عن شيء من المسلمات، والطعن في بديهيات الأمور وأكثرها صحة، والسؤال هنا: إلى أي حد غيَّبنا عقولنا عن رؤية الحقيقة؟ إلى أي حد لهثنا وراء التيارات المجتمعية والأفكار الدارجة والمظاهر المنتشرة، دون أن نبحث في عمق الأشياء وأصولها وجوهرها؟.
والسؤال هنا: إن كان المال يشتري السعادة، فلماذا نجد أغنياءً تعساء؟ ولماذا ينتحر كثير من الأثرياء كل عام؟
في الحقيقة لا تفترض الإجابة على هذا السؤال أنَّ المال غير هام وينبغي عدم التفكير فيه؛ بل تفترض وجوب التفكير في مفاهيم السعادة والمال من زوايا مختلفة أكثر عمقاً، وغير مطروقة من قبل.
أخطأ الناس عندما ربطوا السعادة بالمال، ووجدوا أن لا سعادة دون مال، في حين أنَّ كليهما مختلف تماماً عن الآخر، ومرَّة أُخرى؛ هذا لا يعني أنَّ المال غير هام؛ بل يعني أنَّ كلاً من المال والسعادة هام جداً في تجربتنا الأرضية، ولكن لكل منها وظيفته ودوره المختلف عن الآخر.
إن تعمَّقنا في رؤية المال من زاوية مختلفة؛ لوجدنا أنَّه وسيلة لتيسير أمور الحياة، وهو تجسيد حقيقي للوفرة في حياتك، وهو طاقة إيجابية جداً. والمفارقة هنا أنَّ الشخص الغني ليس مَن يملك المال، فقد تُخفِي مظاهر البذخ الفارهة والتَّرف الشديد في باطنها كثيراً من الفقر والعوز، وقد تسكن روح الغنى والوفرة في قلب المظاهر البسيطة والمتواضعة.
الإنسان الغني هو مَن يملك شغفاً وأفكاراً مُلهِمة يدافع لأجلها حتى آخر يوم في حياته، باحثاً ليل نهار في كيفية بناء مشروع يقدم قيمة مضافة له وللآخرين، والمفارقة هنا أنَّه قد لا يملك فلساً واحداً في أي بنك من البنوك؛ ولكنَّه يملك أفكاراً وإرادة!
وهنا تتقاطع السعادة مع الغنى الحقيقي، فقد قلتُ سابقاً أنَّ السعادة لا تتقاطع مع المال؛ لكنَّها تتقاطع مع الغنى، ومَن يملك عقلية الغني؛ فحكماً سيكون سعيداً.
أن تكون سعيداً يعني أن تأخذ قراراً بتغيير أسلوب حياتك تماماً، فتُعطي اهتماماً وحباً لكل تفصيل من تفاصيلها، وتجد النِّعم والبركة في أدق تفاصيل حياتك، ويعني أن تضع قدمك في طريق شغفك وتصعد رويداً رويداً بحب وبلا عجلة وبمنتهى السعادة، وتُعلِّق سعادتك على الطريق لا على النتيجة، لذلك تبقى هادئاً مطمئناً وواثقاً.
سعادتك حرة، فلا تُعلِّقها في أي شيء؛ بل اتركها تسبح في كونك الداخلي في كل لحظة معبِّرة عن ذاتها بتلقائية. عندما تُعلِّق سعادتك بحصولك على المال، وتقضي أيامك في حالة انتظار قاتلة، مؤجلاً سعادتك ريثما تحصل على المال؛ عندها ستفقد المتعة في كل شيء، وتتحول نظرتك إلى الأشياء نظرة مادية بحتة، فلا يعود احتضانك لطفل صغير سبباً من أسباب تفاؤلك، ولا تستطيع المواظبة على إعطاء الاهتمام والامتنان لتلك الابتسامة الصادقة المنبعثة من والدتك، وتفقد الإحساس بتلك اللَّهفة الصادقة التي اختبرتها لحظة دخولك طريق شغفك لأول مرة، وهنا تبتعد عن حقيقتك وتقترب من صورتك الظاهرة السطحية المزيفة.
