الصراع داخل عقولنا (الجزء الثاني)

تحدَّثنا في الجزء الأول من المقال عن كيفية التفكير والصراع الذي يحدث بين جزأي الدماغ (الشعور والتفكير) عند تحقيق هدف ما، وسنتابع في هذا الجزء من المقال الحديث عن الصراع الداخلي في عقولنا بين المشاعر والتفكير، وعن تحليل ما يحدث داخل الدماغ، وعن بعض الإجراءات التي يمكنك اتباعها حتى تعيد التوازن بين القوى في الدماغ وتصل إلى القرار الذي تتخذه في نهاية الأمر.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن مدرب لغة الجسد "جيف بيرد" (Jeff Baird)، ويُخبرنا فيه عن الصراع الذي يحدُث داخل عقولنا عندما نواجه موقفاً معيناً.

المعركة الخاسرة:

عندما تفشل وتستسلم لدوافعك ورغباتك، لا تلُم نفسك؛ بل خذ بعض الوقت للتفكير فيما أدى إلى الاستسلام لهذا الإغراء، لنفترض أنَّ هدفي هو التوقف عن تناول المشروبات الغازية؛ إذ يدرك الجزء من دماغي المسؤول عن التفكير أنَّني سأكون أكثر صحة إذا لم أشربها؛ لذلك حددت هدفاً وهو عدم تناول المشروبات الغازية، لكن تمر بضعة أيام وأستسلم وأشرب واحدة.

بعد التركيز والتفكير قليلاً بما حدث، فلنحلل ما أدى إلى ذلك من خلال التطرق إلى المستويات الخمسة التي أدت إلى استسلامي، بدءاً من المستوى الخامس:

المستوى الخامس، متى كانت اللحظة التي استسلمتُ فيها لرغبتي في المستوى الخامس؟

هذا الجزء سهل جداً، أذكر أنَّني كنت في العمل، وفي نحو الساعة 2 من بعد الظهر، كنت متعباً حقاً ولم أعد أهتم لشيء، فقلت لنفسي: "سأشرب زجاجة من الصودا".

المستوى الرابع:

كان المستوى 4 بين وقت الغداء عند الظهر والساعة 2 من بعد الظهر، وكنت أشعر بالنعاس وصعوبة التركيز على ما كنت أفعله، فتجادلت مع نفسي قليلاً، وبدأت بتبرير رغبتي: "أحتاج إلى بعض الكافيين لإنجاز عملي، فيمكنني دائماً أن أبدأ بالعمل على هدفي من جديد غداً".

المستوى الثالث:

كانت الفكرة الأولى التي تبادرت إلى ذهني هي احتساء مشروب غازي قبل الغداء، وأذكر أنَّني كنت أفكر في شرب زجاجة واحدة من الصودا، لكن حينها لم يكن لدي التبرير بعد.

المستوى الثاني:

هنا في هذا المستوى؛ إذ يكون الأمر أكثر صعوبة؛ لكنَّه أكثر أهمية، فما هي المشاعر التي كانت تتراكم التي أدت إلى التفكير بالرغبة في شرب الصودا؟ طوال الصباح، كنت أشعر بالإرهاق والإحباط، فقد كانت لدي أعباء كثيرة ولم أكن متأكداً مما إذا كان بإمكاني إنجاز كل شيء، وكنت غاضباً من بعض زملائي في العمل، ولم أكن أعلم أنَّ مشاعري قد بدأت بالتحكم بي.

المستوى الأول:

التعرف إلى أول تحول كيميائي في جسدك الناتج عن التعرض لموقف ما، أصعب من التعرف إلى المشاعر؛ وبعد التفكير فيما حدث معي قليلاً، يمكنني تذكُّر بعض رسائل البريد الإلكتروني من العملاء وزملاء العمل الذين كانوا يشتكون عندما جئت إلى العمل في الصباح.

لم أكن أدرك ذلك في ذلك الوقت، لكن معدل ضربات قلبي بدأ بالتزايد قليلاً، وكنت أشعر ببعض الحرارة في رأسي وجذعي ويدي؛ كان هذا ما أدى إلى إضعاف مشاعري، وصولاً إلى اتخاذ قرار شرب المشروب الغازي والحاجة إليه.

لقد أغضبتني رسائل البريد الإلكتروني وجعلتني أشعر بأنَّني لست جيداً بما يكفي، واشتدت هذه المشاعر طوال اليوم؛ لذا فكرت في العودة إلى عادتي السيئة تلك لعلِّي أشعر بتحسن.

