ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن مدرب لغة الجسد "جيف بيرد" (Jeff Baird)، ويُخبرنا فيه عن الصراع الذي يحدُث داخل عقولنا عندما نواجه موقفاً معيناً.
ما هو أكثر ما نريده؟
لقد كان والدي ينصحني دائماً ألَّا أضحي بما أرغب فيه بشدة لأنال ما أريده الآن، ولم أكن أدرك الأمر في ذلك الوقت؛ لكنَّ نصيحته مرتبطة بعلم الأعصاب وهي نصيحة هامة عندما يتعلق الأمر بسعادتنا ونجاحنا في الحياة.
لقد أجرى عالِم النفس "والتر ميشيل" (Walter Mischel) في جامعة "ستانفورد" (Stanford) في ستينيات القرن الماضي سلسلة من التجارب لاختبار قوة إرادة الأطفال في سن الرابعة.
وُضِعت قطع من المارشميلو أمام الأطفال، وقيل لهم: يمكنكم تناولها الآن أو يمكنكم الانتظار 15 دقيقة وستحصلون على قطعتين من المارشميلو، لكنَّ 30% فقط من الأطفال كانوا قادرين على الانتظار.
ثم جاء الجزء المثير للاهتمام من التجربة بعد سنوات: فالـ 30% من الأطفال الذين تمكنوا من الانتظار لمدة 15 دقيقة حققوا نجاحاً أكبر في وقت لاحق في حياتهم، لكن ماذا عن الـ 70% الأخرى؟ هل يمكن أن يتعلموا تأجيل ما يريدون في الوقت الحالي لمصلحة شيء أفضل في المستقبل؟
دماغ المشاعر:
كل شخص لديه دماغان؛ إذ يمكن تقسيم الدماغ إلى جزئين منطقيين، وغالباً ما يشار إلى الجزء الأول باسم "دماغ المشاعر" (FEELING BRAIN) (الجزء من الدماغ المسؤول عن العواطف والمشاعر والحدس والغرائز)، ويشير "شون أكور" (Shawn Achor)، مؤلف كتاب "ميزة السعادة" (Happiness Advantage) إلى ذلك الجزء من الدماغ "بالأناني"، كما يصفه الدكتور الأمريكي "دانيال أمين" (Dr. Daniel Amen) بالطفل المُدلل والمتطلب الذي يريد دائماً الحصول على ما يريده مهما كلَّف ذلك.
إنَّه جزء بدائي من الدماغ (يتكون من جذع الدماغ والجهاز الحوفي) يسعى وراء المتعة ويتجنب الألم؛ وعندما يريد دماغ المشاعر أي شيء في أي لحظة لا يهتم بالقيم أو المبادئ أو الأهداف؛ بل ما يريده فقط في الوقت الحالي، وقد يُعدُّ دافعاً هاماً وقوياً لبقائنا وقدرتنا على الارتباط بالآخرين، لكن في كثير من الأحيان، يعمل على عكس أهدافنا وقيمنا.
كم منا يشعر بالتوتر عند التحدث أمام الناس! إنَّ دماغنا البدائي، الذي أثار استجابة الكر أو الفر لحماية أسلافنا عندما كانوا يواجهون حيواناً شرساً، يبدأ بالعمل عندما يتعين علينا الوقوف والتحدُّث أمام مجموعة من الناس، فيرتفع معدل ضربات قلبنا وتصيبنا ضبابية التفكير.
أنا أقوم بتعليم إتقان الذات وعلاج الإدمان، ونتحدَّث في هذا الجزء عن الدماغ وكيفية إدارته، بحيث يعمل لمصلحتك وليس ضدك، وهذا يقودنا إلى الجزء من دماغنا الذي لديه القدرة على التحكم بدماغ المشاعر.
دماغ التفكير:
دماغ التفكير أو قشرة الفص الجبهي، يمكن عدَّه دماغاً تنفيذياً أو دماغاً بالغاً، وهو حيث تكمن قيمك وأهدافك ومبادؤك؛ ومن المثير للاهتمام أنَّه في أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي، يمكنك رؤية الجانب الأيسر من قشرة الفص الجبهي يضيء عندما يكون شخص ما سعيداً، هذا هو الجزء من الدماغ الذي يقول: "انتظر، لا تأكل المارشميلو؛ فيوجد شيء أفضل إذا انتظرت"؛ إذ يمكن أن يساعد على ضمان تصرُّف الجزء المسؤول عن المشاعر في دماغك بطريقة تتوافق مع أهدافك وقيمك.