يكمن حل معضلة المال والسعادة في كلمة واحدة وهي الحقيقة؛ هذا ما سنعرفه من خلال هذا المقال.
أولاً. ماهو المال وماهي السعادة؟
السعادة هي حالة من المتعة الدائمة: وهي أسلوب حياة ومنهجية تفكير مختلفة، حالة نحياها بقرار ذاتي وواعي وليست غاية أو هدفاً، فإذا تعاملنا مع السعادة على أنَّها غاية، كأن يقول شخص ما: "أنا غايتي في الحياة أن أكون سعيداً" فهذا يعني أنَّ السعادة أمر صعب المنال ويتطلب سنوات من السعي للوصول إليه، فيُبَرمج في لا وعي الشخص على أنَّ السعادة مهمة مستحيلة؛ في حين أنَّ السعادة من أبسط الحالات وأكثرها طبيعية، فعندما تحضن طفلاً صغيراً وتشم رائحته الرائعة وتتحسس ملمس بشرته الناعمة؛ فهذا تجسيد حقيقي للسعادة.
وعندما تكتشف كنوزك الداخلية وشغفك الحقيقي وتخطو الخطوات الأولى في سبيله؛ فهذا انعكاس صادق للسعادة، وعندما تُعطِي من قلبك وروحك بهدف تحقيق قيمة مضافة للآخرين؛ فهذا باب هام من أبواب السعادة، وعندما تشعر بالامتنان كل لحظة لما لديك من نعم؛ فهذه ترجمة حرفية للسعادة.
أمَّا المال فهو ما يُيسِّر أمورك: وهو عبارة عن تحديد دقيق لمدى الخدمة التي يقدمها الشخص أو المُنتِج، اسأل نفسك: "لماذا الهاتف المحمول من نوع آبل يُعَد الأغلى على الإطلاق؟"؛ لأنَّ حجم الإبداع فيه عال ودقة التصنيع مرتفعة وموثوقيته شديدة؛ إذاً المال يتناسب طرداً مع القيمة المُقدمة، ودخل أي فرد على وجه الأرض يتناسب طرداً مع القيمة المقدمة من قبله، فدخل مستشار ومُدرِّب في التنمية البشرية يتناسب طرداً مع حجم الاستشارات والفائدة التي يقدمها لجمهوره البالغ عددهم مليون شخص، فلك أن تتخيل دخله الشهري!
إذاً، المسألة لا علاقة لها بالحظ أو بالقدر والنّصيب، فإن كنت الآن فقير المال فهذا اختيارك أنت وأفكارك وحدك.
هل المال والسعادة مترابطان؟
يتَّضح من تعريف المال والسعادة أنَّ الأمران منفصلان تماماً، وفرضية أنَّ المال يشتري السعادة قد دُحِضَت عن طريق دليلين قد ذُكِرا في مقدمة المقال.
يتسرع الناس عندما يربطون سعادتهم بالمال، كأن يربط شخص سعادته بامتلاك سيارة، فيبقى في حالة من الترقب القاتلة التي تحرق الأعصاب، ويؤجل عيش لحظات حياته ريثما تأتي السيارة، والمفاجئ هنا أنَّه في حال حصوله على السيارة سيُسَعد بها لفترة قصيرة ومن ثم يملُّها ويعود لتعليق سعادته على أمر آخر، وهكذا دواليك، يبقى يدور في حلقة من المتعة المؤقتة.
وفي حين أنَّ السعادة حالات من المتعة الدائمة؛ فهو لم يتعامل مع السعادة على أنَّها ممارسة يومية وحالة مستمرة نعيش فيها، وهنا لا أقول أنَّ الطموح والتفكير في تحسين الوضع المادي أمر مرفوض؛ لكنَّ ما أود قوله أنَّ عليك ربط سعادتك بشيء قيمي لا مادي، حتى تكون سعادتك صلبة وليست هشَّة ولكي تبقى دائمة ومستمرة.