بعد أن خضت هذا التمرين (من المحتمل أن أكرره مراراً وتكراراً حتى أتقنه)، سأكون قادراً على معرفة اللحظة التي تنتقل فيها السيطرة إلى مشاعري في المرة القادمة، فإذا رأيت رسالة بريد إلكتروني سيئة من زميل في العمل، سوف ألاحظ التغييرات في جسدي ويمكنني حينها اتخاذ إجراء.

إقرأ أيضاً: 9 نصائح عملية لتتخلص من الانغلاق الفكري وتصفي ذهنك

اتخاذ الإجراء:

الخطوة الأولى في اتخاذ الإجراء هي معرفة الجزء من الدماغ الذي يحاول السيطرة على الأمور، وبعد ذلك تحتاج إلى خطة عمل من شأنها أن تساعد على استعادة القوة والنشاط لجزء التفكير من الدماغ، من خلال الاكتشافات الحديثة في علم الأعصاب، تعلمنا أنَّ طريقة تفكيرنا وعمل دماغنا يمكن أن يتغير؛ فالمرونة العصبية هي نمو الخلايا العصبية والمسارات العصبية الجديدة، فكلما دربت دماغ التفكير أصبح أقوى؛ لذا افعل الأشياء التي تجعلك سعيداً، وستتصرف بناءً على قشرة الفص الجبهي (الجزء المسؤول عن التفكير في الدماغ) لديك وستجعل بذلك هذا الجزء من الدماغ أقوى.

لحسن الحظ، توجد أشياء عدة يمكنك القيام بها لاستعادة توازن القوى في عقلك ولتكون سعيداً، وفيما يأتي بعض الأمثلة لكي تبدأ بها:

1. معرفة المواد الكيميائية المسؤولة عن السعادة في دماغك:

يساعدنا فهم المواد الكيميائية التي تجعلنا نشعر بالسعادة على الاستفادة منها؛ فالدوبامين هو الناقل العصبي الأساسي للمتعة المرتبط بعادات عدة نحاول الإقلاع عنها (تناول السكريات، ممارسة ألعاب الفيديو، وما إلى ذلك)، استفد من ذلك بحكمة وبطريقة تتوافق مع أهدافك.

2. العناق:

ينتج عن التفاعل واللمس هرمون الأوكسيتوسين، مما يجعلك تشعر بتحسن وتواصل مع الآخرين، فيوصي "بول زاك" (Paul Zak)، عالم الاقتصاد العصبي الذي يدرس مادة الأوكسيتوسين، بالعناق 8 مرات يومياً من أجل صحة عاطفية جيدة.

3. المناقشة من أجل الوصول إلى حل:

ستبدو الأفكار السلبية وغير المنطقية في رأسك أكثر منطقية وقابلية للتصديق؛ لذا حاول إخراجها من رأسك والتخلص منها من خلال الحديث مع شخص موثوق والحصول على وجهات نظر جديدة، ولا تختر ببساطة شخصاً يعزز بداخلك أفكارك السلبية، فقد يكون من الجيد إيجاد تبريرات لصحة أفكارك السلبية على الأمد القصير؛ لكنَّه لن يساعد على الأمد الطويل.

شاهد بالفيديو: 8 طرق للتفكير خارج الصندوق

4. تقديم المساعدة للآخرين:

توجد فوائد كثيرة ناتجة عن خدمة الآخرين، انسَ نفسك قليلاً وفكِّر في الآخرين؛ إذ ينتج عن ذلك مزيجاً من المواد الكيميائية الجيدة (كالدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين)، ويساعد على دعم الآخرين.

5. ممارسة تمرينات رياضية:

هذا ما يُنتِج هرمون الإندورفين وهو صحي لجسمك.

6. اتخاذ وضعية القوة:

وجد الباحثون في جامعة كولومبيا البريطانية (University of British Columbia) أنَّه عندما يفوز الرياضيون في سباق، تتخذ أجسادهم وضعية ثقة، وعندما يخسرون في السباق، تتخذ لغة جسدهم وضعية مهزومة؛ فإذا كنت تريد أن تبدو فائزاً، حاول أن تلف كتفيك للخلف وتقف بثبات وأن تفتح صدرك وتُبقي رأسك مرفوعاً، فكلما كان مظهر جسدك واثقاً، زادت ثقتك بنفسك.

7. الابتسامة:

على غرار وضعية القوة، يمكن أن يجعلك إجبار نفسك على الابتسامة تشعر بتحسن قليل.

8. ممارسة اليوغا:

تبعث اليوغا على الاسترخاء وقد ثبت أنَّها تزيد من إنتاج الحمض الأميني غابا (GABA)، وهو ناقل عصبي مثبط يعمل على تهدئة المشاعر السيئة من الجهاز الحوفي وجذع الدماغ.

