لقد أضحى مد يد العون للناس - لا سيما الشباب الذين يواجهون مشكلات الصحة العقلية - واجباً علينا اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، وسيتطلب ذلك الأمر تدريب المزيد من العاملين في قطاع الصحة العقلية، وإعادة تخيُّل الطرائق التي يمكن أن تساعد المدارس والجامعات وأماكن العمل على تخفيف التوتر بدلاً من تعزيزه، ومن الهام أيضاً تغيير الطريقة التي يتحدث بها الناس عن الأمراض العقلية والعمل على تقليل شعور الخجل المرتبط بها، وإحدى طرائق القيام بذلك هي تعليم الناس طريقة التحدث عن رحلتهم في مواجهة المرض العقلي.
وجدت دراسة نوعية جديدة، نُشِرت في مجلة كوميونتي مينتال هيلث (Community Mental Health)، أنَّ الشباب الذين يروون قصصهم مع التعايش مع المرض العقلي يمكن أن تتحسن صحتهم ويَخِفَّ شعورهم بالخجل.
تدير منظمة باتير (batyr) الأسترالية غير الربحية للصحة العقلية برامج تعليمية وقائية في المدارس الثانوية والجامعات وأماكن العمل لتعليم الشباب وأسرهم أهمية الحصول على الدعم لمواجهة صعوبات الصحة العقلية، وبالإضافة إلى توفير التعليم الأساسي المتعلق بالصحة العقلية، يوجد عنصر أساسي آخر في ورش العمل هذه، وهو طرح قصص مدتها 10-15 دقيقةً يرويها شاب أو أكثر حول تجاربهم مع المرض العقلي، مثل الاكتئاب والقلق وسلوكات الوسواس القهري واضطراب الطعام، كما يروون الدروس التي تعلموها والمهارات التي ساعدتهم على التأقلم.
وقبل طرح قصصهم، يجري تدريب المتحدثين ضمن مجموعات مكوَّنة من 7-10 أشخاص في ورشة عمل لمدة يومين، ويُعلِّم منسقو ورشة العمل المشاركين طريقة مشاركة قصصهم بثقة وبصورة بنَّاءة لمساعدة مَن يعانون من مشكلات في الصحة العقلية، وتعتمد ورشة العمل على بحث أجراه باتريك كوريجان (Patrick Corrigan)، الأستاذ في علم النفس في معهد إلينوي للتكنولوجيا (Illinois Institute of Technology)؛ حيث وجد أنَّ إظهار التحديات التي نواجهها في مجال الصحة العقلية يمكن أن يساعد على تعزيز صحتنا وتحسينها، وتقليل الشعور الداخلي بالخجل.
لماذا تعد مشاركة قصتك أمراً مفيداً؟
لاستكشاف فوائد مشاركة قصتك، أجرى الباحثون جينيسيس ليندستروم (Genesis Lindstrom) وإرنستا صوفيا (Ernesta Sofija) من جامعة جريفيث في مدينة ساوث بورت في أستراليا (Griffith University in Southport Australia) وتوم رايلي (Tom Riley) من منظمة باتير مقابلات متعمقة مع 18 متحدثاً شاركوا في البرنامج، وقد تراوحت أعمار المشاركين بين 18-33 عاماً من الذكور والإناث ومن مُختلَف الجنسيات.
شاهد بالفديو: طرق بسيطة لتحسين صحتك العقلية
وقد حدَّد الباحثون 5 موضوعات رئيسة في هذه المقابلات تتعلق بطريقة مشاركة قصصهم في مساعدة المتحدثين في منظمة باتير، وهي:
1. تعزيز عملية التحسُّن:
أكدَّ المشاركون أنَّ التحدث ساعدهم على تعزيز عملية التحسن ذاتها تحسيناً جزئياً؛ لأنَّ ذلك أجبرهم على التفكير في رحلتهم وكيف تغلَّبوا على التحديات والصعوبات، فقد كانوا قادرين على تحديد الاستراتيجيات التي ساعدتهم وتغيير نظرتهم للصحة العقلية، وأحد القواسم المشتركة، هو الشفاء من المرض العقلي والاهتمام بالصحة العقلية باستمرار، مثل الاهتمام بأي أمر آخر.
