تبدأ المشكلة عندما تكون مشاعر الحب أقوى من الحدود المألوفة وعندما نعاني من صعوبة كبيرة في تقبُّل غياب الطرف الآخر والدخول في دوامة من اليأس والحزن والألم بسبب ذلك؛ وهذا ما يُطلَق عليه في علم النفس اسم التعلُّق المرضي أو إدمان الحب، وهو موضوع المقال التالي الذي سنتعرَّف من خلاله إلى مفهوم التعلُّق المرضي وأعراضه وأسبابه وأهم النصائح لعلاجه والتخلُّص منه.
ما هو التعلُّق المرضي؟ وما هي علاماته وأعراضه؟
التعلُّق المرضي هو حالة عاطفية انفعالية تحدث عند بعض الأشخاص بشكل قهري محكومة بظروف نفسية سيئة، وينتج عنه الآثار السلبية في الشخص نفسه وفي الآخرين، هو إذاً حب شخص لشخص آخر ولكن بشكل يتجاوز فيه هذا الحب المألوف ويُصبح سبباً لكثير من المشكلات للطرفين.
وللتعلُّق المرضي أربعة أنماط هي:
- التعلُّق.
- العناية القهرية.
- البحث عن العناية القهرية.
- الانسحاب الغامض.
وضعت الجمعية الأمريكية للطب النفسي التعلُّق المرضي أو إدمان الحب ضمن أنواع الإدمان؛ وذلك وفقاً للدليل الإحصائي النفسي والعقلي، وللتعلُّق أشكال مختلفة ومراحل عدة؛ إذ غالباً ما تبدأ المرحلة الأولى من التعلُّق في سن الطفولة وتأخذ شكل تعلُّق الطفل بأمِّه؛ وذلك لأنَّ الطفل في هذه المرحلة يقضي معظم وقته مع أمه فهي من تُقدِّم له كل الرعاية والاهتمام، وفي حال غياب الأم يتعلَّق الطفل بالشخص الذي يقوم بدور الأم.
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة التعلُّق بالأب؛ إذ يُمثِّل الأب دور الحماية فهو مصدر الأمان، وبعدها تبدأ مرحلة التعلُّق بالأصدقاء وخاصةً في مرحلة المراهقة؛ إذ يؤدي الأقران دوراً هاماً في حياة المراهقين.
يبقى التعلُّق طبيعياً حتى يزيد عن الحد المسموح ويصبح مؤذياً للطرفين، فالتعلُّق الطبيعي حسب الاختصاصيين النفسيين هو دافع الحب الأساسي؛ فهو نتيجة طبيعية للعلاقات الاجتماعية ضمن محيط العائلة والأصدقاء، والدور الذي يمارسونه في حياة الفرد.
نتيجةً للعديد من الأسباب التي سنتكلَّم عنها بالتفصيل لاحقاً، يخرج التعلُّق بشخص ما عن المألوف ويصبح تعلقاً مرضياً، وغالباً ما يكون تعلقاً بالأشخاص المقربين كأحد الوالدين أو الأخوة أو الشريك العاطفي، وتوجد العديد من العلامات التي تشير إلى ذلك وسنذكر منها:
- الاستمرار بتذكُّر الشخص وأفعاله وعدم القدرة على نسيان أشياء صغيرة وتفاصيل العلاقة على الرغم من محاولة ذلك.
- استعمال مواقع التواصل الاجتماعي لمراقبة تحركات وتصرفات ومواعيد ظهور الطرف الثاني على هذه المواقع.
- عدم القدرة على مواجهة الحياة العملية دون الشريك والإحساس بأنَّ كل الأشياء لم يعد لها قيمة وأنَّ معنى الوجود يتلخص بوجود هذا الشخص معنا.
أعراض التعلق المرضي ومضاعفاته:
لا تتشابه الأعراض بين جميع الناس؛ بل قد تختلف من شخص إلى آخر؛ فبعض الأشخاص يظهرون بحالة قوَّة وأنَّهم لا يحتاجون إلى أحد، في حين يُظهر بعضهم الآخر ضعفهم تجاه الشخص المُتعلَّق به.
تتلخَّص الأعراض بمشاعر الخوف من ترك الشريك لهم على الرغم من أنَّ مشاعر الحب تكون موجودة في أغلب الأحيان ومتبادلة بين الطرفين، واتِّخاذ القرارات المتسرعة وإصدار الأحكام دون سماع الطرف الآخر، ووضع اللوم دائماً على الشريك، والاهتمام بالطرف الآخر أكثر من اهتمام الشخص بنفسه والتعامل معه وكأنَّه الشخص الوحيد المُهتَم به.