تتأرجح كفة التأثير بين جزأَي الدماغ، لتحديد من هو المسؤول ومن يتخذ القرارات، وهذا بالطبع، هو شرح مبسط لمفهوم معقد للغاية؛ فعندما يكون لدى دماغ التفكير نشاط عالٍ، يكون لدى دماغ المشاعر نشاط أقل، فتتخذ قرارات أكثر قيمة وأكثر ارتباطاً بهدفك، مثل عدم تناول المارشميلو الآن لأنَّك ستحصل على مزيدٍ منها لاحقاً.
شاهد بالفيديو: 8 أمور تساعدك على معرفة مدى قوتك العقلية
عندما يكون هناك نشاط أعلى في دماغ المشاعر، يكون هناك نشاط أقل في دماغ التفكير، وفي هذه الحالة، لا تتخذ قرارات مدروسة وقائمة على القيمة والهدف، وقد مررنا جميعاً في هذه الحالة من قبل، فهل سبق لك أن فعلت شيئاً ندمت عليه وتساءلت: "ما الذي كنت أفكر فيه؟" أو هل سبق لك أن غضبت في وجه أطفالك أو أي شخص آخر، وعندما هدأت المشاعر الغاضبة، شعرت بالندم والخجل من تصرفك؟
مهما كانت الأهداف التي حاولت تحقيقها مراراً وتكراراً أو الإنجازات التي لم تتمكن من تحقيقها أو العادات التي أخفقت في الإقلاع عنها، من المحتمل أن يكون ذلك بسبب أنَّ دماغ المشاعر هيمن على دماغ التفكير.
ماذا لو استطعت أن تعرف كيف يمكن لهذا التأرجح بين العقل والعواطف أن يحدث؟
بهذه الطريقة، سيكون من الأسهل الحفاظ على أهدافك والتزاماتك، ويمكنك الانتظار قبل تناول المارشميلو ووضع أنماط للنجاح في مجالات أخرى من حياتك؛ دعنا نتحدَّث عن طريقة واحدة لإتقان هذا الشعور المزعج في عقلك.
إدراك لحظة تحوُّل السيطرة بين العقل والعاطفة:
أذكر أنَّني ركبت فيلاً في حديقة الحيوانات عندما كنت طفلاً، فقد كان مخيفاً بعض الشيء أن تجلس عالياً على مثل هذا الحيوان القوي؛ لكنَّ الفيل كان لديه شخص ذكي علَّمه كيفية حمل الأطفال الصغار بأمان، تمتلك الأفيال الكثير من القوة التي يمكن أن تكون مفيدة جداً أو خطيرة جداً إذا لم يُتحكم بها، وهذا يشبه إلى حد كبير دماغ المشاعر، ذا التأثير القوي، سواء كان موجهاً للخير أم الشر، ودماغ التفكير يمثل المدرب الذي يقود الفيل؛ إذ سيتمكن المدرب الجيد أيضاً من معرفة التغيرات الطفيفة في أسلوب الفيل وسلوكه لمنعه من الخروج عن نطاق السيطرة.
يمكننا تدريب أنفسنا على معرفة متى نشعر بالاضطراب والتقلب ونفقد السيطرة على دماغ المشاعر لدينا، وقد يستغرق الأمر تدريباً كثيراً ووقتاً كبيراً لننسجم بدرجة كافية مع جسدنا لاكتشاف وقت بدء التحول؛ لكنَّه سيصبح في النهاية تلقائياً.
لقد طوَّر "موريس هاركر" (Maurice Harker)، مدير برنامج الدعم عبر الإنترنت "خدمات تغيير الحياة" (Life Changing Services) مقياساً يمكن أن يساعدنا على تحديد خطوات هذا التحول، وفي شرح مبسط، هذه هي الخطوات التي تمر بها عندما تستسلم لدماغ المشاعر:
شاهد بالفيديو: 8 طرق لتدريب العقل على التحلي بمزيدٍ من الإيجابية
في المستوى 0:
يكون دماغ التفكير هو المسؤول، فتشعر بالسعادة والإنتاجية وترغب في مساعدة الآخرين، وإذا لم تكن سعيداً ومُنتجَاً، فقد بدأت تفقد بعض السيطرة بالفعل.