9. التأمل:

تعمل ممارسة التأمل على تنشيط منطقة الفص الجبهي اليسرى من دماغك وتنتج مادة الدوبامين.

شاهد بالفيديو: 10 طرق لجعل التفكير الإيجابي عادة من عاداتك

10. التدوين:

الأفكار السلبية: تخلَّص من الأفكار السلبية وغير المنطقية وأزلها من رأسك؛ إذ تساعد كتابة الأفكار السلبية على القيام بذلك؛ لذا حدِّد هذه الأفكار وتحداها واستبدلها بأفكار إيجابية، فيقوم "د. دانيال آمين" بهذه الخطوة قبل التحدث علناً للتخلص من الأفكار غير المفيدة التي تجعله متوتراً.

الأفكار الإيجابية: عندما تستمر بتدوين التجارب الإيجابية، ستنطلق الخلايا العصبية في دماغك المرتبطة بالامتنان، فأنت تبرمج الدماغ للبحث عن الأفكار الإيجابية بدلاً من السلبية.

11. التكلم بطريقة فظة:

تحدَّ الأفكار السلبية والمدمرة في رأسك، فقد أُثبِتَ أنَّك إذا سميت المشاعر التي تشعر بها، فذلك يقلِّل من الاستجابة الحوفية؛ أي الاستجابة لمشاعر الخوف والغضب، وعلى حدِّ تعبير الطبيب النفسي "دان سيجل" (Dan Siegel): "صنِّف مشاعرك حتى تتمكن من تقليل تأثيرها"، ويقترح الدكتور "دانيال أمين" أيضاً الرد بطريقة فظة على مشاعرك السلبية كما كنت تفعل عندما كنت مراهقاً.

12. الضحك:

يمنح الضحك جسدنا مجموعة من المواد الكيميائية الإيجابية أيضاً؛ لذا ابحث عن شيء يضحكك.

13. التعرض لضوء الشمس:

اخرج، إذا أمكن، وتمتع ببعض أشعة الشمس؛ إذ سيؤدي ذلك إلى تعزيز فيتامين ب6 (B6) وب12 (B12)، مما يساعد على تحسين مزاجك.

14. البدء بالعمل:

إنَّ القيام بشيء يتطلب العمل والتركيز والإنتاجية سيمنحك إحساساً بالإنجاز ويعزِّز ثقتك بنفسك، هذا يعزِّز نشاط قشرة الفص الجبهي، فلا تجلس وأنت تشعر بالسوء؛ بل انهض وافعل شيئاً مثمراً.

15. مرافقة الأشخاص السعداء:

العواطف مُعدية؛ إذ يمكن للوجود بجانب شخص مبتهج أن يساعدك على تحسين مزاجك، وثمة نوع خاص من الخلايا العصبية في الدماغ يسمى الخلايا العصبية المرآتية ينشط عندما نرى شخصاً يفعل شيئاً، كما لو كنا نفعل ذلك بأنفسنا؛ لذلك ستعطينا رؤية الابتسامة الشعور بالسعادة أيضاً، حتى النظر إلى صورة شخصٍ يبتسم يمكن أن يعزِّز مزاجك قليلاً.

إقرأ أيضاً: 10 أمور لا يكرر فعلها الأشخاص السعداء

في الختام:

لدينا جميعاً أحلام وأهداف نرغب في تحقيقها؛ لذا تأكَّد من أنَّك تتحكم دائماً بزمام الأمور، حتى تتمكن من تحقيق هذه الأهداف، ولا تدع دماغ المشاعر لديك يخبرك بما عليك فعله ولا تدع النكسات التي تواجهها تثبط من عزيمتك.

إذا كنت تشعر بالإحباط، فمن المحتمل أن تكون بالفعل في المستوى 2؛ لذا اذهب وافعل شيئاً لتعيده إلى المستوى 0، وافعل ذلك الآن؛ فالتسويف هو أيضاً قرار ينبع من دماغ المشاعر؛ وكلما تدربنا أكثر نجحنا في ذلك نجاحاً أفضل.

أظن أنَّ والدي كان على حقٍّ، فقد علَّمني أن أركِّز أكثر على ما أريده، وليس ما سيخبرني به دماغي في الوقت الحالي، في المرة القادمة التي يقدم فيها رئيسي لي مكافأةً ما، سأتوقف قليلاً لأفكر فيما إذا كان هناك شيء أفضل لانتظاره.




مقالات مرتبطة