فعندما تربط سعادتك بالعطاء وإدخال البسمة والراحة والسلام على قلوب الآخرين؛ فعندها ستكون سعادتك دائمة ولن تملَّ منها بعد فترة وجيزة، وهنا يأتي سحر القيم، فالسعادة التي تأتي مع القيم سعادة خالصة وقوية وصادقة ومستدامة.
الإنسان الحقيقي مَن يجمع المال والسعادة سوياً:
نحنُ في حاجة ماسَّة إلى تعديل مفهوم الغني والفقير، حيث يحكم الكثيرون على الآخرين من خلال أرصدتهم البنكية وثيابهم غالية الثمن، دون أن ينتبهوا أنَّ خلف ذلك البريق قد تسكن حزمة من مشاعر الخوف والحاجة والفقر، فقد تجد شخصاً ما يملك الكثير من المال ولكنَّه يعيش حالة خوف دائم من فقدانه، فيقضي أيامه بهدف اكتناز المال وتضخيمه، وينسى أنَّ المال وسيلة لليسر والمتعة في الحياة، فيتحول المال إلى نقمة حقيقية في حياته.
نُطلِق على مَن يملك المال -ظاهرياً- في حين أنَّ المال من يملك عقله ويستحوذ على كل حياته؛ إنساناً فقيراً داخلياً. من جهة أخرى، يُدرِك الغني الحقيقي أنَّه مَن يصنع المال وليس المال مَن يصنعه، لذلك لا يأبه إن لم يكن لديه سوى القليل من المال؛ لأنّه متأكد أنَّها فترة مؤقتة في حياته، وهي بمثابة تحد من تحديات الحياة وسوف ينجح في تجاوزه، فهو يَعِي غناه الداخلي والغاية من وجوده، ويدرك معنى كلمة "خليفة اللّه على الأرض"، وفي الوقت الذي يلهث فيه الفقير داخلياً إلى اكتناز المال بهدف جعله أكبر وأكبر؛ يلهث الغني داخلياً إلى العطاء -حتى إن امتلك القليل من المال- وكأنَّه يعطي رسالة إلى الكون "أنا غني وسأُنفق لتحقيق قيمة مضافة للآخرين؛ لأنَّي لم أُخلق للأخذ فحسب، فرسالتي في الحياة أعمق من هذا بكثير".
يتحرر الغني الحقيقي من دور الضحية تماماً، فلا يستخدم جملاً مثل: "أنا قدري أن أكون فقير المال وسأبقى هكذا طوال حياتي"، "لا يوجد عدل في الحياة، ألا ترى هؤلاء الفاسدين الأغنياء وأنا المؤمن فقير".
لا ينخدع الغني الحقيقي بمظاهر الترف لدى الأثرياء، فهو يعلم أنَّ هناك الملايين من أثرياء المال ولكنَّهم فقراء من الداخل، ومن جهة أخرى يعلم أنَّ هناك أثرياء المال والداخل، وهنا يسأل نفسه السؤال الذي يليق فيه: "ماذا فعلوا أولئك ليصبحوا أثرياء بحق؟".
عندما يكتشف الغني الحقيقي أنَّ الوصفة السحرية لأثرياء المال والداخل؛ هي أنَّهم جلسوا بداية مع أنفسهم، وبنوا علاقة صدق وتصالح وحب مطلق معها متحررين من دور الضحية، واثقين أنَّهم خلفاء على الأرض وليسوا ضحايا ضعفاء، باحثين في دواخلهم، محددين شغفهم الحقيقي ساعين إلى تحويله لشكل مادي يضيف بهجة وقيمة إلى حياتهم وحياة مَن حولهم؛ عندها تتوسع مداركه وتبدأ الأفكار الإبداعية بالظهور في حياته، ويتقرب أكثر من حقيقته الخالصة.