في المستوى 1:
تظهر تحولات كيميائية في الجسم تبدأ ببعض المحفزات التي يمكن أن تكون فكرة أو رائحة أو مشهداً أو صوتاً؛ إذ تتلقى أدمغتنا هذا المحفز، وتحاول ربطه بتجارب سابقة، مما ينتج عنه استجابة كيميائية، على سبيل المثال عندما تقود سيارتك وترى أضواء سيارة الشرطة في مرآة الرؤية الخلفية، تؤدي رؤية وميض الأضواء وربطها بالتجارب الماضية إلى سلسلة من ردود الفعل التي تتضمن إفراز الأدرينالين، هذا ما يحدث في المستوى 1؛ لكنَّ المشكلة هي أنَّه غالباً ما يكون غير واضح، وعلينا أن نولي اهتماماً بالغاً للعلامات الموجودة في أجسادنا لنعرف متى حدث هذا.
في المستوى 2:
تبدأ المواد الكيميائية في بناء المشاعر، وعادة ما تكون سلبية، تتراكم وتتركك في حالة من "الاستسلام"، يقول الدكتور "دانيال آمين": "في أي وقت تشعر فيه بالحزن أو الجنون أو التوتر أو أنَّك خارج نطاق السيطرة؛ فهذا يعني أنَّ دماغ المشاعر هو المسؤول عن ذلك".
المستوى 3:
هو أول فكرة تدركها لفعل شيء يتعارض مع أهدافك وقيمك لتهدئة الألم العاطفي الناتج عن المستوى 2، على سبيل المثال قد تفكر في أثناء قيادتك للمنزل بما يأتي: "لقد مررتُ بيوم سيئ، وأظن أنَّني إذا تناولتُ بعض الكعك سيكون كل شيء أفضل"، لكن إذا كان هدفك هو تناول كميات أقل من السكر، فإنَّ هذه الأنواع من الأفكار والاقتراحات تكون مؤذية أكثر من كونها مفيدة؛ لذلك تناول الكعك لن يصلح مشكلاتك العاطفية.
المستوى 4:
يحاول فيه معظمنا مقاومة الإغراء، وهذا هو الصراع الذي يحدث في داخلك لمحاربة الإغراء أو الاستسلام؛ إذ لدينا قدر محدود من قوة الإرادة، وفي هذا المستوى ستستهلك كامل احتياطاتك من هذه القدرة أسرع من أي وقت مضى وتستسلم بسهولة.
في المستوى 5:
تكمن لحظة "الاستسلام"، عندما تقرر الاستسلام وتناول الكعك أو أياً كان ما تقاومه، فأنت تعيش الآن وفقاً لما يمليه عليك دماغ المشاعر.
بعد المستوى الخامس، أصبح دماغ المشاعر أكثر قوة بحيث أصبح من الصعب جداً إيقافه؛ فالجزء من دماغك القادر على اتخاذ قرار التوقف لم يعد يعمل.
يكمن الحل للتغلب على هذا التغيير في تمييزه في مرحلة مبكرة؛ إذ يدرك معظمنا ما يحدث عندما نكون في المستويات 3 أو 4، لكن بحلول ذلك الوقت، من الصعب جداً المقاومة بالفعل، فإذا تمكنت من إدراك نقطة التحول عند المستوى 2 (أي عندما تلاحظ أنَّ المشاعر بدأت تتراكم) أو عند المستوى 1 (أي عندما تبدأ بالتغيرات الكيميائية)، تكون المقاومة أسهل وهذا بالطبع يتطلب الممارسة.
يُطلق على إحدى الطرائق للمساعدة على بناء القدرة على تمييز صراعات القوة العصبية "تحليل المعركة الخاسرة"، ويمكنك القيام بذلك بعد أن تفشل في تحقيق هدفك؛ إذ يمكنك أنت أو أي شخص آخر يقوم بمساعدتك أن يرشدك عندما تفشل في تحقيق هدفك، من خلال المرور بكل المستويات المذكورة آنفاً، مع ملاحظة ما يحدث في عقلك وجسمك، ثم في المرة القادمة التي يحاول فيها دماغ المشاعر لديك السيطرة، ستدرك الأمر ويمكنك التعامل معه وعادةً ما يكون تحليل ما حدث معك بدءاً من المستوى الخامس، ووصولاً إلى المستوى الأول، طريقةً أفضل لاكتشاف متى تبدأ سيطرة دماغ المشاعر.
في الختام:
لقد تحدَّثنا في هذا الجزء من المقال عن كيفية التفكير والصراع الذي يحدث بين جزأي الدماغ (الشعور والتفكير) عند تحقيق هدف ما، والمستويات التي نمر بها عندما نستسلم لدماغ المشاعر، وسنتابع في الجزء الثاني والأخير منه الحديث عن أفكار أخرى مثيرة للاهتمام عن هذا الموضوع.
أضف تعليقاً