في عصر يُعَدُّ فيه النجاح والتفوق معياراً لقياس قيمة الفرد، أصبح سيناريو "المقارنة" - الذي يتكرر في مراحل مختلفة من نمو طفلك - يطرح التساؤل الآتي: "كيف تؤثر المقارنة في طفلك؟ وهل تصبح المقارنة مصدر إلهام يحفِّزه على السعي إلى التميز وتنمية القدرات وتكون بمنزلة الرياح التي تدفع بشراع طموحاته؟ أم تتحول إلى عائق يحطم رغباته ويقف حجر عثرة أمام طموحاته وتصبح بمنزلة الوحش الذي يهدد سعادة صغيرك؟".
ما هي المقارنة؟
المقارنة هي عملية قياس أو تحليل تتم من خلالها مقارنة شيئين أو أكثر لفهم الفروق أو التشابهات بينهم، وفي سياق التربية وعلم النفس، يشير مصطلح المقارنة إلى تحليل المعرفة لفهم الاختلافات أو التشابهات بين الأفراد (الراشدين أو الأطفال) سواء في سلوكهم، أم أدائهم، أم خصائصهم، أم التحصيل الدراسي، أم السلوك الاجتماعي، أم المهارات اللغوية، أم القدرات الرياضية، وغيرها من الجوانب التي تسهم في فهم الطفل وتطويره.
لماذا يميل الأهل إلى مقارنة أطفالهم؟
تتنوع الأساليب والممارسات التربوية بين أسرة وأخرى؛ إذ يظهر تفاوت واضح في سلوكات الآباء والأمهات فيما يتعلق بتوجيه أطفالهم نحو مسارات النجاح والتميز، ويتساءل كثير منهم "لماذا يميل الآباء والأمهات إلى مقارنة أطفالهم بالأطفال الآخرين؟ وهل هو مجرد انعكاس للفضول الطبيعي؟ أم توجد دوافع عميقة تتحكم في هذا السلوك؟".
فيما يأتي أهم الأسباب التي تجعل الآباء والأمهات يلجؤون إلى سلوك المقارنة:
- الضغوطات المجتمعية: قد يشعر الوالدان بالضغط لتحقيق توقعات المجتمع بشأن مستوى التحصيل الدراسي أو المهارات الاجتماعية لأطفالهما، لا سيما آراء الأهل والمحيطين بهم.
- الرغبة في تفوق الطفل: الرغبة الطبيعية لدى الوالدين في رؤية أطفالهما يتفوقون ويتقدمون قد تدفعهما إلى المقارنة.
- تأثير وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي: يتم ترويج معايير النجاح والتميز عبر وسائل التواصل الاجتماعي والبرامج التلفزيونية.
- تجارب الوالدين السابقة: قد يكون لتجارب الوالدين السابقة - سواء كانت إيجابية أم سلبية - تأثير في نهج الوالدين في التعامل مع الطفل، وقد يبحثان عن علامات النجاح أو الفشل استناداً إلى تلك التجارب.
- الخوف بشأن مستقبل الطفل: قد يكون قلق الوالدين بشأن مستقبل الطفل وفرصه في الحياة دافعاً لهما لمقارنته بالآخرين، في سعيهما إلى توجيهه نحو النجاح والتحقيق الشخصي.
كيف تؤثر المقارنة السلبية في طفلك؟
يمكنها أن تؤثر بالمجالات التالية:
1. تكريس الفوارق:
يعني تكريس الفوارق أنَّ مقارنة طفلك بالأطفال الآخرين قد تؤدي إلى التركيز المفرط على الاختلافات بينهم، سواء في الإنجازات الشخصية أم المهارات، وهذا التركيز على الاختلافات يؤدي إلى تعزيز شعور الطفل بالتفوق المفترض للآخرين، وهذا يسهم في نمو مشاعر عدم الارتياح وعدم القدرة على تحقيق مستوى مماثل للآخرين.
