مع تزايد احتمال حدوث موجات الحرِّ والظواهر الحراريَّة الشديدة الأُخرى بسبب تغيُّر المُناخ، من الهامِّ فهم كيف تتأثَّرَ أدمغتنا بالتعرُّض لدرجاتِ حرارةٍ مرتفعة، فإليك كيف قد يؤثِّر الحرُّ الزائد في أدمغتنا، وخطوات للمساعدة على حماية دماغك من الضَّرر الناجم عن الحرِّ.
العلاقات المدروسة بين الحرارة الزائدة وصِحَّة الدماغ:
- التعرض للحرارة المُفرِطة مرتبطٌ بانخفاضٍ أكبر في القدرة العقلية لدى السكان الأشد ضعفاً اجتماعياً.
- الحرارة العالية مرتبطة بمعدَّل أعلى للجرائم العنيفة، خاصَّةً لدى الشباب.
- الحرارة العالية ترتبط بمخاطر أعلى لاضطرابات المزاج، خاصةً خلال موجات الحرِّ التي تستمرُّ لـ 3 أيام أو أكثر.
- درجات الحرارة الداخلية الأكثر دفئاً مرتبطةٌ بتأخُّرٍ في أوقات الاستجابة.
- قد تُمثِّل موجات الحرِّ عاملاً خطراً للسَّكتة الدماغية.
- الحرارة العالية مرتبطة بزيادة خطر دخول المستشفى بسبب الخرف.
ما هي المسارات المحتملة التي تربط التَّعرُّض للحرارة البيئية بسوء صحَّة الدماغ؟
1. زيادة التوتر التأكسدي:
يُعتقد أنَّ التفاوتات بين التأكسد والاختزال في خلايانا تُمثِّل مساراً رئيساً لعددٍ من الأمراض، ومن ذلك الأمراض الدماغية، وردودُ الفعلِ التأكسدية والاختزالية (التي تسمَّى بشكل مجتمع "ردود فعلِ الأكسدة والاختزال") أساسيَّةٌ لوظيفة الميتاكوندوريا، مصانع الطاقة الخلوية لدينا.
الخلايا العصبية غنيَّة خصوصاً بالميتوكوندريا، والتي تعدُّ أساسيَّةً لطاقةِ الدِّماغِ ووظيفته، فقد يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى الخلل في الأكسدة والاختزال، ومن ثم يؤدِّي إلى تلفِ الميتوكوندريا وإضعاف صحَّةِ الدماغ، إضافة إلى ذلك، قد يؤدِّي الإجهاد التأكسدي الزائد إلى الإضرار بالبطانة الواقية للدِّماغ، أي الحاجز الدَّموي الدماغي.
2. زيادة الالتهاب في الدماغ:
من المعروف أنَّه في النماذج الحيوانية، تؤثِّر درجات الحرارة العالية في تركيبِ ووظيفة الجهاز المناعي خصوصاً، فقد يؤدِّي الحرُّ الزائدُ إلى تنشيط استجابةٍ التهابيَّةٍ.
في البشر الذين يُعانون من سكتةٍ حراريةٍ، ثمة أدلَّةٌ على التهابٍ زائدٍ، وثمة اقتراحٌ بأنَّ الالتهاب قد يُحرِّض بعضَ أعراضِ الدماغ لهذه الحالة، ففي حين أنَّ المسارات الدقيقة التي تربط الحرَّ والالتهاب ما تزال غير واضحةٍ إلى حدٍّ ما، فمن المُرجَّح أن تشمل مسارات التوتر وبروتينات الصدمة الحرارية.
يُعتقد أيضاً أنَّ الالتهاب الزائد في الدماغ قد يقمع السيروتونين الدماغي؛ وبعض البيانات قد رَبطت مباشرةً بين التعرُّض للحرارة ووظيفة السيروتونين.
3. السمية المُحفِّزة:
للحفاظ على توازن صحي بين التنشيط والتعطيل العصبي، يجب أن تُراقَب مستويات مركبات الناقلات العصبية المسمَّاة غلوتامات بشكل وثيق من قِبل خلايا أدمغتنا،، ففي النماذج الحيوانيَّة، تبيَّن أنَّ الحرَّ الزائدَ قد يُعزِّز زيادة الغلوتامات المُتاحة، وهذا يؤدِّي إلى حالة تدميرية للدماغ تسمى "السمية المحفزة".
لماذا الدماغ حسَّاس جداً لتقلُّبات الحرارة؟
بصفتنا مخلوقات ذوات دمٍّ دافئ، يقوم البشر بتنظيم درجة حرارة الجسم الداخلية، ويتميَّز هذا بالتباين مع المخلوقات ذوات الدمِّ البارد، الذين يعتمدون على البيئة الخارجية لدرجة حرارتهم، وتبقى درجة حرارة جسمنا الأساسية ثابتة تقريباً (قرابة 97-98 درجة فهرنهايت أو 36-37 درجة مئوية) بصرف النظر عن بيئتنا، وبالنسبة إلى المخلوقات باردة الدم (مثل الإجوانا أو الثعبان) ترتفع وتنخفض درجات حرارة جسمهم مع درجة الحرارة الخارجية.
