تقولين لنفسك: «سأرتاح لاحقاً»… لكن "لاحقاً" لا يأتي أبداً، وهنا يطل السؤال: هل الرعاية الذاتية أنانية فعلاً، أم أنّها الوقود الذي يجعلك قادرة على الاستمرار كي لا تتحولين إلى زومبي يجر خطواته؟ الحقيقة أنّ العناية بنفسك ليست رفاهية، بل سر طاقتك كأم وموظفة، وسر قدرتك على أن تعطي بحب لا بإنهاك.
ما الذي يحدث في الواقع؟
قد تبدو فكرة تخصيص وقت لنفسك رفاهية بعيدة المنال، خصوصاً وسط جداول مزدحمة بالواجبات العائلية والعملية.
تردد كثيرٌ من الأمهات العاملات المعتقد السائد: «وقتي لنفسي أنانية»، وهذا الاعتقاد متجذر في ثقافات عدة؛ إذ يُربط العطاء الحقيقي بالتضحية الكاملة، وكأنّ قيمة الأم تُقاس بمدى إنكارها لذاتها.
لكن الواقع مختلف، فالتجاهل المستمر للاحتياجات الشخصية لا يمر بسلام، بل يترك آثاراً متراكمة تفتك بصحتك الجسدية والنفسية، ومن ثم بعلاقاتك وحياتك العملية.
الثمن الحقيقي لإهمال الذات
تشمل الآثار السلبية لتجاهل الاحتياجات الشخصية ما يلي:
1. التعب المتراكم
عندما تديرين حياتك كأنك سوبرماركت مفتوح 24 ساعة بلا توقف، فإنك تستهلكين طاقتك أسرع مما تعيدين شحنها. هذا يؤدي إلى فقدان الصبر مع أسرتك، فتجدين نفسك تنفجرين لأسباب بسيطة.
أوضحت دراسة صادرة عن "مايو كلينك" - (Mayo Clinic) بعنوان (Job burnout: How to spot it and take action) - "الاحتراق الوظيفي: كيفية اكتشافه واتخاذ التدبير اللازم"، أنّ الإرهاق المزمن يرتبط بزيادة التوتر والعدوانية في العلاقات الأسرية.
2. الاستنزاف الجسدي
يجعل إهمال النوم، والتغذية، والحركة جسمك أقل قدرة على العطاء سواء في البيت أو في العمل. في الولايات المتحدة مثلاً، أظهرت إحصائية من مركز مكافحة الأمراض (CDC) أنّ النساء العاملات اللواتي يهملن النوم والنشاط البدني معرضات لانخفاض الإنتاجية بنسبة تفوق 30% .
3. دائرة اللوم
حين لا تراعين نفسك، تفقدين طاقتك، ومعها تظهر مشاعر الذنب؛ لأنّك لست كما تتمنين أن تكوني: الأم الصبورة، والموظفة اللامعة، والزوجة المتزنة. وهكذا، تدخلين في حلقة مفرغة من اللوم الداخلي التي تستنزفك أكثر فأكثر.
الخلاصة المؤلمة
عندما تهملين نفسك، لا تخسرين وحدك، بل يخسر الجميع؛ إذ تنال أسرتك أسوأ نسخة منك، ويتأثر عملك، وحتى صحتك النفسية تصبح على المحك.
تقول "إيليانور براون": "الرعاية الذاتية ليست أنانية، بل هي ضرورة حتى تستطيع أن تعطي من قلب ممتلئ."
شاهد بالفيديو: 5خطوات لممارسة الرعاية الذاتية
الرعاية الذاتية: شحن ضروري لجسدك وعقلك
لا تُعد الرعاية الذاتية ترفاً، بل ضرورة علمية لصحة الجسد والعقل. فقد أكدت دراسات علمية أنّ تخصيص وقت يومي للعناية بالنفس يعزز المرونة الانفعالية، أي القدرة على التعامل مع الضغوط دون الانهيار.
على سبيل المثال، أظهرت دراسة نشرتها مجلة الجمعية الأمريكية للطب (JAMA Psychiatry) في 23 يناير من، أنّ الموظفين الذين يمارسون عادات بسيطة مثل التأمل أو المشي السريع يتمتعون بقدرة أعلى على التحكم في انفعالاتهم ومستويات أقل من التوتر.