وقد قارن أحد المتحدثين تجربته في منظمة باتير مع التمرينات الرياضية قائلاً: "يمكن أن يكون قَصُّ القصة على 300 شخصٍ تجربةً مخيفةً جداً تعزز قدرتك على التحمل؛ الأمر أشبه باستعراض قدراتك العقلية أمام الجمهور، وهذا لا يستنزف قواك ويهز ثقتك بنفسك وحسب؛ بل يمنحك مشاعر جياشةً نوعاً ما، لكن ليس بالمعنى السلبي للكلمة؛ حيث يبدو الأمر كما لو أنَّك تسلَّقت جبلاً للتو أو قفزت من طائرة".
2. تقبُّل الذات:
تحدَّث المشاركون أيضاً عن كيف أدت مشاركة قصصهم إلى تغيير طريقة تفكيرهم بأنفسهم وساعدتهم على تقبُّل ذاتهم.
بالنسبة إلى بعض المتحدِّثين، لقد ساعدتهم مشاركة قصتهم على فصل هويتهم عن مرضهم العقلي، كما حسَّنت التجربة أيضاً إحساس الناس بالصحة والسلامة والثقة، وجعلت المتحدِّثين يشعرون بالقوة ومنحتهم إحساساً بتحقيق الأهداف؛ وذلك لأنَّهم كانوا يستخدمون تجربتهم لمساعدة الآخرين.
وقد أشارت إحداهن إلى أنَّ زيادة تقبُّلها لذاتها جعلتها أكثر لطفاً أيضاً، تقول: "أشعر بأنَّنا نقسو على أنفسنا أكثر ممَّا نقسو على الآخرين؛ لذلك إذا كنتُ أكثر لطفاً مع عقلي، فهذا سيجعلني أكثر لطفاً مع الآخرين أيضاً، وأعتقد أنَّه مجرد تقدُّم طبيعي لإنجاز الأمور إنجازاً مختلفاً".
3. التخلي عن التحفُّظ من خلال الحديث عن الصحة العقلية:
يساعد التحدث في منظمة باتير المشاركين على مقاومة الشعور العام بالخجل المرتبط بالمرض العقلي.
يقول أحد المشاركين: "أي شعور بالخجل هو مجرد انعدام في الفهم والاستيعاب، وقلة الفهم والاستيعاب تأتي من نقص المعرفة، أليس كذلك؟ لذلك، كلَّما أجرينا هذه المحادثات مع الناس، نقدِّم لهم أفكاراً جديدةً، ونُفنِّد أفكارهم الحالية".
وأشار المتحدثون إلى أنَّ ورشة العمل منحتهم أدوات لمواجهة الفوضى التي يعيشونها والتحدث عن الأمراض العقلية حديثاً آمناً، وقد تضمَّنت ورش العمل موارد لطلب المساعدة والنصائح حول طريقة مناقشة مشكلات معينة، مثل الانتحار والصدمات، كما تعلَّم المشاركون أيضاً طريقة مشاركة تفاصيل قصصهم دون تعميم تجربتهم على أنَّها الطريقة الوحيدة التي يعاني بها الناس من الأمراض العقلية.
وقد ساعدت أدوات ورشة العمل المشاركين على التعبير عن آرائهم ومعالجة السلوكات السلبية والحديث عن أمراضهم العقلية ضمن مجتمعهم، كما ذكر المتحدثون أنَّهم أصبحوا أكثر تقبُّلاً وتعاطفاً مع أصدقائهم وأفراد أسرهم الذين يكافحون أيضاً، ولاحظوا تغيُّراً في الطريقة التي يتحدث بها أحبتهم عن المرض العقلي.