2. شعور الطفل بالدونية:
عندما يتعرَّض الطفل للمقارنة المستمرة ويشعر بأنَّه لا يحقق ما يحققه الآخرون، قد ينعكس هذا على تقديره لذاته، ويشعر بأنَّه لا يستحق الاحترام أو التقدير، وكأنَّه محاصر في دائرة مفرغة من الفشل وعدم القدرة على تحقيق التميز أو إجراء تحسن أو تطوير، وهذا يؤدي إلى تقييد آفاق نموه الشخصي.
3. نمو مشاعر الغيرة والحسد والكره داخله:
تعزز المقارنة انتباه الطفل للفوارق بينه وبين الآخرين، وهذا يثير مشاعر عدم الرضى عن الذات والرغبة في تحقيق ما يحققه الآخرون، وهذا الشعور بالتفوق المفترض للآخرين قد يثير مشاعر الغيرة والحسد والكراهية داخل الطفل تجاه الأطفال الآخرين، لا سيما إن كانوا يحظون بمزيد من الاهتمام والتقدير من قِبل ذويهم.
4. فقدان الثقة بالنفس:
عندما يشعر الطفل بعدم قدرته على المنافسة أو تحقيق نجاح مماثل للآخرين، قد ينتج عن ذلك نقص في الثقة بالنفس، ويشعر بأنَّه لا يستحق النجاح.
5. ارتفاع مستويات القلق:
تشوش المقارنة المستمرة على تركيز الطفل وانخراطه في النشاطات؛ إذ يكون ذهنه مشغولاً بالتفكير في كيفية قياس أدائه بالمقارنة مع الآخرين، كما قد يشعر بضغط الأداء المستمر، فيضع نفسه تحت ضغوطات لتحقيق نتائج تتناسب مع إنجازات الآخرين، وهذا يؤدي إلى ارتفاع مستويات القلق وتأثُّر صحته النفسية تأثُّراً سلبياً.
6. الانطواء والعزلة:
عندما يشعر الطفل بأنَّه يخضع للمقارنة المستمرة ويتعرض للتقييم السلبي بالمقارنة مع الآخرين، يبدأ بتجنب المواقف التي قد تؤدي إلى تقييم سلبي، وهذا يؤدي إلى الانطواء والعزلة والابتعاد عن التفاعلات الاجتماعية.
يتسبب ذلك أيضاً في تكوين خوف اجتماعي لدى الطفل، فيشعر بعدم اليقين تجاه قدراته الاجتماعية، ويتجنب التواصل مع الآخرين لتفادي التوتر والتقييم السلبي، ويشعر بأنَّه بحاجة إلى الانعزال لحماية نفسه من المقارنة المستمرة والشعور بعدم الكفاءة.
7. الانفعالات السلبية:
قد يُظهِر الطفل انفعالات سلبية إذا شعر أنَّه لا يستطيع مواكبة إنجازات الآخرين أو إذا كانت التقييمات تجاهه سلبية، مثل انفعالات الغضب، والاحتجاج، والحزن، والاكتئاب، والانسحاب، والانعزال، والانفعالات العدائية.
8. قتل طموح الطفل:
عندما يرى الطفل نفسه دائماً في موقف أقل تفوقاً، قد يفقد الإيمان بقدراته الشخصية، ويصبح أقل حماسة لتحقيق أهدافه، فقد يتسبب الاستمرار في الشعور بعدم التمييز في إحداث شعور بالإحباط الشديد، ومع مرور الوقت، يؤدي ذلك إلى فقدان الطفل للطموح والاكتفاء بالوضع الحالي.
9. قتل مواهب الطفل:
عملية المقارنة المستمرة تمكِّن أحياناً من تجاهل وعدم اكتشاف مواهب الطفل الفريدة، فعندما يشعر الطفل بأنَّ أداءه دائماً في ظلال أداء الآخرين، قد يفقد الفرصة لاكتشاف ميوله ومهاراته الفريدة وقدراته الخاصة.
10. زيادة عدوانية الطفل:
إذا كانت مقارنة الطفل بالآخرين تؤثر سلباً في قيمته الذاتية، وأنَّه لا يفوق توقعات والديه، فقد يشعر بالإحباط ويلجأ إلى التصرفات العدوانية بوصفها وسيلة للتعامل مع هذه الضغوطات والتعبير عن عدم الرضى عن نفسه.