لا يتوقف الأمر عند التوازن النفسي فقط، بل يمتد إلى الكيمياء الحيوية في الجسم، فحتى عشر دقائق من النشاط البدني أو تمارين التنفس العميق كافية لتحفيز إفراز هرمونات السعادة مثل الأندورفين والسيروتونين، مما يحسن المزاج ويقلل الإحساس بالإرهاق.
وفقاً لتقرير صادر عن "دار نشر هارفارد للطب" - (Harvard Health Publishing) بعنوان (Exercise is as effective as antidepressants in some cases) - "ممارسة الرياضة فعّالة مثل مضادات الاكتئاب في بعض الحالات". بالتالي، ترتبط ممارسة الرياضة بانتظام — لو كانت لفترة قصيرة — بانخفاض معدلات الاكتئاب والقلق.
ما يعنيه هذا ببساطة: العناية بنفسك ليست "كماليات" تضيفينها إذا تبقى لديك بعض الوقت، بل هي أشبه بإعادة شحن بطارية هاتفك قبل أن ينطفئ فجأة.
تخيلي أنّ جهازك المحمول يحتاج يومياً إلى ساعة شحن، فهل تتركينه فارغاً وتنتظرين منه أن يعمل بكفاءة؟! كذلك جسدك ونفسك، لا يمكنهما الاستمرار في العطاء بلا شحن دوري.
العناية بالذات هي استثمار في العطاء
بعد أن عرفنا أنّ تجاهل الرعاية الذاتية يستنزفنا، وأنّ العلم يؤكد أهميتها، يبقى السؤال: كيف نطبق ذلك في حياتنا اليومية؟ هنا يأتي التحول الجوهري في المعتقد: «عنايتي بنفسي تزيد قدرتي على العطاء».
هذا ليس مجرد شعار، بل تجربة أثبتتها مئات الدراسات؛ إذ يوضح تقرير من (American Psychological Association - APA) - "الجمعية الأمريكية لعلم النفس" بعنوان (Self-care Understanding the benefits of self-care and how to apply it to your everyday life) - "الرعاية الذاتية فهم فوائد الرعاية الذاتية وكيفية تطبيقها في حياتك اليومية"، أنّ الأشخاص الذين يخصصون وقتاً منتظماً للعناية الذاتية يتمتعون بقدرة أعلى على دعم أسرهم وزملائهم في العمل بفاعلية.
خطوات عملية
لأنّ النظرية وحدها لا تكفي، دعينا نقدم لكِ مجموعة الحلول العملية:
1. قاعدة 20–20–20
قسمي يومك إلى ثلاث جرعات شحن:
- 20 دقيقة راحة ذهنية: تأمل، أو صلاة بخشوع، أو حتى إغلاق الهاتف والتنفس بعمق.
- 20 دقيقة حركة: مشي سريع، أو يوغا، أو صعود الدرج بدل المصعد.
- 20 دقيقة تقارب اجتماعي: محادثة مع صديقة، أو لعب مع أطفالك، أو جلسة ضحك عائلية.
أثبتت هذه القاعدة البسيطة أنّ تقسيم النشاطات الصغيرة يقلل التوتر تقليلاً ملموساً.
2. موعد مع نفسك
عاملي نفسك كما تعاملين مديرك في العمل: إذا كان لديك اجتماع هامّ، لا تؤجّليه. كذلك خصصي "موعداً مع نفسك" في جدولك، حتى لو كان نصف ساعة، وضعيه في التقويم كحدث لا يُلغى ولا يتم تجاهله.
3. نشاط مصغّر يومي
لا تحتاجين دائماً إلى ساعات طويلة؛ إذ يمكن لشرب كوب شاي بهدوء، أو القراءة لعشر دقائق، أو التنزّه لفترة قصيرة أن تعيد إنعاش طاقتك؛ لأنّ الأنشطة الصغيرة المنتظمة تساعد في تقليل أعراض القلق والاكتئاب.
4. إضافة مرحة
لا يجب أن تكون الحياة جديةً طوال الوقت، اكتبي في دفتر مهامك: «مهمتي اليوم: جلسة تأمل علاجي»، أو «جلسة ضحك مع أطفالي». هذه اللمسات المرحة تذكرك أنّ العناية بنفسك متعة وليست عبئاً إضافياً.
