كذلك فإنَّ علم النفس لا يكتفي بالنظر إلى قضايا الحياة وتفسيرها وتحليلها ومعرفة الدوافع والأسباب؛ بل يتجاوز هذه الأمور ويصل إلى مرحلة تحليل كل ما سبق من أجل الوصول إلى حل، أو الوصول إلى صورة واضحة يستطيع من خلالها الإنسان تجاوز العقبات والمصاعب والتعامل معها؛ وذلك لأنَّ أغلب المشكلات التي نعاني في حلها وتكون عصية على الحلول، يكون السبب في ذلك هو الفهم الخاطئ للمشكلة، ومن ثم يكون الحل بصورة خاطئة. هنا يبرز الدور الهام والمحوري لعلم النفس في توصيف جذور المشكلة بشكل صحيح، من أجل انتقاء الحلول الصحيحة والمناسبة لحل هذه المشكلات.
هل تعلم أنَّ كتم الأسرار من الأمور التي تسبب الضغط النفسي؟
إنَّ حفاظ الفرد على أي سر يُعَدُّ من الأمور المتعبة نفسياً، ويولد ضغطاً داخلياً يعاني منه الإنسان في داخله؛ والسبب في ذلك يعود إلى مدى الانشغال الذي يحتاج إليه كتمان هذا السر؛ حيث يؤكد خبراء علم النفس أنَّ فرط التفكير الذي يرافق عملية كتم السر، يُعَدُّ سبباً أساسياً من أسباب زيادة منسوب التوتر في الجهاز النفسي للإنسان.
وقد كانت هناك دراسات قديمة تعتقد أنَّ حجم السر أو مدى خطورته، يتناسب طرداً مع شدة الضغط النفسي الذي يتعرَّض له الفرد، ولكن برهنت الدراسات الحديثة أنَّ الزمن الذي يمضيه الفرد في التفكير في السر، هو ما يؤثر في صحته النفسية.
ويؤكد الباحثون في علم النفس أنَّ أكثر الأسرار التي يتجنب الإنسان قولها، قد تكون الإدمان أو القصص الجنسية أو المشكلات الجنسية أو قلة الثقة بالنفس أو نقص الموارد المادية أو قلة الكفاءة في العمل.
حرب الكتمان والبوح، صحتك النفسية هي أرض المعركة:
ويُكمل الباحثون القول بأنَّهم وجدوا منطقة محددة في الدماغ، مهمتها في طبيعة الحال أن تقول الحقيقة، فهي مُبرمجة على ذلك ويُطلَق عليها اسم "القشر الحزامي"، فيما توجد منطقة أخرى في الدماغ مسؤولة عن كتم السر وتُعرَف باسم "القشر الجبهي"؛ وهو يُذكِّر الفرد بكل النتائج السيئة التي قد تحدث في حال البوح بالسر والتوقف عن كتمانه، أو مشاركته مع شخص آخر.
هنا في هذه الحالة تتولد حرب ضروس أو ما نسميها بحرب البوح أو الكتم؛ وهذا يؤدي إلى زيادة إفراز هرمونات الشدة وأهمها الكورتيزون، والتي تسبب ظهور التجاعيد في عمر مبكر، وارتفاع الضغط الشرياني، وزيادة سكر الدم، واضطرابات في جهاز المناعة وعمليات الأيض، ونقص في التركيز، وأعراض أخرى نفسية وجسدية يسببها الضغط النفسي.
نستنتج من كل ذلك أنَّ كتم الأسرار، يترافق مع عبء نفسي لا يمكن الاستهانة به؛ إذ إنَّ عملية الكتم تحتاج إلى الكثير من الاتزان والنضج، وخاصةً تلك الأسرار التي تتعلق بحياة الأشخاص الذي وثقوا بنها، ووضعوا هذه الأسرار أمانة في أعناقنا.
ومن الأشياء الهام ذكرها في هذا السياق؛ وجود الكثير من المهن التي تتطلب كتم السر، مثل مهنة الطب التي يحافظ بها الطبيب على جميع أسرار مرضاه الذين يتعامل معهم بشكل يومي، وكذلك من يعمل في المباحث، والذين يحافظون على أسرار خطيرة تتعلق بأمن وسلامة أوطانهم؛ إذ إنَّ البوح بهذه الأسرار لأي شخص، من الممكن أن يؤدي إلى نتائج كارثية لا تُحمَد عقباها.
