كيف تبقى منتجاً دون أن تضحي بالإبداع؟

يحتاج التحلي بالإبداع في بيئة العمل الحديثة إلى بذل جهدٍ مدروس، إذ يُعيَّن مؤلفو الإعلانات لتقديم عدد محدد من الكلمات في تاريخ محدد، ويعمل المصمِّمون مع الزبون وفقاً لجدول زمني متزايد تدريجياً، ويجب على المبرمجين حلُّ مشكلات أخطاء الترميز قبل إطلاق الموقع.



ويعرف أي شخص يرى نفسه مبدعاً أو شارك في مشروع إبداعي ضغط اقتراب الموعد النهائي؛ إذ لا أحد يستطيع أن يضع الميزانية أو يخطط لمستقبله المالي بدقة دون تحديد موعد نهائي لإنجاز العمل؛ فإنَّ فكرة الوقت الإبداعي غير المتناهي هي فكرة غير منطقية؛ ولكن يمكننا أن نتفق جميعاً على أنَّ المواعيد النهائية هي شر لا بد منه، حتى إنَّ البعض يجادل بأنَّ الموعد النهائي في الواقع يحفز الإبداع، ويتبادلون قصصاً عن العمل المليء بالقلق في اللحظات الأخيرة والذي حوَّل بطريقة ما، مُسوَّدةً مترامية الأطراف إلى تحفة فنية مع توفير خمس دقائق؛ ولكن للبحث والدراسات رأي آخر؛ إذ وجد الباحثون في دراسة بتكليف من مجلة هارفرد بيزنس ريفيو ( Harvard Business Review) أنَّ سيناريوهات ضغط الوقت لم تُقلِّل فقط من التفكير الإبداعي خلال فترة الضغط؛ بل عانى المشاركون أيضاً "مضاعفات الضغط" التي استمرت لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر واستمرَّت مستويات الإبداع لديهم بالتناقص؛ إذ نتج عن هذا الضغط مستويات متزايدة من هرمون الكورتيزول المرتبط بالتوتر، والذي ثبت منذ فترة طويلة أنَّ له تأثيرات طويلة الأمد مدمرةً كلَّ شيء من القلب والأوعية الدموية إلى الجهاز الهضمي.

إذاً، كيف تحافظ على إنتاجيتك دون أن تقتل الإبداع؟ يبدأ الأمر بإدراك أنَّ التعريف الحديث للإنتاجية يتعارض مع الإبداع؛ ولكن هناك بعض الطرائق لتحقيق المواعيد النهائية دون التأثيرات العاطفية والعقلية والجسدية السلبية لتراكم المهام؛ فابدأ بما هو مذكور أدناه، وأنعم النظر في الدراسات الثلاث للأشخاص الذين تمكنوا من إنجاز المهام مع الحفاظ على مستوياتهم العالية من الإبداع:

1. إعادة تعريف الإنتاجية:

إنَّ التعريف المبسَّط للإنتاجية هو "العمل"؛ ولكن تعني الإنتاجية أيضاً الراحة والتعلم والمراقبة وإثبات الذات؛ ومع ذلك، غالباً ما يُغرينا الهوس بإنجاز مهامَّ لا طائل منها؛ مثل: التحقق من كافة رسائل البريد الإلكتروني الهامة منها وغير الهامة، وإضاعة الوقت في عقد الاجتماعات التي كان من الممكن أن تكون عبر البريد الإلكتروني، فهذه أمور ملموسة يمكننا أن نشير إليها ونقول: "انظر إلى كل ما فعلتُه اليوم"؛ ولكنَّ الإنتاجية الحقيقية هي التي تدفعنا إلى الاقتراب أكثر من الهدف النهائي؛ لذا، انظر إلى ذلك بعين الأهمية عندما تبدأ يوم العمل التالي، وانظر كيف يمكنك تصفية الكثير من الأمور غير الهامة.