كوننا مخلوقات دافئة الدمِّ يعني أنَّنا قادرون على الحفاظ على أجسامنا وأدمغتنا في حالة تشغيلٍ كاملةٍ بصرف النَّظر عمَّا يحدث حولنا، ولكنَّه أيضاً يتطلَّب جهداً ضخماً من ناحية الطاقة لتوليد ما يكفي من الحرارة، وعندما يُتجاوَز نظام تنظيم الحرارة لدينا، تتدهورُ الأمورُ بسرعةٍ بالنِّسبةِ إلى أدمغتنا.
نظام تنظيم درجة حرارة جسمنا مُتمَركِزٌ في أدمغتنا بالتحديد في الغِدَّة النُّخامية، "مدفأة" جسمنا التي تُعدِّل باستمرارٍ درجةَ حرارتنا الأساسية.
عندما نتعرَّض للحرِّ أو البرد الزائد لمُدَّةٍ طويلةٍ، يتحمَّل نظام تنظيم درجة حرارة جسمنا بعبءٍ زائدٍ، وقد تتضرَّر الغدَّة النخامية نفسها (في سياق التعرُّض للحرِّ العالي أو المُستمِر)، وتنفد الطاقة (في سياق فقدان الحرارة)، ويَتضرَّر الجسم والدماغ.
استجابةً لارتفاعِ درجات الحرارة، تحتوي أجسامُنا على آليَّتين رئيسَتين للتَّخلُّص من الحرارة الزائدة، أولاً: يزداد تدفُّق الدمِّ إلى جلدنا مع اقتراب الدم من البيئة الخارجية، فتتبخَّر الحرارة الداخلية (تقريباً مثل نفخ الهواء على كوبٍ من القهوةِ السَّاخنةِ لتبريده).
الحرارة أيضاً تجعلنا نبدأ في التَّعرُّق، فعندما يُفرَز العرقُ على جلدنا، يتبخَّر الماء، وهذا يؤدِّي إلى تأثير مُبرِّد، وعندما تكتمل هذه العمليات، تتراكم الحرارة الزائدة وتتأثَّرُ أدمغتنا.
فوائد التَّعرُّض المقصود للحرارة مثل الساونا:
خلال العقود القليلة الماضية، أشارت الأبحاث إلى أنَّ ثمة فوائداً صحيَّةً يمكن تحقيقها من خلال التَّعرُّض المقصود لدرجات حرارةٍ أعلى، ومن ذلك تحسين صحَّةِ الدماغ، فوجدت دراسة أجريت على قرابة 14,000 شخص بأنَّ مُعدَّلات الإصابةِ بمرضِ ألزهايمر كانت أقل بشكل ملحوظ لدى المُستخدِمين بشكل متكرر للساونا (مقارنةً بالمستخدمين بشكل نادر).
تصف معظم الدراسات أيضاً الارتباط بين مُدَّة الحمَّى الكاملة للجسم وتقليل أعراض الاكتئاب، ومن اللَّافت للنَّظر أنَّ الأبحاثَ الأخيرة تقترح أنَّ أحدَ العواملِ المُحفِّزة لهذه الفائدة قد تكون زيادةً في العلامة الالتهابية IL-6.
كيف نتوافَق مع هذه البيانات التي تبدو مُتناقِضة؟
في تداخلاتِ التَّعرُّضِ للحرارة ومن ذلك الساونا، يكون التعرُّض للحرارة محدوداً في الزمن، ويُشجَّع على الشرب، إضافة إلى ذلك، نظراً لأنَّ التعرُّضَ المقصودَ والعلاجي للحرارة مُخطَّطٌ له؛ تكون لدينا قدرة على الابتعاد عن الحرارة إذا شعرنا بالتعب أو الإعياء.
لكنَّ الأهمَّ من ذلك، ركَّزت عدَّةٌ من الأبحاث عن التعرُّض للحرارة على موضوع يُسمَّى "الهرميسيس"، أو التأثير الفعَّال للموانع قصيرة الأمَدِ، والفكرة هي أنَّ الارتفاعات قصيرة الأمد للحرارة قد تُعزِّز من قدرة الجسم على التحمُّل من خلال تنشيط مؤقَّتٍ وأكثر لطفاً لمسارات التوتر، ومن ذلك زيادات قصيرة في الالتهاب.
يشير هذا إلى إمكانية وجود مُنحنى "U" مقلوب، فقد تؤدِّي جرعاتُ الحرِّ اللَّطيفة ومحدودة الزمن إلى فوائد صحيَّة، بينما قد يؤدِّي التعرُّض للحرارة لمُدَّة أطول ودرجاتِ حرارةٍ أعلى إلى عواقبَ صحيةٍ خطيرةٍ.
