يستكشف هذا المقال كيف يمكن أن تسهم التكنولوجيا في تعزيز العلاقات الأسرية أو تقويضها، وكيف يمكننا تحقيق توازن صحي بين الاستخدام الرقمي والوقت المخصص للأحباء.
تأثير التكنولوجيا في العلاقات العائلية
أصبح العالم مع ظهور التكنولوجيا وتطورها السريع مثل غرفة صغيرة تُتبادَل فيها الأحاديث والأخبار والثقافات، ولا يمكن إنكار الفوائد العديدة التي جلبتها التكنولوجيا للأفراد والمؤسسات، ولكن تأثيرها في العلاقات الأسرية كان سلبياً في كثير من الأحيان، فقد أدَّت إلى زيادة الانفصال، وقطع الأواصر بين أفراد الأسرة، وأصبح كلُّ فرد يعيش في عالمه الخاص، مفضِّلاً الانعزال أمام الشاشات المحمولة وأجهزة الكمبيوتر لساعات طويلة، وهذا يجعل الأفراد يفقدون الإحساس بالوقت والترابط الأسري.
تظهر الآثار السلبية للتكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي بوضوح في هذا السياق كما يأتي:
1. الانفصال عن الواقع
تُعدُّ التكنولوجيا جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، لكنها تحمل في طياتها تأثيرات عميقة في العلاقات الأسرية، فقد أدَّت هذه التقنية إلى تراجع التواصل الحقيقي بين أفراد الأسرة، وأصبح كل فرد منهم محاصراً في عالمه الافتراضي، بدلاً من قضاء الوقت معاً، وبات الاعتماد على الهواتف الذكية هو الخيار السائد للترفيه والتواصل، وهذا أدَّى إلى فقدان اللحظات القيِّمة والمحادثات العميقة التي تعزِّز الروابط العاطفية، ويزداد الفراق العاطفي بين الأفراد مع هذه العزلة الرقمية، وهذا يستدعي ضرورة إعادة النظر في كيفيَّة استخدامنا للتكنولوجيا لتحقيق تواصل أكثر عمقاً وفاعليَّة داخل الأسرة.
2. الإدمان على التكنولوجيا
أصبح إدمان التكنولوجيا ظاهرة تؤثر في جميع أفراد الأسرة، وأدى استخدامها المفرط إلى انشغالهم بأنفسهم وبالعوالم الافتراضية، ويمنحهم هذا الانغماس في المنصات الرقمية شعوراً بالراحة والمتعة، ولكنَّه في الوقت ذاته يعوق قدرتهم على التركيز على واجباتهم الأسرية؛ لذا يعاني الكثيرون من صعوبة في تحديد الأولويات، وهذا يؤدي إلى إهمال الواجبات المنزلية والاجتماعية، ولا يقتصر هذا الإدمان على فقدان الوقت فقط، بل يهدِّد أيضاً الروابط الأسرية ويجعل من الضروري إعادة التفكير في كيفيَّة استخدام التكنولوجيا بما يحقِّق التوازن بين الحياة الرقمية والحياة الحقيقية.
3. التشتت المستمر وفقدان التركيز
تعد كثرة الإشعارات والرسائل على الأجهزة الذكية من العوامل التي تشتت انتباه أفراد الأسرة، وهذا يعوق تركيزهم في أثناء النشاطات الجماعية أو الواجبات الدراسية، ولا يؤثر هذا التشتت في جودة الوقت الذي يقضونه معاً فقط، بل يُفقدهم أيضاً فرص التواصل والتفاعل الحقيقي؛ فيتراجع نتيجة لذلك مستوى الرضى والسعادة داخل الأسرة، ويتزايد الشعور بالإجهاد والضغط؛ بسبب الانشغال المستمر بالمشتِّتات الرقمية، ويسلِّط هذا الوضع الضوء على أهميَّة إعادة تقييم كيفية تعاملنا مع التكنولوجيا؛ لضمان تعزيز الروابط الأسرية بدلاً من الإضرار بها.
4. المقارنة المزيفة
تؤدي التكنولوجيا - لا سيَّما مواقع التواصل الاجتماعي - إلى زيادة المقارنات بين الأفراد، فبينما يتصفح الناس الصور المثاليَّة لأشخاص آخرين في أوقات سفرهم، أو وهم يستعرضون مقتنياتهم الثمينة، يبدأُ الشعور بالنقص في التسلُّل إلى نفوسهم، ويتساءل الكثيرون: "لماذا لست مثلهم؟" أو "لماذا ليست عائلتي مثل تلك العائلات الثرية؟"، وهذا يعزز مشاعر الإحباط والقلق، وتُعدُّ هذه الظاهرة من الجوانب السلبية لتأثير التكنولوجيا في العلاقات الأسرية، وتقوِّض الثقة بالنفس، وتضعِف الروابط العاطفية بين الأفراد، وتُظهِر الحاجة الملحَّة لتوجيه استخدام هذه المنصَّات نحو تعزيز القيَم الإيجابية بدلاً من إحداث الفجوة.