4. زيادة الترابط:
ذكر المشاركون شعورهم بالارتباط بالمشاركين الآخرين في ورشة العمل، بالإضافة إلى شعورهم بالانتماء للمجتمع مع المتحدثين الآخرين في برنامج منظمة باتير؛ حيث قال بعض المشاركين إنَّهم شعروا بوجود هدف مشترك، وأنَّ التواصل مع المشاركين الآخرين ساعدهم على تقليل شعورهم بالخجل، كما أنَّهم استفادوا من التحدث إلى الطلاب، بعد أن عرفوا أنَّ بعضهم يواجهون على الأرجح تحدياتٍ مماثلة.
قال أحد المتحدثين: "أحب امتلاك القدرة على التواصل مع أشخاص آخرين وفق هذا المستوى، ومعرفة أنَّ شخصاً ما في الغرفة على الأقل سوف ينصت لما سأقوله، وسيتفهَّم ذلك، وأعتقد أنَّه غالباً ما ننسى أنَّ التجربة الإنسانية هي تجربة مشتركة، حتى لو كانت شيئاً فريداً ومستقلاً بالنسبة إلينا".
5. السعي إلى الحصول على الدعم:
لاحظ المشاركون أنَّه منذ مشاركة قصتهم على الملأ، أصبحوا أكثر استعداداً لطلب المساعدة عندما يرون أنَّهم يواجهون صعوباتٍ على المستوى العقلي، وكانوا أكثر وعياً بالأماكن المناسبة للعثور على الدعم، وأكثر ميلاً لتشجيع الآخرين على طلب الدعم.
كما ذكر العديد من المشاركين الذكور أنَّ التوقعات التقليدية المتعلقة بالرجولة قد منعتهم في السابق من التحدث عن تجربتهم؛ حيث قال متحدث يبلغ من العمر 25 عاماً: "إنَّه أمر مثير للاهتمام أن تُشفَى من مرض عقلي مثلما فعلت؛ حيث كان يوجد الكثير من الخجل بشأن الطريقة التي تشعر بها، وكيف يتوافق ذلك مع نظرة المجتمع إلى المشاعر التي يجب على الصبية أن يظهروها".
لقد أعرب هؤلاء المشاركون عن تقديرهم للتحدث مع الطلاب الذكور حول العوائق التي قد تمنعهم من طلب المساعدة، وشجَّعوهم على أنَّه لا يوجد مشكلة في شعورهم بالضعف وطلب الدعم.
يفترض عالِم الاجتماع وعالِم النفس في جامعة إيموري (Emory University) في ولاية جورجيا كوري كيز (Corey Keyes)، أنَّ المرض العقلي والصحة العقلية يعملان ضمن سلسلتين منفصلتين لكنَّها مترابطتان، ويقترح باحثو منظمة باتير أنَّ البرنامج ينجح في كلتا الحالتين، فهو يقلل الأمراض العقلية من خلال معالجة شعور الخجل، وتشجيع الناس على طلب المساعدة، كما أنَّه يحسِّن الصحة العقلية من خلال خلق الترابط الاجتماعي والشعور بالهدف والتطور الشخصي.
أهمية الإفصاح عن الذات:
على الرغم من أنَّ هذه الدراسة ألقت نظرة على تجارب شخصية لـ 18 شخصاً فقط، ويوجد حاجة إلى دراسات المتابعة لقياس هذه النتائج، تشير دراسات أخرى أيضاً إلى أنَّ الكشف عن تجاربنا الشخصية مع المرض العقلي قد يكون مفيداً على الصعيدين الشخصي والمجتمعي.