كيف يمكننا تقليل المخاطر المرتبطة بالحرارة الزائدة على الدماغ؟
بصرف النَّظرِ عن نتائج الدماغ، تشيرُ الأبحاثُ بوضوحٍ إلى أنَّ صحَّتنا العامةَ تستفيد من تجنُّب التعرُّضِ للحرارة الزائدة، وتزيد إمكانية حدوث مشكلات في الدماغ القَلِق، وإليك خطوات عمليَّة للمساعدة على التخفيف من تأثيرات الحرارة الضارة في دماغك وجسمك:
- ارتداء الملابس الفضفاضة الخفيفة، فيساعد ذلك على تبديد الحرارة وتيسير التبريد.
- الحفاظ على رطوبة الجسم، والتأكُّد من شرب كميَّاتٍ كبيرةٍ من الماء في الأيام الحارَّة.
- تجنُّب النشاطات الخارجية ذات الطاقة العالية التي قد تزيد زيادةً كبيرةً من الإجهاد المُتعلِّق بالحرارة على جسمك ودماغك.
- استخدام المراوح الداخلية وتكييف الهواء، أو العثور على أماكن تتوفَّر فيها هذه المرافق.
- الامتناع عن استهلاك الكحول، الذي قد يزيد من الجفاف ويؤثِّر في وعيك بأعراض الحرارة.
- تقليل الحرارة الداخلية الإضافية من الطهي إذا كان ذلك ممكناً.
- استخدام الستائر لتقليل الحرارة الإضافية من أشعة الشمس.
تأثير التعرُّض للحرارة العالية على أعضاء الجسم الأخرى:
1. زيادةُ خطرِ الإصابةِ بأمراضِ القلب:
تزيد درجات الحرارة العالية من الضغط على القلب والأوعية الدموية، وهذا يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب مثل ارتفاع ضغط الدم وأمراض الشرايين التَّاجيَّة.
2. ضعف الأداء القلبي:
قد يؤدِّي التعرُّض المُطوَّل للحرارة العالية إلى ضعف الأداء القلبيِّ وتقليلِ قدرةِ القلب على ضخِّ الدمِّ بفاعلية، وهذا يؤثِّر في الأوكسجين المتوفِّر للأعضاء الحيوية.
3. زيادة خطر الإصابة بأمراض الرئة:
قد تزيد الحرارة العالية من التعرُّض لتهيُّج الجهاز التنفسي وتنشيط الإنتاج المُفرِط للمُخاط، وهذا يزيد من خطر الإصابة بأمراض الرئة مثل التهاب الشُّعَب الهوائية والربو.
4. فقدان السوائل:
تزيد درجات الحرارة العالية من مُعدَّل فقدان السوائل من الجسم من خلال التعرُّق، وهذا قد يزيد من الضغط على الكليَتين ويزيد خطر الإصابة بالجفاف.
5. اضطراب وظائف الكِلى:
قد يؤدِّي التعرُّض المُطوَّل للحرارة العالية إلى تقليل وظائف الكِلى وزيادة خطر الإصابة بالتهاباتِ الكلى والحصى الكلوية.
6. التهيُّج والحروق:
تؤدِّي الحرارةُ العاليةُ إلى تهيُّج الجلدِ والحروق، خاصةً عندما يتعرَّض الجلدُ لأشعَّةِ الشمس المباشرة لحقبات طويلة دون الحماية المناسبة.
7. زيادةُ خطرِ الإصابة بأمراض الجلد:
قد تزيد الحرارة العالية من خطر الإصابة بأمراض الجلد مثل التهابات الجلد والطَّفح الجلديِّ والفطريات والسرطانات.
في الختام:
يُظهِر التعرُّض لدرجات حرارة عالية تأثيراً هاماً جداً في صحة الدماغ والجسم عموماً، فعلى الرَّغم من أنَّ الجسمَ لديه آليات تنظيمية للتكيُّف مع درجات الحرارة المرتفعة، إلَّا أنَّ التعرُّضَ المُفرِط للحرارة يؤدِّي إلى مشكلات صحية خطيرة ومن ذلك التهيُّج والإجهاد الحراري والجفاف والإصابة بأمراض القلب والرئتين والكليتين والجلد؛ لذا يجب علينا اتِّخاذ الاحتياطات اللَّازمة لحماية صحتِنا خلال الطقس الحارِّ، من خلال شرب السوائل بانتظامٍ، وارتداء الملابس المناسبة، وتجنُّب التعرُّض المُطوَّل لأشعة الشمس، والبحث عن الظلال والاستراحة في الأماكن المبرَّدة، باتِّخاذ هذه الإجراءات الوقائية يُمكننا الحفاظ على صحة الدماغ والجسم والتمتُّع بفصل الصيف تمتُّعاً آمناً وصحيَّاً.
أضف تعليقاً