هل تؤثر التكنولوجيا في الحالة النفسية؟
يؤثر الإفراط في استخدام التكنولوجيا تأثيراً ملموساً في الصحة النفسية للعلاقات الأسرية، وخاصَّة بالنسبة إلى الأطفال.
يظهر هذا الأثر في الأعراض الآتية:
1. القلق
قد يؤدي الإفراط في استخدام التكنولوجيا إلى زيادة مستويات القلق لدى الأفراد، فهم يتعرَّضون باستمرار للمحتوى المتدفِّق بسرعة على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد يثير هذا الانغماس في المعلومات مشاعر التوتر والقلق المبالغ فيه، وهذا يؤثر سلباً في الصحة النفسية؛ لذا يجب أن نكون واعين لكيفيَّة استخدامنا لهذه المنصات، وأن نعمل على تقليل التعرُّض للمحتوى الضاغط الذي يؤثر سلباً في حالتنا النفسية.
شاهد بالفيديو: 6 آثار سلبية للتكنولوجيا على الأطفال
2. اضطرابات النوم
النوم هو عملية بيولوجية أساسية للصحَّة العامة، ويساعد الجسم على إصلاح نفسه واستعادة طاقته، وتؤثر الأجهزة الإلكترونية مثل الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر سلباً في جودة النوم، ويعود ذلك جزئياً إلى الاستخدام المفرط للتكنولوجيا، خاصة في الساعات المتأخِّرة من الليل، ويسبِّب التعرُّض للشاشات اختلالاً في نمط النوم، ويقلِّل من مستوى الاسترخاء.
يُعزى هذا التأثير إلى الإشعاع الضوئي الأزرق المنبعِث من هذه الأجهزة، والذي يثبط إفراز هرمون "الميلاتونين" المسؤول عن تنظيم دورة النوم، وتعزيز الاسترخاء؛ لذا يجب أن نراقب أوقات استخدامنا للتكنولوجيا؛ لضمان نوم صحي وجودة حياة أفضل.
3. الاكتئاب
إن الهدف من وسائل التواصل الاجتماعي هو تعزيز التواصل، إلا أن الاستخدام المفرط لها قد يؤدي إلى آثار سلبية في الصحة النفسية، فعندما يتصفَّح الأفراد منشورات الآخرين قد ينتابهم شعور بالإحباط والرغبة في تقليد "الحياة المثالية" التي يرونها، وتؤدي هذه المقارنات المستمرة مع الآخرين إلى ضغط نفسي متزايد، وهذا بدوره يزيد من خطر الإصابة بالاكتئاب؛ لذا من الضروري أن نتعامل مع هذه المنصات بحذر، مع التركيز على تعزيز تجاربنا الشخصية بدلاً من الانغماس في المقارنات السلبية.
6 طرائق لتقليل الأثر السلبي للتكنولوجيا في العلاقات الأسرية
ذكرت الكاتبة "جولي جارغون" مجموعة من الاستراتيجيات والطرائق التي قد تساعد الأفراد على تبنِّي عادات صحية عند استخدام التكنولوجيا، وذلك في تقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال"، ومن بين هذه الطرائق: تقييم كل فرد في الأسرة مدَّة استخدامه للتكنولوجيا، ومشاركة النتائج مع الآخرين، فهذا يعزِّز الوعي الجماعي، كما توفِّر إعدادات وقت الشاشة على أجهزة "آبل" و"أندرويد" وسيلة فعَّالة لحساب وقت الاستخدام الأسبوعي، وهذا يساعد المستخدمين على ضبط سلوكاتهم ضبطاً أفضل.
إليك أهم الطرائق التي تساعد على تحقيق التوازن في استخدام التكنولوجيا دون التأثير سلباً في الصحة:
1. تنظيم استخدام الأجهزة الذكية
قد تسهم القواعد المتسقة المتعلقة بالتوقيت والمكان المناسبَين لاستخدام الأجهزة الذكية في تجنب العديد من المشكلات، على سبيل المثال: إذا اتَّفقت الأسرة على عدم استخدام الهواتف خلال وجبة العشاء أو في غرف النوم ليلاً، فإنَّ هذا يجعل البيئة خالية من الجدل تجاه هذه النقطة.
قرَّرت "سوزان أريكو" - المرشدة في مجال الرفاهية الرقمية - أن تتوقَّف عن أخذ هاتفها إلى الحمَّام، وتؤكِّد أنَّ هذه الخطوة تهدف إلى تحدي الشعور المتواصل بالحاجة إلى الاحتفاظ بالهاتف بالقرب منها في جميع الأوقات، وتظهِر هذه المبادرات أهمية وضع حدود صحيَّة؛ لتعزيز التواصل والراحة في الحياة اليومية.