مضاعفات التعلُّق المرضي:
على الرغم من أنَّ التعلُّق المرضي يُعَدُّ حالة نفسية وعاطفية، إلَّا أنَّ له الكثير من التأثيرات في حياة الشخص؛ فقد يؤدي إلى الإصابة بالعديد من الأمراض العضوية كالصداع وآلام المعدة نتيجة التوتر الدائم، ويؤدي التعلُّق المرضي أيضاً إلى التأخر في الدراسة أو التراجع بسبب فقدان القدرة على التركيز، كما يُسبب مشكلات العمل وعدم القدرة على إنجاز المهام، ويؤدي أيضاً إلى رفع مستوى توقعاتك من الآخرين وهذا أمر خطير جداً؛ وذلك لأنَّه يجعلك تتوقع من غيرك أشياءً لا يستطيعون فعلها.
إضافةً إلى هذا كله يرافقك شعور دائم بأنَّك الطرف الأضعف، والذي يمكن التخلي عنه بسهولة مع الإحساس بالحرمان العاطفي؛ وهذا يقودك إلى خيانة الشريك في بعض الأحيان كرد فعل على الإحساس الداخلي بقلَّة التقدير، ويسبب فشلاً دائماً في العلاقات.
أسباب التعلق المرضي:
الشخص الذي يعاني من التعلُّق المرضي هو غالباً شخص محروم عاطفياً؛ لذلك فإنَّ أسباب التعلُّق المرضي غالباً ما تعود إلى خبرات سابقة، وسنذكر أهم هذه الأسباب:
- مشكلات في مرحلة الطفولة المبكرة؛ كالمعاناة من التجاهل والإهمال وعدم تقديم الرعاية اللازمة.
- العيش في ظلِّ الخلافات والمشكلات الأسرية أو التعرُّض إلى تعنيف دائم من قِبل أحد الأبوين؛ وهذا يُفقِد الشخص الإحساس بقيمته وبأنَّه شخص محبوب، فيتعلَّق بأول شخص يُظهِر له رعايةً ويُقدِّم له حباً، ويصبح التعلق مرضياً حيث لا يمكنه تخيل حياته دون هذه العاطفة التي يقدمها له هذا الشخص.
- التعرُّض إلى مواقف صعبة في الطفولة؛ كالتعرُّض إلى الاغتصاب أو التحرُّش؛ وهذا يفقد الشخص ثقته بنفسه ويُحدِث شرخاً كبيراً في داخله فيحتاج دائماً إلى مَن يدعمه ويرمم جروحه الماضية.
- التعامل مع مشاعره دون مبالاة أو تقدير والاستهتار بشكل دائم بتلك المشاعر وعدم إعطائها أيَّة أهمية تُذكَر، إضافة إلى تجاهل رأيه وعدم أخذه في الحسبان وإشعاره أنَّ لا قيمة لكلامه.
- عدم التعبير عن مشاعره وعدم قول ما يحب أن يقوله، أو عدم البوح بعواطفه وأحاسيسه وخاصةً تلك المشاعر التي يشعر بها تجاه والديه، والعكس من الأسباب أيضاً؛ أي عدم سماعه لكلمات المديح وعبارات الإطراء وخاصةً من قِبل والديه؛ باختصار، العيش ضمن جو مكبوت عاطفياً.
- وجود اضطرابات نفسية لديه مثل اضطراب الشخصية النرجسية؛ إذ يكون الشخص متعالياً على الآخرين، ويُظهر لهم عدم الاهتمام بهم وعدم الحاجة إليهم، في حين أنَّه يكون في حاجة دائمة إليهم وإلى وجودهم في حياته، فهو يستمد قوَّته منهم، واضطراب الشخصية الاعتمادية أيضاً أحد أسباب التعلُّق المرضي؛ فالشخص هنا بحاجة دائمة إلى وجود شخص إلى جانبه يعتمد ويتكل عليه.
- الحرمان العاطفي بسبب العيش ضمن أسرة مفككة بسبب طلاق أو وفاة؛ وهذا يُسبب حرمان الشخص من مشاعر الحنان والحب والأمان التي يحتاج إليها؛ وهذا يسبب تعلُّق الشخص بأول مصدر للعاطفة يقابله في حياته ويصبح الحديث عن تركه له يشبه المخاطرة بحياته.
علاج التعلُّق المرضي:
قبل البدء بالحديث عن علاج التعلُّق المرضي سنجيب عن السؤال التالي "كيف يشعر الذين يعانون من التعلُّق المرضي؟".