درَّس كوريجان (Corrigan) وآخرون برنامجاً تدريبياً مختلفاً بقيادة الأقران، تحت عنوان الصدق (Honest) والتحرر (Open) والفخر (Proud)، أو اختصار (هوب) (HOP)، وقد صُمِّمَ هذا البرنامج لدعم الأشخاص المصابين بمرض عقلي في قراراتهم لمعرفة متى ومع من يجب أن يكشفوا عن مرضهم العقلي، ولمساعدتهم على التدرب على طريقة سرد قصتهم.
كما وجدت الدراسات العشوائية الخاضعة للرقابة أنَّ تدريب برنامج هوب يقلِّل من التوتر المرتبط بشعور الخجل لدى البالغين وطلاب الجامعات والمراهقين، على الرغم من أنَّه من غير المعروف إلى متى تستمر هذه الآثار الإيجابية.
يختلف برنامج هوب عن برنامج منظمة باتير؛ وذلك لأنَّه غير مُصمَّم لتدريب المشاركين على سرد قصة مرضهم العقلي لمجموعات كبيرة من الناس، وبدلاً من ذلك، يساعد المشاركين على تحديد فيما إذا كانوا يريدون الكشف عن ماضيهم، وإذا كان الأمر كذلك لمن سيكشفون ذلك، على سبيل المثال، قد يختار الشخص سرد قصته لصديق مقرب، ولكنَّه يخفي المعلومات عن أحد معارفه الذي تكلَّم كلاماً سيئاً عن شخص مصاب بمرض عقلي.
وهذا يسلِّط الضوء على تعقيد الإفصاح عن الذات؛ حيث إنَّ الكشف عن تاريخ المرض العقلي لا يخلو من المخاطر، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى التمييز، ولكن يوجد أيضاً فوائد محتملة، مثل الحصول على المزيد من الدعم الاجتماعي والمساعدة، والشعور بالصدق، وتقليل التوتر بشأن إبقاء المرض أمراً سرياً.
يوجد كذلك مخاطر وفوائد للأشخاص الذين ينصتون إلى قصص التحديات والصعوبات التي يواجهها الآخرون مع الصحة العقلية، فإذا كنت تعاني من مرض عقلي؛ فإنَّ الإنصات إلى مثل هذه القصص يمكن أن يؤدي أحياناً إلى تفاقم الأعراض لديك، مثل سلوكات اضطراب الطعام وإيذاء النفس، ولكن يمكن أيضاً أن يكون أداةً للشفاء والتخلص من الخجل.
في مراجعة لبرنامج هوب، كتب نيكولاس روش (Nicolas Rüsch) وماركوس كوسترز (Markus Kösters) من جامعة أولم في ألمانيا (Ulm University in Germany): أنَّه من أجل "تحقيق تغيير دائم في مفهوم الصحة العامة، يجب دمج برنامج هوب مع برامج أخرى للتخلص شعور الخجل العام"، وأشاروا إلى "أنَّه يجب عدم ترك الأشخاص المصابين بمرض عقلي يتعاملون بمفردهم مع شعور الخجل الذي لا يتحمَّلون مسؤوليته؛ فانخفاض الشعور بالخجل سيؤدي إلى بيئة اجتماعية أقل تحيزاً تسهِّل الإفصاح عن الذات والتواصل الإيجابي والاندماج مع الآخرين".
يمكن أن يساعد رسم صورة دقيقة في وسائل الإعلام للأشخاص المصابين بمرض عقلي، وحملات التوعية العامة، وقصص المشاهير، وبرامج مثل برنامج منظمة باتير، على ذلك.
تشير هذه النتائج إلى ضرورة مشاركة تجاربنا المتعلقة بالصحة العقلية مع الآخرين، وقد تكون الصحة وسيلة لتحسين سلامتنا وتقبُّل الذات تقبُّلاً أفضل، مع التخلص من شعور الخجل وتعليم الآخرين كيف يمكنهم الحصول على المساعدة، وبهذه الطريقة، ليس لقصصنا القدرة على مساعدتنا فحسب؛ وإنَّما على مساعدة الآخرين ومساعدة المجتمع.
أضف تعليقاً