ولكن هل استعمال وسائل التواصل الاجتماعي هو الخطأ الذي يجعل الصحة العقلية للمراهقين أسوأ؟ بينما تشير بعض الدراسات إلى ذلك، يرسم بعضها الآخر صورة أكثر دقة، ويجدون صعوبة في تحديد المشكلات المتعلقة بقضاء الوقت أمام الشاشة نفسه، مقابل العوامل الأخرى المرتبطة أحياناً باستعمال وسائل التواصل الاجتماعي، التي قد تقلِّل من سلامة المراهقين، مثل التنمر عبر الإنترنت أو العزلة الاجتماعية.
بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما تستند الاستنتاجات الحالية إلى بيانات من نقطة زمنية واحدة، هذا يجعل من الصعب إثبات أنَّ الوقت الطويل أمام الشاشة يؤثر سلباً في الصحة العقلية.
تضيف نتائج دراسة دولية عن المراهقين المزيد إلى هذا النقاش، وتشير إلى إرشادات مقترحة لاستعمال الشاشة، بالتركيز على أكثر من 577000 مراهق من 42 دولة في جميع أنحاء "أوروبا" (Europe)، و"أمريكا الشمالية" (North America)، وتشير نتائج الدراسة إلى أنَّه قد لا نضطر إلى القلق بسبب الوقت الذي نقضيه أمام الشاشة، حتى يصل إلى مستوى ضار معين، ويمكن أن تؤدي هذه الإرشادات دوراً وقائياً هاماً.
بالنسبة إلى الدراسة، استعمل الباحثون استطلاعات على نطاق واسع تفصل بينها أربع سنوات - في عام 2006 و2010 و2014 - وذكر المراهقون الذين تتراوح أعمارهم بين 11 و15 عاماً مقدار وقت فراغهم، الذي يقضونه بانتظام أمام الشاشة في مشاهدة التلفزيون أو مقاطع "يوتيوب" (YouTube)، أو الألعاب، وتصفُّح وسائل التواصل الاجتماعي، والدردشة مع الأصدقاء.
كما ذكروا عدد الأيام التي يمارسون فيها الرياضة في الأسبوع، ومقدار رضاهم عن حياتهم، وعن صحتهم العقلية، مشيرين إلى عدد المرات التي شعروا فيها بالإحباط العاطفي، أو الانفعال، أو الغضب، أو التوتر، وعدد المرات التي واجهوا فيها صعوبات في النوم، والدوخة، والصداع، وآلام المعدة، وآلام الظهر، والأعراض الجسدية المرتبطة بضعف الصحة العقلية.
وأظهرت التحليلات أنَّ الوقت القليل الذي تقضيه أمام الشاشة لم يكن له أي تأثير في سلامة المراهقين، والفتيات اللواتي قضين أقل من ساعة على الشاشة، والأولاد الذين أمضوا أقل من 90 دقيقة على الشاشات لم يتأثروا بذلك سلباً.
ولكن عند قضاء أوقات أكثر أمام الشاشات، انخفض رضاهم عن حياتهم انخفاضاً ملحوظاً، وكانوا أقل سعادة بحياتهم، وزاد الأمر سوءاً مع زيادة الوقت الذي يقضونه أمام الشاشات، إذا تجاوز الوقت 105 دقيقة في اليوم للأطفال أو 75 دقيقة في اليوم للفتيات، فإنَّ صحتهم العقلية تزداد سوءاً أيضاً.
وفقاً للباحث الرئيس "أسادوازمان خان" (Asaduzzaman Khan) من "جامعة كوينزلاند" (University of Queensland)، في "أستراليا" (Australia)، فإنَّ هذه النتائج تدعم الإرشادات السابقة الصادرة عن "جمعية طب الأطفال الأمريكية" (American Pediatric Society)، التي تشير إلى أنَّ المراهقين يجب ألا يقضوا أكثر من ساعتين أمام الشاشة يومياً.
ويقول "خان" (Khan): "إذا تجاوز الوقت الذي يقضونه أمام الشاشة أكثر من ساعتين يومياً، سيسبب هذا ضرراً بالصحة العقلية".
من ناحية أخرى، وجدت دراسته أيضاً أنَّ المراهقين الذين يمارسون تمرينات رياضية أكثر انتظاماً، لديهم رضا أكبر عن الحياة وشكاوى بدنية أقل لكلا الجنسين، كما كانت التأثيرات غير مرتبطة إلى حد كبير بالوقت الذي يقضيه المراهقون أمام الشاشات؛ لذلك إذا مارس المراهقون المزيد من التمرينات، فمن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى إزالة الأضرار التي لحقت بسلامتهم، التي استمرت حتى ست أو ثماني ساعات من الوقت الذي يقضونه أمام الشاشة.
يقول "خان" (Khan): "إنَّ هذا يشير إلى نهج ذي شقين لتحسين رفاهية المراهقين، فإذا أردنا تحسين الصحة العقلية للأطفال، فنحن بحاجة إلى استهداف كلا السلوكين؛ تقليل وقت الشاشة، وزيادة النشاط البدني إلى أقصى حد، فإذا كنَّا نستهدف سلوكاً واحداً فقط، فلن نحقق استفادة كاملة".