كما قال "جيم رون" - (Jim Rohn): "جسدك هو بيتك الأول، فلا تهمله."
العلم والحياة يقولان لكِ..
بعد أن عرضنا المشكلة ورأينا حلولها العملية، يبقى أن نسأل: هل ما نتحدث عنه مجرد كلام تحفيزي جميل، أم حقيقة مثبتة؟ العلم والحياة يجيبان معاً: الرعاية الذاتية ضرورة لا غنى عنها.
الدليل العلمي
أكدت الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA) في تقريرها حول استراتيجيات الصحة النفسية أنّ ممارسات بسيطة، مثل النوم الكافي، والتغذية السليمة، والنشاط البدني المنتظم من شأنها تقليل مستويات القلق وتحسّن جودة العلاقات الأسرية والمهنية.
تعني هذه النتائج أنّ "ساعةً لنفسك" ليست أنانية، بل هي استثمار ينعكس مباشرة على سعادتك وعلى من حولك.
المثال الواقعي
تؤكد قصص الحياة اليومية ما يقوله العلم؛ إذ تقول عديدٌ من الأمهات العاملات في أوروبا والولايات المتحدة أن أكبر تحول في حياتهن لم يحدث عند ترقية وظيفية أو زيادة راتب، بل عندما أدركن أنّ الرعاية الذاتية واجب، وليست رفاهية.
أوضحت إحدى الأمهات في دراسة بعنوان "برامج العافية في مكان العمل للأمهات العاملات: مراجعة منهجية" - (Workplace wellness programs for working mothers: A systematic review)، أنّها عندما خصصت نصف ساعة للرياضة يومياً، لاحظت أن صبرها مع أطفالها ارتفع، وإنتاجيتها في العمل تحسنت.
تعكس هذه التجربة البسيطة قاعدة ذهبية، وهي: حين تعتنين بنفسك، يتحسن كل شيء حولك.
وللتخفيف من الجدية قليلاً، تذكري القاعدة التي تعلّمناها جميعاً من شركات الطيران: «ضع قناع الأكسجين لنفسك أولاً». الفكرة ليست مضحكة فقط، بل عميقة: لا يمكنك إنقاذ الآخرين وأنت تختنق.
تقول الكاتبة "أودري لوردي" - (Audre Lorde): "العناية بنفسك ليست دلعاً، بل حفاظ على وجودك وقدرتك على العطاء."
تخيّلي لو جربتِ..
تخيّلي أن تمنحي نفسك نصف ساعة يومياً، مجرد 30 دقيقة، لتستعيدي هدوءك الداخلي. ستعودين لأطفالك بوجه مبتسم بدل الملامح المرهقة التي صارت رفيقة يومك.
تخيّلي أنّك تدخلين مكتبك وأنت أكثر حضوراً ذهنياً، فتنجزين أعمالك بسرعة وكفاءة بدلاً من الدوران في دوامة التعب. تخيّلي أيضاً كيف سينعكس ذلك على أحبائك: زوجك، وأطفالك، وحتى صديقاتك، حين يرونك متوازنة، قادرة على الاستماع والضحك معهم بلا شعور بالاستنزاف.
لا تُعد هذه الصورة خيالاً بعيداً، بل واقع يمكن أن يبدأ بخطوة صغيرة منكِ، وقد أكدت الدراسات السابقة أن الاستراحات القصيرة اليومية تزيد الإنتاجية وتقلل الأخطاء.
إذن، قد تغيّر نصف ساعة يومك بأكمله، وتحوّل طاقتك من طاقة مستنزفة إلى طاقة مشعة.
وكما يقول المثل الإنجليزي: أنتِ لا تستطيعين صب الماء من كوب فارغ.
في الختام
الرعاية الذاتية ليست أنانية، بل وعد صغير تمنحينه لنفسك ليكبر عطاؤك للآخرين، فعندما تهتمين بنفسك، تصبحين أكثر حضوراً، وهدوءاً، ودفئاً مع أسرتك وزملائك.
في النهاية، قد تبدو نصف ساعة يومياً بسيطةً، لكنّها كفيلة بأن تملأ "بطارية الأمومة" وتشحن قلبك بالحنان.
أعطِ نفسكِ… لتُعطيهم.
أضف تعليقاً