لقد أصبح كتمان المشاعر والأفكار أسلوب حياة في مجتمعنا، معتقدين أنَّه ميكانيكية دفاعية توفِّر علينا عناء التعبير والإفصاح والمواجهة، وتحافظ على وجود الأشخاص في حياتنا. نعم، لقد تجاهلنا دواخلنا بطريقة مؤذية، وهرعنا إلى إرضاء الناس والصورة المجتمعية على حساب ذاتنا وصحتنا النفسية.
سيطفو كل شعور مكبوت على السطح يوماً ما؛ إذ لا يحتمل الإنسان كل تلك المدخلات من الأحداث والمشاعر دون أن يكون هناك آلية للمعالجة والتفريغ، وسيعرِّض اعتماد سياسة التحميل الإنسان إلى الانفجار يوماً ما لا محالة، ويخسر حينها كل ما خَشِي فقدانه طوال حياته.
ما هو الكتمان أو الكبت النفسي؟
آلية نفسية دفاعية يمارسها الإنسان كوسيلة للهرب من مواجهة مشاعره السلبية، أو خوفاً من خسارة أشخاص مقربين منه في حال مصارحتهم بخصوص مواقف قاموا بها، أو انصياعاً إلى خلفية تربوية قاسية لا تأبه بالمشاعر وتطالب الطفل بالجمود والحزم.
يخلق غياب التفريغ السليم للمشاعر والأفكار الضاغطة، وإبقائها في ركن عميق من الذات النفسية، وتبنِّي سياسة "الوجه الاسمنتي" و"القلب المتجمد" شخصاً يعاني من الكبت النفسي.
قد يكون لكبت المشاعر السلبية جانب إيجابي في بعض الحالات، كأن يعطيك فترة لكي تعيد ترتيب أفكارك، بحيث لا تتسرع بأحكامك ومعالجتك للأمور؛ ولكنَّ الكبت المبالغ فيه قد يتحول إلى أسلوب حياة يهرب الإنسان فيه من مواجهة الأحداث السلبية ويتجاهلها، معتقداً أنَّه بذلك قوي ومسيطر؛ وهذا أمر ضار تماماً، وهو بمثابة سم قاتل للإنسان.
الكتمان في علم النفس:
أثار موضوع الكتمان اهتمام العلماء والباحثين في علم النفس، حيث يظهر الكتمان كسلوك نفسي يعرف بأنه: الإستعداد لإخفاء المعلومات الشخصية عن الآخرين والتي يعتبرها الفرد مزعجة له أو سلبية، ويأتي عكس الكتمان هو "الكشف عن الذات".
تعتبر المعلومات الشخصية (الأفكار، المشاعر، الأفعال، الأحداث) حميمية للغاية وتتصف بثلاث خصائص، هي:
- مجموعة فرعية من المعلومات الخاصة.
- يمكن الوصول إليها بوعي.
- يتم إخفائها بشكل فعال عن الآخرين.
لطالما كان موضوع إخفاء الأسرار وكتمان المشاعر يثير الجانب الاستقصائي للمعالجين النفسيين، وإلى ذلك تشير أبحاث جورالد وبينبيكر حول الفوائد الصحية للكشف عن الذات والجوانب المؤلمة في الشخصية، وقد أشارا أيضا أن التوتر والمرض لا ينتجان فقط من قلة الإفصاح عن الذات، بل أيضا عن التجنب المتعمد لمعرفتك من قبل شخص آخر.
أرجع عالم النفس بينبيكر عدم الرغبة في الكشف عن النفس إلى الظروف والاختلافات الفردية، حيث لوحظ أن ارتفاع مظاهر الكتمان وإخفاء الأحداث المؤلمة يرتبط بالضيق النفسي والقلق والاكتئاب والخجل. إضافة إلى، سمة القلق الاجتماعي وإسكات الذات والتناقض العاطفي ونوبات المزاج غير القادرة على التكيف مع ظروف الحياة والألم الحاد المزمن المرافق.
ما أسباب الكتمان (الكبت) النفسي؟
1. التربية القاسية:
ماذا تتوقع أن يكون سلوك الشخص الذي تربى على أفكار مثل: "لا تبكي، فالبكاء للضعفاء فحسب"، أو"لا تعبِّر عن مشاعرك، إذ سيوحي هذا الأمر للآخرين أنَّك ضعيف وهش"، أو "الحب عيب وحرام"؟
تُزرَع أفكار كثيرة في عقولنا منذ صغرنا، وتصبح المسيطرة على كل تفاصيل حياتنا، ويكبر الطفل الذي تربى على كبت مشاعره معتمداً هذا الأسلوب في حياته. مَن ينشأ على فكرة أنَّ الخطأ من المحرمات، وأنَّ عليه أن يكون مثالياً؛ يلجأ عندما يكبر إلى النفاق والكذب عند قيامه بأمر سلبي، ويتجاهل مشاعر الذنب التي يشعر بها بعد قيامه بخطيئة ما؛ فقد أثَّرت تربيته سلباً في مستقبله وشخصيته.