الإنسان الحقيقي هو الإنسان القادر على جمع المال والسعادة بطريقة سلسة وراقية. يسأل الإنسان الحقيقي ذاته: "من أنا، وما الغاية من وجودي؟" يتحرر من خلال هذا السؤال من كل التفاصيل الثانوية في حياته؛ مثل شكله، اسمه، حصيلته العلمية، نسبه وعائلته، أصدقاءه، ويصبح فجأة هو الرُّوح فحسب؛ عندها يدرك شغفه ورسالته في الحياة، ويكتشف كنوزه الداخلية، ويسعى إلى تطوير نفسه لكي يتمكن من تحويل شغفه إلى نظيره المادي، متأكداً أنَّ الشغف يحمل في طياته النفع له ولغيره، فالسعادة الحقَّةُ تكمن في العطاء، ولكن هذا لا يعني أن يعطي الإنسان على حساب ذاته، بل يعني الموازنة ما بين الأخذ والعطاء.
يؤمن الشخص الحقيقي أنَّ السعادة هي أسلوب حياة ومنهجية تفكير، فيستيقظ صباحاً يحمد ربَّه على وجود إخوته ووالدته في حياته، وعلى امتلاكه الجسد السليم والتفكير المنطقي، وعلى امتلاكه الهداية والنضج والوعي، وعلى امتلاكه النيَّة السليمة والقلب النظيف، وعلى وجوده ضمن منزل دافئ، وعلى الدروس التي تعلمها من الأشياء السلبية التي تعرض لها، فيعيش لحظته ويسعى إلى تحقيق شغفه، مدركاً أنَّ عليه السعي فحسب لا التفكير بطريقة وصوله إلى الملايين، فالطريقة من اختصاص اللّه عز وجل؛ لكنَّ السعي اختصاصه هو وحده، فهو يعلم تماماً أنَّ السعادة تكمن في الطريق لا النتيجة، لذلك لا يُعلِّق سعادته على أمر مادي؛ لأنَّه يعلم أنَّ هذا خطأ كبير، وأنَّه سيبقى في حلقة مُفرغة من المتعة المؤقتة، وسيبقى أسير الانتظار والترقب فاقداً الإحساس بأي شيء حوله ريثما يتحقق الأمر المادي، إلى أن يتحول إلى عبد للمادة.
لذلك يعلق الشخص الحقيقي سعادته على قيمة عُليا؛ كالعطاء ومساعدة الآخرين والتأثير في العالم وخلق بصمة في الحياة، فتكون سعادته بهذه الحالة دائمة ومشرقة على الدوام، فهو قد وضع مِظلَّة كبيرة تندرج تحتها كل أهدافه، ومن ثم سوف يسعى مستمتعاً باللحظة في سبيل تحقيق أهدافه، مدركاً أنَّ مَن يختار القيمة يفوز دوماً، ويعلم أن لا وجود لما يسمى مشكلات في الحياة، بل هي عبارة عن تحديات يتعرض لها الإنسان لتلقينه درساً هاماً ولجعله أقوى وأنضج.
لا يخاف الشخص الحقيقي من موضوع المال، حيث لا وجود للخوف في قلبه، فهو دائماً في حالة هدوء واطمئنان وسلام؛ لمعرفته بأنّه مَن يصنع المال، ويعلم أنَّ المال نتيجة حتمية لدى الشخص السعيد والمتوازن نفسياً والساعي لتحقيق شغفه وقيمه العليا.
الخلاصة:
إن رغبتَ في حياة مليئة بالسعادة والمال والبركة والوفرة؛ ابدأ بذاتك، كن أنت الحقيقي ولا تلهث وراء الماديات، فالوصول إلى الماديات نتيجة حتمية في حال اكتشفت شغفك وسعيت إليه، وسكنت روحك مشاعر الهدوء والسكينة والثقة باللّه وأدركت أنَّ السعادة في الطريق لا بالنتيجة، وعشت لحظتك بامتنان وحب وصدق.
أضف تعليقاً