الحب على شبكة الإنترنت، هل يمكننا الحديث عن الحب من أول رسالة؟
تتميز العلاقات التي تبدأ على شبكة الإنترنت، بأنَّ جاذبية الشخص الآخر تكون أقل أهمية أو بالأحرى غير ظاهرة، وكلام هذا الشخص وحروفه وتعابيره وجُمَله هي من تكون صاحبة السلطة العليا في الحديث، وكما نعلم بأنَّ المعلومات التي يمكن أن تحتويها الرسالة الأولى هي معلومات قليلة ومحدودة؛ لذلك تكون حالات الحب أكثر حدوثاً في أول محادثة أو ما يسمى بـ "التشات".
إذ إنَّ المحادثة توفر معلومات أكثر وتتيح التفاعل والتواصل بين الاثنين، فعلى سبيل المثال: قد يستطيع الشخص إيصال حس الفكاهة أو الدعابة؛ وهذا يؤدي إلى وقوع الشخص في حب المرسل على الفور.
يرتبط الحب من أول حديث أو محادثة، بما يُطلَق عليه اسم "الهالة الشخصية"، والتي تعني أنَّ الشخص الذي تظهر لديه صفة إيجابية مثيرة للاهتمام، من المؤكد أنَّ لديه صفات إيجابية أخرى، فيحصل انخداع حقيقي للعقل، وطبعاً العقل هنا يخدع نفسه وليس الطرف الآخر.
وتأكيداً على الكلام السابق، فإنَّنا نسمع الكثير من الأشخاص الذين يقولون بأنَّهم وجدوا الطرف الآخر جميلاً وذكياً فانجذبوا إليه مباشرةً، أو قد يقول آخر بأنَّه لا يعلم كيف وقع في الحب على الفور، وطبعاً نسبة كبيرة من هؤلاء الأشخاص يعانون فيما بعد من تحطم هذه العلاقات بشكل مفاجئ، لدرجة أنَّهم قد يقعون في هاوية الاكتئاب.
لا يمكن إنكار أنَّ الجمال يحمل تأثيراً بالغ القوة في النظرة الأولى، ولكنَّ قيمة أو فاعلية هذا التأثير تخف مع مرور الوقت، مع تعرُّفنا إلى الصفات الأخرى للشخص، كذلك الأمر في حالة الحب عن طريقة شبكة الإنترنت، فقد يكون لروح الدعابة والنكتة تأثير قوي في البداية، ولكن مع مرور الوقت يصبح هناك حالة من التعود.
لذلك، لا بد من إجراء لقاء على أرض الواقع مع الطرف الآخر، من أجل تكوين صورة منطقية وصحيحة، واتخاذ القرار السليم بعد اكتمال الصورة أمامنا.
في حالة الحب من أول نظرة، يُسقِط العقل اللاواعي هذه الهالة القوية أو القيمة الكبيرة التي نعطيها للشكل الخارجي للشخص، على جميع صفاته وميزاته الأخرى الكلية والنفسية والاجتماعية والثقافية، أما في حال الحب من المحادثة الأولى، يجري إسقاط القيمة الكبيرة المُعطاة للمهارات اللغوية في الكتابة ومهارات الكلام والفكاهة على الصفات الأخرى المجهولة ومنها الشكل الخارجي.
ويمكن أن نستنتج أنَّ هناك ما يجمع الحب على أرض الواقع والحب على شبكة الإنترنت؛ وهو أنَّه في الحالتين يتولد إعجاب مبني على معلومات قليلة ولكنَّه إعجاب كبير، ويملك ذروة عالية لدرجة أنَّه يملأ الفجوات المفقودة.