يغدو الشخص الذي نشأ في بيئة غير متوازنة وأُشبِع بأفكار غير واعية تشجع على الكبت وتقمع حرية التعبير عرضة إلى الإصابة بتناقضات وتخبطات واضطرابات كثيرة.
2. المبالغة بالاعتداد بالنفس:
يقع الكثير من الأشخاص في وهم الغرور وحب الذات، ويقضون حياتهم في محاولة لتفخيم صورتهم المجتمعية، الأمر الذي يُعرِّضهم إلى الإصابة بالكبت النفسي؛ فهم لا يستطيعون التعبير عن دواخلهم بمنتهى الحرية، لكونهم مكبلين بالمعايير المجتمعية وكلام الناس ونظرتهم عنهم.
يُفقِد كلٌّ من التركيز الشديد على المظهر الجدي والرصين، والتمسك المبالغ فيه بالصورة المثالية، والميل إلى الكلام المحسوب والمدروس بدقة كبيرة؛ يُفقِد الإنسان عفويته، ويحوِّله إلى روبوت بلا روح.
3. السعي إلى منطقية الأشياء بطريقة مبالغ فيها:
يميل الكثير من الأشخاص إلى التقليل من شأن المشاعر في حياتنا، معتقدين أنَّ المشاعر والحديث عنها أمر ثانوي لا يستحق الذكر، ومن الأولى الاهتمام بالعمل على حساب المشاعر؛ الأمر الذي يحرِّض على اتباع سياسة الكبت والتجاهل المؤذي للمشاعر والمكنونات الإنسانية.
إنَّ العلاقات والتواصل مع الآخرين والتعبير عن المشاعر بكل أنواعها أساس الحياة وجوهرها، ويستطيع الشخص المتوازن نفسياً والحر في التعبير عن مشاعره وأفكاره العمل لساعات طويلة، في حين تَضعُف قدرة الشخص الحزين على الإنتاج والأداء؛ ونستنتج من هنا أنَّ المشاعر هي التي تقودنا، ولا يجوز كبتها أو السعي وراء جعلها منطقية.
4. التجارب السلبية المتكررة:
يؤدي تعامل الشخص مع أشخاص سلبيين إلى تبنِّيه لأفكار تجنبية نوعاً ما، كأن يؤمن أنَّ الثقة بالآخر باتت معدومة، ولا يعبِّر عن مشاعره لأي أحد، ويميل إلى الكبت والكتمان.
ما أعراض الكبت النفسي؟
1. البعد عن الذات الحقيقية:
يميل الشخص الذي يعاني من الكبت إلى عبودية نظرة الناس، ونسيان ذاته وحقوقه؛ فهو دائم الهرب من نفسه ومشاعره، ودائم السعي إلى كسب رضا الآخر، لا إلى كسب رضا ذاته.
2. إدمان السلوكات القهرية:
الكتمان والكبت النفسي عبارة عن تجميع متراكم للكثير من الضغوطات النفسية دون محاولة التعبير عنها ومعالجتها، وسينفجر الضغط والإجهاد الهائل الناتج عن ذلك الكبت بشكل من الأشكال غير المتوازنة؛ مثل السلوكات الإدمانية التي يلجأ إليها الشخص باللاوعي كوسيلة لتفريغ الكم الهائل من التراكمات النفسية السلبية التي لا يعلم بوجودها في عقله، والذي اعتقد خاطئاً أنَّ تجاهلها قد يفي بالغرض.
من السلوكات الإدمانية:
- إدمان الكحول.
- التدخين.
- التسوق.
- المخدرات.
- مواقع التواصل الاجتماعي.
شاهد بالفيديو: 7 خطوات للتخلّص من إدمان وسائل التواصل الاجتماعي
حيث يشعر الإنسان برغبة شديدة وملِّحة في القيام بالأمر السلبي، ولا يستطيع السيطرة على سلوكاته مطلقاً؛ مع العلم أنَّها تعيقه عن أداء كل نشاطاته، وتترك أثراً سلبياً في كل مفصل من مفاصل حياته.
3. الأمراض الجسدية:
أثبتت الدراسات أنَّ الكبت النفسي أحد أهم العوامل المساعدة على تشكل الأمراض العضوية العصرية؛ مثل: مرض الضغط، والسكري، وأمراض القلب، والقولون العصبي، والصداع، وصعوبات التنفس، والتهابات المعدة.