من أمثلة السلوكات العدوانية التي قد تنشأ نتيجة للمقارنة العصبية، والغضب الزائد الذي يتجلى في سلوكات مثل رمي الأشياء أو تحطيمها، والتمرد على توجيهات الوالدين، والرفض القاطع للمشاركة في نشاطات تُعَدُّ هامة، والعناد، لا سيما في المدرسة.
11. تدمير علاقة الأخوة:
عندما يشعر الأطفال بأنَّ الوالدين يميلان إلى مقارنتهم ببعضهم بعضاً، قد ينشأ شعور بالغيرة والتنافس بينهم، فقد يرى الأخ الأصغر نفسه دائماً في موقع التأخر مقارنة بالأخ الأكبر أو العكس، ورداً على هذه المقارنة السلبية يبدأ الأطفال بالتصرف بشكل سلبي تجاه بعضهم بعضاً، وتتصاعد التوترات والصراعات عند أقل الأسباب، وهذا يؤدي إلى تدهور العلاقة بينهم.
12. تدمير علاقة الوالدين بالطفل:
تنشِئ المقارنة جواً سلبياً في العلاقة بين الوالدين والطفل، فعندما يتم التركيز على النقاط السلبية أو التفوقات الشخصية للأطفال الآخرين بشكل متكرر، يشعر الطفل بعدم الرضى عن نفسه وعدم القبول من قِبل والديه، ويتشكل في نفس الطفل إحساس بعدم القيمة والفشل، وهذا بدوره يتسبب في تدمير الثقة بينه وبين والديه، ويؤدي إلى تشويه صورته الذاتية وتشجيع سلوكات سلبية، وهذا التأثير السلبي في العلاقة قد يظل ماثلاً طوال حياة الطفل.
13. فقدان التحفيز الذاتي والشك بقدراته:
يؤدي الشعور بعدم القدرة على تحقيق مستوى معين من التفوق وبأنَّ جهوده لا تلقى التقدير الذي يستحقه إلى فقدان الإيمان بقدراته الشخصية، فيشعر بالقلق والشك الذي يؤدي إلى فقدان التحفيز الشخصي، ويتجنب الدخول في تحديات أو فرص جديدة خوفاً من الشك في قدرة نفسه على مواكبة توقعات الوالدين.
14. زيادة معدلات الإجهاد النفسي:
تزيد مقارنة الأطفال من معدلات الإجهاد النفسي، فيشعر الطفل بأنَّه يحتاج إلى بذل مزيد من الجهد والتحسين المستمر لتحقيق التوقعات المفروضة عليه، لكي يحظى بحب الناس ويثبت قدره وقيمته في عيونهم، وهذا الضغط المستمر يسبب إرهاقاً نفسياً ويؤثر سلباً في الصحة العقلية للطفل.
15. المنافسة السلبية:
قد تؤدي المقارنة السلبية في بعض الأحيان إلى تعزيز سلوك المنافسة الضار؛ إذ يحاول الأطفال إحراز تفوق بشكل غير صحي، وقد يقومون بأفعال تضر بالآخرين، كما تنشأ مشاعر الغيرة والحسد عند الطفل تجاه الأطفال الذين يُظهِرون تفوقاً في مجالات معينة، وهذا يؤدي إلى تدهور علاقته بهم.
16. التأثير في التوازن العاطفي:
يشعر الطفل بالقلق بشأن رضى والديه، فيجد نفسه دائماً قيد المقارنة؛ ونتيجة لذلك يتعرض لضغوطات عاطفية نتيجة سعيه إلى تحقيق توقعاتهم، ويؤدي التركيز على المقارنة إلى عدم قبول الطفل لذاته كما هي، وقد تنتج عن ذلك مشاعر سلبية تجاه الذات، وربما تصل بالطفل لحدود الوقوع ضحية الاكتئاب.