إقرأ أيضاً: 6 نصائح لتعزيز مهارة التفكير الإبداعي

2. تحديد وقت لا تفعل فيه شيئاً:

بالتأكيد، ليس المقصود النوم، بل تعامل مع هذا الوقت كما تفعل في مقابلة زبون؛ على سبيل المثال:

  • تنزَّه طويلاً في الطبيعة مشياً على الأقدام.
  • اجلس في حوض الاستحمام المملوء بالماء الساخن مع إضاءة الشموع والاستماع إلى الموسيقى.
  • استلقِ على أرجوحة في الفِناء وحدق في السماء؛ وفكر في الإبداع بينما تفكر في العشرات من المعلومات؛ ذلك لأنَّك ستحتاج إلى وقت ومكان للعثور على التناغم بين كل معلومة.
إقرأ أيضاً: لماذا يعتبر عدم القيام بأي شيء بدايةً للإنتاجية؟

3. معرفة حدودك:

إنَّ الهوس الجماعي بالكفاءة والإنتاجية يخنق الإبداع، ومن المفارقات أنَّه قد يجعلنا أقل كفاءة أيضاً، فعندما نحاول تنظيم أيامنا ضمن جدول زمني دقيق لا يرحم، يصبح دماغنا مثقلاً ويفقد قدرته على العمل بكفاءة؛ لذا، جرب هذه القاعدة الأساسية: بعد كل 40 دقيقة من الإنتاجية، استرح لمدة 10 دقائق، فحتى رفع عينيك عن الشاشة لمدة 30 ثانية له أثر إيجابي في صحتك على الأمد البعيد.

4. الابتعاد عن المشتتات:

كشفت إحدى الدراسات خطأ الاعتقاد بأنَّ الموعد النهائي هو القوة المحركة للإبداع، وأظهرت أنَّ التركيز مصدر الإبداع، فعندما تلوح المواعيد النهائية في الأفق، نتخلص من كل عوامل التشتيت؛ إذ نضع هواتفنا بعيداً ونلغي الاجتماعات التافهة ونطلب عدم إزعاجنا بالقول: "يجب أن ننجز العمل في الوقت المحدد".

والآن إليك آراء بعض الأشخاص الذين تمكنوا من الحفاظ على إنتاجيتهم دون التفريط بإبداعهم:

راكيل إتمون (Raquel Eatmon)؛ مؤسِّسة رايزينغ ميديا (Rising Media)، كليفلاند (Cleveland):

"في عالم يسكنه الآلاف أو عشرات الآلاف من الأشخاص الذين يفعلون بالضبط ما تفعله، عليك أن تميِّز نفسك؛ لأنَّ التركيز على الإبداع طريقة واضحة لبناء علامتك الفريدة وتمييزك عن الآخرين، وهو الأداة التي يمكنها جذب عملائك أيضاً.

أنا أقضي وقت فراغي في الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية، والتنزه في الطبيعة، والتريُّض، والتأمل، وقراءة مقالات علمية، وغيرها من النشاطات الترفيهية؛ إذ لا يمكنك فرض الإبداع على نفسك، كما أنَّ متابعة وسائل إعلام متعددة يمنع الاندفاع، فأنا لا أخصص وقتاً للإبداع، بل أعمل وفقاً لنظام محدد.

يتكون يوم عملي من أجزاءٍ مدة كل جزء 52 دقيقة؛ إذ أركِّز فقط على مشروع واحد لمدة 52 دقيقة متواصلة دون وسائل التواصل الاجتماعي، أو أصوات تنبيه مثل الهاتف والفاكس، أو استراحات؛ بعد ذلك، أتوقف عن العمل لمدة 15 دقيقة أمارس فيها: المشي والرياضة الخفيفة وتمارين التمدد، والتنفس بعمق، وشرب الكثير من الماء، وبعد تكرار ذلك مرتين أو ثلاث مرات، يتنبَّه دماغي وتبدأ الأفكار بالتدفق؛ إذ يشبه ما أقوم به التدريب لمسابقة أو أداء رياضي.

كما أنَّني أعطي نفسي الإذن بالتوقف، في الماضي كنت قاسيةً مع نفسي؛ إذ كنت أحاول فرض الإبداع عليها، ولكنَّ هذا يجعل الأمور أسوأ وقد يؤدي إلى الإنهاك؛ فهناك طريقة ألطف لجذب الإبداع.

إنَّ الشعور بالذنب هو عاطفة سلبية تُلهم المشاعر السلبية الأخرى، بينما يحتاج الإبداع إلى طاقة متجددة، فكلما طالت مدة بقائك في حالة الذنب، ازددت بُعداً عن الشيء الذي تريد تحقيقه؛ فكن لطيفاً مع نفسك ولا تتسرع، واحتفظ أيضاً بقلم ومفكرة جوار سريرك في حال خطرت ببالك فكرة ما منتصفَ الليل، ودوِّن كل شيء".