2. إثارة جو من المنافسة لتقليل وقت الشاشة
يقدِّم "كريس فلاك" - الشريك المؤسس لشركة "آنبلاغ" الاستشارية للصحة الرقمية - نصيحةً قيِّمة للعائلات التي تتمتع بروح المنافسة، وهي: استخدموا هذه الروح لتقليل وقت الشاشة، فيمكن للآباء تحدي أنفسهم والتقليل من تصفُّح "إنستغرام" لساعتين في الأسبوع، بينما يلتزم الأطفال بتقليل استخدام "تيك توك" بنفس القدر، ولإضافة جو من المرح، يمكن تحديد جائزة للفائز، مثل الحصول على بيتزا، بينما يحصل الخاسرون على شطائر، وهذه الفكرة ليست فقط وسيلة لتقليل الوقت الرقمي، بل تعزِّز أيضاً الروابط الأسرية من خلال التفاعل الإيجابي والتشجيع.
3. القيام بنشاطات بعيداً عن العالم الرقمي
لا يُعدُّ التعبير عن الرغبة في قضاء مزيد من الوقت في الهواء الطلق أو قراءة الكتب كافياً، بل يجب تخصيص وقت فعلي لذلك، وجعله جزءاً من روتينك اليومي، فيمكنك تحديد فترات للنزهات العائلية خلال عطلات نهاية الأسبوع، أو تخصيص وقت للقراءة معاً، وتعزِّز هذه النشاطات الروابط الأسرية، وتسهم في تحسين جودة الحياة، كما تُعدُّ وسيلة للاستمتاع.
4. استثمار وقت الشاشة بعمل مفيد
يمكنك توجيه أطفالك نحو محتوى ترفيهي تعليمي بدلاً من مقاطع الفيديو العشوائية على "تيك توك" أو "يوتيوب" إذا كنت ترغب في تحسين جودة الوقت الذي يقضونه أمام الشاشات بدلاً من تقليله.
تقول "نيكول روسون" مؤسِّسة "سكرين تايم كلينيك": إن البرمجة الأقل جاذبية قد تدفع الأطفال إلى استكشاف خيارات أخرى، مثل قراءة الكتب، ويمكنك تعزيز تعلُّم أطفالك وتوسيع آفاقهم بطريقة ممتعة من خلال هذا التحوُّل.
5. ابتعِد عن مواقع التواصل
تشير مرشدة الرفاهية الرقمية إلى أن بدء يومك دون التحقق من "تويتر" و"إنستغرام" قد يعزز قدرتك على ضبط النفس في استخدام منصَّات التواصل الاجتماعي، وتتيح هذه الخطوة البسيطة لك التركيز على بداية يومك بطريقة أكثر إيجابية، وهذا يساعدك على تقليل الاعتماد على هذه المنصَّات طوال اليوم، وتعزيز تجربتك الرقميَّة وجعلها أكثر توازناً.
6. أجرِ تغييرات بسيطة في حياتك اليومية
يمكنك اتِّباع سياسة التدرُّج في تقليص الوقت الذي تقضيه أمام الشاشات إذا كنت تجد أنَّ فكرة قضاء يوم كامل دون استخدام الأجهزة الذكية صعبة التنفيذ، على سبيل المثال: إذا قلَّلت استخدامك للتكنولوجيا بمعدَّل ساعتين يوميَّاً على مدار عام، ستستعيد شهراً كاملاً من حياتك، ويمكنك البدء بالتخلِّي عن الساعة التي تقضيها في التحقُّق من الأخبار في الصباح، وكذلك الساعة التي تقضيها في تصفُّح "إنستغرام" في سريرك ليلاً، وسيكون من الأسهل تحقيق ذلك إذا حرصت على عدم وجود هاتفك في غرفة نومك، وهذا يساعدك على تعزيز جودة نومك ووقتك الشخصي.
في الختام
يتضح أن التوازن هو المفتاح، ففي الوقت الذي توفِّر فيه التكنولوجيا فرصاً للتواصل والبقاء على اتصال، فإن الإفراط في استخدامها قد يؤثر سلباً في الروابط العائلية، ويجب أن نتحلى بالوعي اللازم عند استخدامنا لهذه الأدوات، وأن نخصِّص وقتاً للتفاعل الشخصي وتعزيز الروابط الحقيقية؛ وذلك لنأخذ خطوة نحو بناء علاقات أقوى وأكثر صحَّة في عصر التكنولوجيا، ولنستثمر في الوقت الذي نقضيه مع أحبائنا.
أضف تعليقاً