هل يمكن أن يستمر الحب عن طريق شبكة الإنترنت لفترة طويلة؟
من الوارد جداً، أن يكون الوقوع في الحب من النظرة الأولى بداية الطريق نحو حب عميق قد يدوم مدى الحياة؛ وذلك في حال تعزُّز الصفات الإيجابية التي اكتُشِفَت من أول نظرة، أو على الأقل لم يحدث تعارض قوي مع الصفات التي تكشَّفَت مع تكرار اللقاءات والتفاعل المستمر في الحياة اليومية.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحب من أول محادثة، يمكن أن يكون بداية لحب وارتباط عميق يمتد لفترات طويلة، بشرط أن تتوسع الانطباعات الأولى، وتتوافق مع الانطباعات التي ستأتي فيما بعد، وألَّا يحدث التعارض أو التعاكس فيما بينها، وهذا شرط أساسي لاستمرار هذه العلاقة.
وحقيقة أنَّ أيَّة علاقة حب من الممكن أن تنتهي في أي وقت، هذا لا يعني أنَّ العلاقة لم تكن مثالاً عن الحب الحقيقي، فالوقت ليس مقياساً حصرياً للحب الحقيقي.
شاهد بالفديو: 12 نصيحة للحفاظ على الصحة النفسية
الانخداع والانبهار يكون أكثر في المحادثة الافتراضية:
يحمل مستوى الانبهار بالطرف الآخر خلال المحادثة الافتراضية الكثير من السلبيات والمشكلات والمخاطر؛ وذلك لأنَّ غالبية الأشخاص هم أفراد مثاليون على مواقع التواصل الاجتماعي؛ لأنَّهم يدخلون إلى المحادثة وهم في وضعية مريحة تتيح لهم انتقاء الكلمات بكل دقة وحذر والتعديل عليها والتراجع عنها، وانتقاء المناسب وحذف ما هو غير مناسب، ويضيفون الزينة إلى كلام قد يخفي وراءه الكثير من الأمور.
كل ما سبق هو بكل تأكيد أقل إمكانية للحدوث في اللقاء الحقيقي على أرض الواقع؛ حيث تتسم المحادثة الواقعية بالعفوية والتلقائية والصدق أكثر؛ إذ إنَّ إخفاء الأمور أو الحقائق في اللقاء الواقعي يكون أمراً صعباً بالمقارنة مع الحديث الافتراضي.
في النهاية، يبقى اللقاء على أرض الواقع هو أكثر متعة وجاذبية، فهو يتيح لنا قراءة لغة الجسد التي تعطينا معلومات هامة لا يمكن التلاعب بها، والاستمتاع بقراءة لغة العيون، وكل عناصر الجمال الحقيقي دون فلترات مواقع التواصل الاجتماعي التي تُظهِر ما تريد أن تظهره، وتُخفي ما تريد أن تخفيه، والكمال لله في جميع الأحوال.
كلمة أخيرة:
لا بد أنَّكم في نهاية هذا المقال، تتساءلون عن ماهيَّة العلاقة بين كتمان الأسرار، والحب عن طريق الإنترنت، والحقيقة أنَّه على الرغم من الانتشار الواسع للتقنيات الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي وما أحدثه من انفتاح، يبقى موضوع التعارف عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي من الأمور التي ليست لها سمعة جيدة في بعض المجتمعات.
من هنا يُخفي الشريكان غالباً هذا الجانب من علاقتهما من فضول الآخرين، ويُبقيانه سراً بينهما؛ وهذا يشكل أيضاً عامل ضغط نفسي سلبي؛ وذلك من خلال فرط التفكير في كيفية إخفاء هذا الموضوع.
لا بد أن نقول إنَّ طريقة التعارف ليست لها أهمية سواءً عبر الإنترنت أم بشكل شخصي على أرض الواقع، فالهام هو أنَّ كل طرف يعرف الآخر بشكل واضح، ويقدر على أن يحبه ويتفاهم معه، وهذا هو أساس أيَّة علاقة.
وربما يكون التعارف عبر الإنترنت أفضل؛ وذلك لأنَّه يؤمن خيارات واسعة للتعارف؛ وهذا يتيح للشخص أن يختار الشريك الأنسب، على عكس محدودية الأشخاص الذين نراهم في العمل مثلاً مقارنة بالفضاء الافتراضي الواسع جداً، بالإضافة إلى الأريحية في الكلام عبر الكتابة، ولا يحتاج إلى الشجاعة الكبيرة نفسها التي يحتاج إليها البوح أو المبادرة على أرض الواقع.
أضف تعليقاً