17. تدني مستوى الرغبة في التعلم:
تُفقِد المقارنةُ الطفلَ الفضولَ الطبيعي والاستمتاع بالتعلم لذاته، ويصبح مرتبطاً أكثر بالرغبة في مجرد التفوق على الآخرين.
18. اضطرابات النوم:
يتسبب التركيز المستمر على المقارنة في تفكير زائد لدى الأطفال، فيعيشون في حالة من التحليل المستمر لأدائهم ومقارنته بالآخرين، وهذا يعوق عملية النوم، وربما مشاهدة الكوابيس وحدوث حالات من انقطاع النوم المتكرر عند الأطفال.
شاهد بالفيديو: 6 طرق لمعالجة الغيرة عند الأطفال
كيف تؤثر المقارنة الإيجابية في الطفل؟
على الرغم من أنَّ المقارنة الإيجابية قد تحمل آثاراً إيجابية، إلا أنَّه يجب أن يتم التحكم فيها بحيث لا تؤدي إلى آثار سلبية في الطفل، بينما قد تشجع المقارنة الإيجابية على الثقة بالنفس والتحفيز، إلا أنَّ الإفراط فيها قد يؤدي إلى آثار غير مرغوبة، منها:
1. الغرور والتكبر:
إذا لم يتم التوازن بين المقارنة الإيجابية وتعزيز فهم الطفل لأهمية التواضع، قد ينجر الطفل نحو الغرور والتكبر بسبب التركيز المستمر على نجاحاته.
2. التنمر على أقرانه:
قد يؤدي الشعور بالتفوق المستمر إلى سلوكات تنمُّر عند الطفل، فيشعر بالحاجة إلى التفوق ويتباهى بإنجازاته أمام أقرانه.
3. ضغط الأداء الزائد:
يشعر الطفل بأنَّه يجب أن يحقق نجاحاً دائماً ويعيش في حالة من التوتر المستمر نتيجة لذلك.
4. ضعف الاستعداد للفشل:
إذا لم يوجد توازن بين التشجيع وتقديم المساعدة في التحسين، فقد يخاف الطفل من الفشل ويفتقد القدرة على التعامل مع التحديات.
ما هي الوسائل التي يستخدمها الوالدان لتحفيز الطفل للنجاح دون إخضاعه للمقارنة؟
- تشجيع الإيجابيات، واعتراف الوالدين بالإنجازات والجهود الشخصية للطفل حتى في الأمور الصغيرة قد يحفزه للنجاح.
- تشجيع الطفل على تطوير مهاراته وقدراته دون الحاجة إلى المقارنة بالآخرين.
- تحديد أهداف مشتركة مع الطفل، والتركيز على تحقيق تلك الأهداف بشكل مشترك، فهذا يجعل الطفل يشعر بالدعم والشراكة.
- تقديم المساعدة والتوجيه عند الحاجة.
- تقديم أمثلة إيجابية وتحفيزية من حياة الأطفال اليومية، والتركيز على قصص نجاحهم الشخصية.
- تعزيز قيم التعاون والعمل الجماعي؛ إذ يشجع ذلك على تقدير جهود الفرد دون الحاجة إلى المقارنة.
في الختام:
لا يوجد شيء كالطفولة، فكل طفل يحمل في قلبه عالماً خاصاً، فلنكن آباء ومربين يفتحون أمامهم أفق الإمكانات، ويزرعون بذور التفوق بحب واحترام، ويجب أن ندرك جيداً أنَّ المقارنة السلبية قد تكون كالظل الثقيل يحجب أشعة الشمس الساطعة عن هذا العالم البريء.
إنَّ تأثيرات المقارنة في الطفل تتجلى في شكل ضغط نفسي يعوق تطوره الشخصي والاجتماعي؛ لذا لنكن طيبين في حديثنا، ولنشجع أطفالنا على الاستكشاف والتعلم، ولنبنِ جسوراً من التقدير والدعم بدلاً من جدران مغلقة تعتمد على المقارنة، فالتفرد هو ما يميز أطفالنا ويجعلهم جواهر لامعة في عالمهم الخاص.
أضف تعليقاً