في الدراسة، أبلغ الأولاد الذين قضوا ساعة إلى ساعتين من الوقت أمام الشاشة يومياً، وكانوا نشيطين طوال أيام الأسبوع عن أكبر قدر من الرضى عن الحياة، في حين أنَّ الفتيات اللواتي مارسن الرياضة كل يوم، وقضين أقل من ساعة أمام الشاشات، كُنَّ في أفضل حال بما يتماشى مع الحل الذي اقترحه "خان" (Khan).
يحذِّر "خان" (Khan) الآباء والأشخاص الآخرين من عدم الإفراط في القلق من نتائج قضاء الوقت أمام الشاشات حتى الآن، فهناك أوجه قصور في الدراسة، ومن ذلك عدم اليقين من تأثير الأنواع المختلفة من قضاء الوقت أمام الشاشات في الصحة العقلية، على سبيل المثال: قد يكون للتصفُّح عبر وسائل التواصل الاجتماعي تأثير مختلف تماماً في السلامة عن لعب ألعاب الفيديو، أو أنَّ الفتيات أفضل حالاً مع نوع واحد من الترفيه الرقمي مقارنة بالأولاد.
يقول "خان" (Khan): إنَّ بعض أبحاثه الحديثة التي لم تُنشَر بعد، تدعم هذه الفكرة، مع أنَّه من الواضح لا يزال هناك الكثير الذي يتعين القيام به قبل أن نتمكن من معرفة كل الفروق الدقيقة في هذا الأمر.
ومع ذلك، فإنَّه يشير إلى أنَّه على الآباء تشجيع أبنائهم المراهقين على تقليل الوقت الذي يقضونه أمام الشاشة، والقيام بالمزيد من التمرينات إذا أمكنهم ذلك، ويقترح على الآباء التفكير في استعمال أدوات عبر الإنترنت يمكنها تنبيه المراهقين، أو أي شخص عندما يصل إلى حد معقول من الوقت الذي يقضونه أمام الشاشة.
على سبيل المثال: بعد مشاهدة مقاطع فيديو على "يوتيوب" (YouTube) لمدة ساعة، أو إنَّها فكرة جيدة - كما يقول - أن تأخذ فترات استراحة من جميع الأجهزة الإلكترونية من وقت لآخر، وهي طريقة تدعى "التخلص من السموم الرقمية".
في حين أنَّه من المنطقي الترويج لهذه الفكرة للمراهقين، لكنَّه ليس من السهل إقناعهم بالحدِّ من استعمال الأجهزة الإلكترونية خاصة الآن، عندما أَجبَرَت جائحة "كوفيد-19" (COVID-19) العديد من المراهقين على استعمال الإنترنت أكثر من أي وقت مضى؛ ويشير "خان" (Khan) أيضاً إلى أنَّه من الصعب فرض قيود على المراهقين ما لم يكن الآباء هم أنفسهم قدوة حسنة في سلوكهم.
يقول "خان" (Khan): "إذا كنتُ أشاهد "نتفلكس" (Netflix) لمدة خمس ساعات، فمن غير المنطقي أن نفترض أنَّ ابني المراهق سيخرج ويقوم بنشاطات أخرى؛ لذا يحتاج الآباء والأطفال إلى العمل معاً على هذا الأمر، ومعرفة كيفية استبدال بعض الوقت الذي يقضونه أمام الشاشة بالاستمتاع بالطبيعة.
يمكن للمدارس أيضاً المساعدة على تحسين سلامة المراهقين، كما يقول "خان": "في الكثير من الأحيان، تعتمد المدارس اعتماداً كبيراً على الأدوات الرقمية للتدريس أو التواصل مع الطلاب، مع عدم توفير وصول كافٍ إلى النشاطات الجسدية الخارجية، وقد تكون البرامج التي تشجِّع المزيد من التمرينات، مثل تنظيم رحلات ركوب الدراجة إلى المدرسة ميزةً إضافيةً".
يأمل "خان" (Khan) وزملاؤه في نشر دراستهم، التي قد تساعد على تقديم توصيات أكثر دقة عن الوقت الذي يجب عدم تجاوزه في استعمال الأجهزة الرقمية، وهذا يساعد أطباء الأطفال والآباء على حد سواء على اتخاذ خيارات ذكية تخصُّ سلامة الأطفال.
ويقول "خان": "نحن قريبون جداً من الوقت الذي يمكننا فيه وضع إرشادات أكثر دقة لا تضع فقط في الحسبان كيفية تأثير الوقت الإجمالي في استعمال الأجهزة الرقمية على الصحة العقلية؛ بل كيف يؤثر التعرُّض لأنواع مختلفة من الأجهزة الرقمية فيها بطرائق مختلفة، وسيساعد ذلك المدرسين وأولياء الأمور والأطفال على فهم الحدود التي يجب وضعها".
أضف تعليقاً