شانون جابور (Shannon Gabor)؛ المؤسِّسة والرئيسة التنفيذية لشركة كليفر كرييتف (Clever Creative)، لوس أنجلوس (Los Angeles):

"كان الإبداع وسيظل دائماً الطريقة التي أعبر بها عن نفسي، لقد اخترت الإبداع بوصفه وسيلةً لحل المشكلات وإعادة الاتصال بروح الطفولة التي تسكن داخلي وبالطريقة التي أدير بها عملي؛ إذ يلهمني الإبداع النظر إلى الحياة من منظور مختلف، فهو يقدم لي وجهات نظر جديدة ويمنحني روح الشباب التي لا يدرك مقدار قوتها وسحرها إلا من تبناها في حياته.

غالباً ما نشعر أنَّه يجب علينا القيام بكل شيء؛ ولكن لا يوجد شيء من هذا القبيل؛ لذا، إذا كان بإمكاني أن أكون لطيفةً مع نفسي كل صباح وأعلم أنَّه ينبغي أن أتنازل ولو قليلاً، فمن غير المرجح أن أشعر بالذنب الذي كان من الممكن أن أشعر به عندما أكمل ذلك اليوم بتوقعات خاطئة عن فعل كل شيء.

أنا لا أحدد وقتاً خاصاً للإبداع، بل يتداخل بشكل عضوي مع الطريقة التي أتعامل بها مع يومي وعملي وفريقي ووظيفتي؛ ففي عطلات نهاية الأسبوع، أحرص على إعطاء الوقت لإمكاناتي الإبداعية للعمل في مشاريع مع أطفالي أو مع شغفي لتزويدي بالطاقة والحيوية للأسبوع المقبل. لقد عُرفت بتنظيم "الاجتماعات المسائية" لأصدقائي، فأنا الشخص المُلَهم في دائرة أصدقائي.

ونظراً لأنَّ المبدعين يواجهون تحديات يومياً بوظائف الدماغ الأيمن والأيسر في عملهم؛ كان لزاماً أن نجد طريقة لاستعمال جانبي الدماغ للحفاظ على ارتباط كل جانب بالمتعة التي يوفرها إحراز الهدف".

تريشا أوكوبو (Trisha Okubo)؛ مؤسِّسسة مجوهرات ميزون ميرو (Maison Miru Jewelry)، مدينة نيويورك:

"الإبداع هو الشرارة التي تجعل كل شيء آخر ممكناً، وهو أمر أساسي لهويتي ولما أفعله. لكنَّ تخصيص وقت للإبداع هو عملية نشطة؛ إذ يتسع العمل ليناسب الوقت الذي تمنحه له؛ لذلك من الهام أن تضع حداً له حتى تتمكن من تخصيص الوقت لما يهمك، فأنا أحدد 1.5 مرة من الوقت الذي أعتقد أنَّه يلزم للقيام بأي شيء، فالإبداع ليس بالأمر الذي يمكنك فرضه، وعليك أن تستمع إلى نفسك، فهناك بعض الأيام التي تكون مناسبة أكثر للعمل الإبداعي، وأخرى ليست كذلك.

لم تكن وجهة نظري حول كيفية إدارة وقتي للمشاريع الإبداعية مدفوعةً بأي حدث كبير، بل تكوَّنت من خلال تراكم المرات التي لم أخصص فيها وقتاً للعمل في مشاريع إبداعية، فكان هذا التراكم البسيط بمثابة الموت البطيء لروحي الإبداعية.

إقرأ أيضاً: إدارة الوقت، العمل بذكاء أكثر لتعزيز الانتاجية

أعتقد أنَّ النظرة المُبسَّطة للإنتاجية لا تعكس بالضرورة ما يُنجَز حقاً؛ إذ لا يمكنك قياس الإبداع من خلال عدد العناصر التي تصممها، أو عدد الصفحات التي تكتبها، بل تحتاج أحياناً أن تطلق العنان لأفكارك؛ ولهذا السبب نحتاج جميعاً إلى وقت فراغ من أجل أن نكون مبدعين حقاً، فغالباً ما تظهر أفضل الأفكار في هذه اللحظات؛ ولكن ليس هذا هو السبب في أنَّني أحرص على منح نفسي بعض الوقت؛ ولكنَّه بالتأكيد أحد الآثار الجانبية المرحَّب بها.

فضِّل الحضور على الإنتاجية وفكر فيما هو هام حقاً ضمن المخطط الكبير، فربما ليس الرد على عشرات رسائل البريد الإلكتروني في صندوق الوارد، وربما لا يكون المشروع العاجل وغير الهام حقاً، هو الذي يثقل كاهلك أثناء عملك طوال اليوم".

 

المصدر




مقالات مرتبطة