الذين يعانون من التعلُّق المرضي تنتابهم الكثير من المشاعر السيئة ويعانون من قلة الثقة بالنفس ومن عدم تقدير الذات؛ فهم خائفون دائماً من الهجران، وحساسون وعاطفيون وشخصياتهم هشَّة جداً، وقد يُسبب الانفصال لهم أزمات نفسية كبيرة، وقد يلجأ بعضهم إلى المخدرات والكحول للتخفيف من الألم النفسي الذي يعانون منه؛ لذلك كان من الضروري جداً البحث عن علاج وحل لهذه المشكلة، ويُقسَّم العلاج إلى:
1. العلاج المعرفي للتعلُّق المرضي، والذي يتمُّ من خلال ما يأتي:
- التعامل مع هذا الاضطراب على أنَّه ناتج عن مشاعر إنسانية طبيعية وفطرية، فعلى الشخص المتعلِّق أن يُدرك حقيقة أنَّ كل ما يعاني منه ناتج عن عواطف ومشاعر، وأنَّ هذه المشاعر مهما بدت قوية وشديدة هي في النهاية مؤقتة وستخف مع مرور الوقت. وهذه المشاعر ليست خاصة به وحده؛ بل هي مشاعر إنسانية مشتركة؛ لذلك ليس هناك داعٍ لتعظيم المشكلة وتحويلها عن مسارها الطبيعي لتخرج عن المألوف.
- لبحث عن الأسباب: يبدأ حل أيَّة مشكلة بمعرفة السبب الكامن وراءها حتى يُوجَّه العلاج نحو السبب مباشرةً بدلاً من التشتت هنا وهناك.
- توقُّع النهاية دائماً: لا شيء يستمر إلى الأبد، العالم في تبدل وتغير دائم والمشاعر أيضاً؛ لذلك توقَّع النهاية قبل البدء بأيَّة علاقة وجهِّز نفسك إلى أسوأ الاحتمالات لو كانت قاسية، وعوِّد نفسك على تقبلها.
- تذكَّر عيوب الشريك: في حالة العلاقات العاطفية ينظر الشخص الذي يعاني من التعلُّق المرضي إلى الشريك كما لو أنَّه شخص مثالي وخالٍ من أي خطأ أو عيب، وهذا ليس واقعياً في الحقيقة، وإذا بحثتَ قليلاً، فستكتشف أنَّ الشريك لديه الكثير من العيوب، وعند إدراكك لهذه الحقيقة سيبدأ سحر هذا الشخص وجاذبيته بالتراجع داخلك؛ وهذا يُخفِّف تأثيره فيك.
2. العلاج السلوكي لاضطراب التعلُّق العاطفي:
المرحلة التالية لتعديل أفكارك ونظرتك إلى ما يحدث داخلك هي تعديل سلوكك، ويحدث ذلك من خلال:
- التعبير عن المشاعر المكبوتة ومصارحة الأهل: ذكرنا آنفاً في أثناء حديثنا عن أسباب التعلُّق المرضي أنَّ أغلب الأشخاص الذين يعانون منه هم أشخاص كانت لديهم مشكلات منذ الطفولة بعلاقتهم مع أهلهم؛ وهذا يدفعهم إلى التعلُّق بأول مصدر خارجي للعاطفة. لذلك، وبدايةً، ابدأ بالمصارحة وأخبر أهلك بكل مشاعرك المكبوتة والمعاناة التي تشعر بها، وحتَّى لو كان الأمر متأخراً قليلاً، فهو مريح جداً ويساعدك على التقرُّب من أهلك؛ فيبقى الارتباط العاطفي بالوالدين قوياً، ويبقى الحديث معهم والإفصاح عن المشاعر هامَّاً لتجاوز النقص الحاصل لديك.
- سلوك الأهل: لا يتعلَّق الأمر بسلوكك فقط؛ بل على الأهل أيضاً تعديل سلوكاتهم تجاه أبنائهم ومدحهم دائماً وتقديم الدعم لهم لمساعدتهم على رفع ثقتهم بأنفسهم وتخطي المشاعر السيِّئة والظروف الصعبة التي يواجهونها.
- إذا كان سبب التعلُّق المشكلات والخلافات والتفكك الأسري، فلا بُدَّ من العمل على حل هذه الخلافات وإيجاد تسويات مناسبة لكل الأطراف بالشكل الذي يضمن حياة مستقرة وآمنة.
- ممارسة النشاطات والهوايات وملء أوقات الفراغ بأشياء مفيدة بدلاً من قضاء الوقت بالتفكير وتذكُّر مآثر الحبيب.
- تكوين صداقات جديدة وقضاء أوقات ممتعة بعيداً عن التوتر والضغط.
- إذا لم تنفع الحلول السابقة، فيمكن استشارة طبيب نفسي أو اختصاصي لتقديم العلاج والنصائح المناسبة.
في الختام:
التعلُّق العاطفي في النهاية ليس مرضاً؛ بل هو مكتسب نتيجة للعديد من الظروف التي يمر بها الإنسان؛ وهذا ربما يجعل من عملية الشفاء سهلة بعد إدراكنا لذلك وفهمنا لحقيقة مشاعرنا، وإدراكنا لحجم المبالغات العاطفية التي نقحم أنفسنا داخلها؛ إذ إنَّ الحياة لا تتوقف على أحد مهما كان هاماً ومؤثراً، وتذكَّر دائماً أنَّ الشخص الوحيد القادر على مساعدتك وتغيير حياتك ومساندتك هو الشخص الذي تراه عندما تنظر في مرآتك.
أضف تعليقاً