4. الأعراض النفسية:
يشعر مريض الكبت النفسي بمشاعر الخوف والقلق الدائم، فهو غير مستقر من الداخل، ويميل إلى الحساسية الزائدة والعصبية المبالغ فيها على أتفه الأسباب؛ وذلك لأنَّ الوعاء الداخلي خاصته لا يُفرَّغ؛ لذا يسلك سلوكات غير سوية في تعاطيه مع الآخرين، فتجده يميل إلى النفاق الاجتماعي، وعدم الإفصاح عن نواياه الحقيقية خوفاً من خسارة من هم حوله، ورغبةً في تعزيز صورته الاجتماعية دون الاكتراث بذاته الداخلية وقيمه.
علاج الكتمان النفسي:
- تقرَّب إلى ذاتك، فهي أصدق وأوفى مخلوق في حياتك؛ لذا امنحها اهتمامك وشغفك ووقتك، وأنصِت إلى آلامها، وكن صادقاً في حوارك معها.
- التجارب السلبية فرصة حقيقية لكي نتطور ونرتقي؛ لذا يجب أن نعترف بوجودها، ونكتشف الدروس المستفادة منها، وألَّا نتجاهلها وكأنَّها غير موجودة في حياتنا.
- لكي تبني عادة التعبير عن مشاعرك وأفكارك وتتخلص من الكبت والهروب، استعن بالورقة والقلم، وابدأ كتابة خواطرك الشخصية، وعبِّر بصدق عمَّا تشعر به؛ إذ ستكون الكتابة بمثابة وسيلة تفريغ رائعة للترسبات السلبية، وبداية قوية لخطوات لاحقة، كالقدرة على الانخراط في المجتمع، والتعبير الصريح والواضح ضمن جماعة من الناس، واستعادة الثقة بالذات والحياة.
- خُذ الجانب الإيجابي من الكبت، فهو يعلِّمك الثبات الانفعالي والقدرة على التفكير ملياً قبل اتخاذ القرار؛ ولا تأخذ جانبه السلبي القائم على تجاهل المشاعر تماماً، وتراكمها إلى حين الوصول إلى مرحلة الانفجار والإصابة بالأمراض النفسية والجسدية.
- سامح دوماً، فلا يوجد خصلة تُطهِّر القلب والروح كالتسامح؛ وتعلَّم تسليم الأمور إلى رب العالمين، فهو الأعلم والأصلح والأكثر حكمة؛ وبسِّط حياتك، واجعلها عفوية وصادقة وثرية.
- اكسرالروتين، ومارس أنشطة مختلفة كالرياضة، والرقص، والموسيقى، والكتابة، والرسم، والغناء؛ حيث تساعد هذه الأنشطة على تفريغ الكم الكبير من الترسبات النفسية السلبية.
- كفاك تأجيلاً لحل كل الأمور العالقة، وتفضيل الكبت على المواجهة والمصارحة؛ وكن شجاعاً وواجه وعبِّر عمَّا يزعجك، وضع حدودك الخاصة، واحترم حدود الآخرين.
- لا تجعل الغرور وحبَّ الذات يسيطران عليك، ويقلبان حياتك رأساً على عقب، ويجعلان الكبتَ أداة تواصلك مع الحياة؛ بل كن متواضعاً وشاكراً ومحباً وشفافاً وعميقاً.
كتمان المشاعر قوة أم ضعف:
الإجابة على هذا السؤال تعتمد بشكل مباشر على السياق العام والظروف المحيطة بالشخص. في بعض الحالات، قد يكون قوة لأنه يعكس قدرة الشخص على السيطرة على مشاعره وعدم الانفعال بشكل غير ملائم واستراتيجية فعالة للتعامل في مواقف معينة، خاصة عندما يكون الكشف عن الحقائق يودي إلى تبعات سلبية.
أما في غالبية الحالات، فكتمان المشاعر يؤدي إلى تراكم الضغط النفسي والعواطف السلبية داخل الفرد، هذا بدوره سيؤدي إلى لحظة انفجار عاطفي تودي بالشخص إلى نقطة حرجة في علاقته مع نفسه.
بشكل عام، من الأفضل للفرد ليهنأ بحياة صحية سعيدة أن يتعلم كيفية التعبير عن نفسه ومشاعره بطريقة صحية وبناءة بدلا من كتمانها والتكتم عليها، هذا سيساعده بالتأكيد على تحقيق التوازن العاطفي ويجنبه المزيد من الفشل النفسي والألم المرافق للانغلاق على الذات.
الخلاصة:
القبول هو البداية لحل أي مشكلة على وجه الأرض؛ لذلك تقبَّل الفطرة الإنسانية التي فُطِرنا عليها، وراقب الأطفال، وانظر كيف يعبِّرون عن مشاعرهم بمنتهى الصدق والحرية، واستعد فطرتك السليمة ونقاءك الداخلي وحريتك المنسية؛ إذ تستطيع من خلال ذلك استعادة شغف حياتك.
التعليقات
إسلام صالح
مقال جد رائع شكرا لكم
أضف تعليقاً