1- الثورات العلمية والتقنية:
يمثل انطلاق الثورة العلمية والتقنية العامل الحاسم في حركة وأوضاع نظم الأعمال في العالم بما حققته من توفير طاقات إنتاجية لا متناهية وإبداعات وقدرات متسارعة على تطوير السلع والخدمات.
وقد أدّت تلك الثورات العلمية والتقنية إلى ما يشبه القدرة على إلغاء آثار القيود التقليدية التي اعتادت "الإدارة" أن تعمل في ظلّها، وساعدتها في التخلّص من قيود ومحدّدات كانت دائماً من عوامل تحجيم القدرات الإنتاجية.
ويبرز في هذا المجال ماحققته التقنيات الجديدة من تجاوز لقيود وحدود المكان والزمان وندرة الخامات والموارد الطبيعية وضرورات النمطية في نظم الإنتاج الكبير، وكان لتلك التطورات العلمية والتقنية تأثيراتها المهمة في تشكيل الموارد البشرية في المنظمات المعاصرة من حيث الكم والكيف.
فمن ناحية أصبحت الأعداد المطلوبة من العاملين بشكل عام أقل كثيراً نتيجة إحلال التقنيات الجديدة محل الأفراد، كما أنّ نوعيات الخبرة ومستويات المهارة والتأهيل اللازمة في أفراد المنظمات المعاصرة اختلفت كثيراً وفق متطلبات التعرف على التقنيات الجديدة وضرورات استيعابها والتعامل معها بكفاءة، وبالطبع فقد نتج عن كل ذلك تغييرات جوهرية في:
- أنماط الإعداد والتدريب والتنمية للموارد البشرية.
- مجمل النظم المتعلقة بإدارة الموارد البشرية من حيث تصميم الأداء وتوجيهه، وعلميات قياس وتقييم الأداء.
- أنماط وأسس تحديد الرواتب والمكافآت.
كذلك ونتيجة لارتفاع المستوى العلمي والمعرفي للعاملين في المنظمات المعاصرة نما الاتجاه نحو تمكين العاملين Empowerment وإشراكهم في تحميل مسئوليات اتخاذ القرارات. ولا شك أنّ الثورة العلمية والتقنية كانت عاملاً مهماً في تيسير عولمة الأسواق والإسراع بمعدلات نمو التجارة الإلكترونية من خلال تقنيات الاتصالات والحاسبات الإلكترونية التي تأتي شبكة الإنترنت كنتيجة مباشرة لها.
إن حجم التعاملات الدولية عبر شبكة الإنترنت في تزايد مطرد ويؤكد حقيقة حرية التجارة الدولية وتخطيها الحدود الوطنية والضوابط الحكومية حتى قبل إتمام تنفيذ مقررات اتفاقيات "جات GATT"، الأمر الذي يؤكد أهمية التحول نحو نوعية جديدة من الموارد البشرية تتناسب مع الأوضاع المعاصرة.
2. عالمية الأسواق وتحرير التجارة:
تأتي عملية انفتاح الأسواق الوطنية وتحولها إلى سوق واحدة عالمية بمثابة قوة دافعة قوية تعمل في اتجاه تمييز الشركات والمؤسسات التي تمتلك القدرات الإنتاجية والتقنية والقدرات التنافسية المناسبة، وتيسر لها الدخول في تلك السوق العالمية وتحقيق مراكز تنافسية متينة فيها.
وقد كان هذا التحول عاملاً رئيسياً في توجيه اهتمام الإدارة في المنظمات المعاصرة نحو البحث عن الموارد البشرية المتميزة القادرة على التغلغل في تلك الأسواق الجديدة والمتنوعة.
كما أن تواجد المنظمات في دول متعددة ألزمها بالتعامل مع الموارد البشرية الوطنية، ومن ثم بدأت أهمية فكرة إدارة التنوع في مجال إدارة الموارد البشرية وذلك نتيجة اختلاف الثقافات والعادات والقيم بين العاملين من دول مختلفة، حيث تسعى الشركات العالمية أو متعدية الأممية إلى تشكيل مواردها البشرية من جنسيات متعدّدة تتوافق مع تعدّد الدول التي تتواجد فيها تلك الشركات.
وكان توقيع اتفاقيات "جات GATT" وإنشاء منظمة التجارة العالمية عنصراً فاعلاً ومؤثراً في إعادة تشكيل السياسات الاقتصادية وأسس تنظيم قطاعات الأعمال في الدول الموقعة على الاتفاقيات والملتزمة بتنفيذ ما نصت عليه من إلغاء تدريجي خلال سنوات محدودة للرسوم والضرائب الجمركية على الواردات، وكذلك إلغاء كافة أشكال الحماية غير الجمركية وفتح أسواقها أمام السلع والخدمات الوافدة من خارجها، وتحمل أعباء اقتصادية واجتماعية هائلة نتيجة اختلاف المواقف النسبية لقطاعات الإنتاج الوطنية في كثير من دول العالم وعدم قدرتها على مواجهة المنافسة الطاغية الآتية من الدول المتقدمة اقتصادياً.
وينصب تأثير هذا المتغير ليس فقط على فكر وتقنيات إدارة الموارد البشرية في مجملها، وإنّما وبالدرجة الأولى فإنّ تأثيرها موجه إلى القيادات الإدارية العليا التي سيكون عليها تغيير أفكارها وأساليب تعاملها ومعاييرها في اتخاذ القرارات لتتوافق مع متطلبات التعامل في سوق عالمية مفتوحة، ولمواجهة تحركات المنافسين الآتين من الخارج دون عوائق، وكذا للعمل في ظروف جديدة تخلو من الضمانات وأشكال الحماية والرعاية من الدولة كما في السابق.
كذلك يصب في هذا الاتجاه حركة تكوين التجمعات الاقتصادية الإقليمية التي تحاول إقامة نوع من التوازن بين مصالح الدول المكونة للتجمع الإقليمي وبين ضرورات الانصياع لمتطلبات تحرير التجارة الدولية التي تفرضها الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة لتحقيق مصالحها الذاتية بالدرجة الأولى، وفي هذه الحالات يكون المطلوب نوعيات متميزة من القيادات الإدارية العليا والأفراد المختصين بالتعامل في إطار تلك التجمعات، كما يصب في نفس الاتجاه حركة التعاون الأوروبي مع دول البحر المتوسط والمتمثلة في اتفاقيات المشاركة مع بعض دول المنطقة العربية.
3. التحوّلات السياسية والتوجّه نحو الديموقراطية:
كان انهيار الاتحاد السوفيتي القديم وما تبعه من تفسخ في الجمهوريات السوفيتية وتصدع في جبهة الاشتراكية العالمية بشكل عام من أهم العوامل التي ساعدت كثيراً من الدول على مراجعة نظمها السياسية والاقتصادية، وشجعت على التحرر من مظلة الحكم الشمولي وسيادة البيروقراطية الحكومية في نظم الاقتصاد المخطط مركزياً.
وتبع هدم جدار برلين إعادة توحيد ألمانيا الغربية والشرقية وتحرّر دول أوروبا الشرقية من نظم الحكم الشيوعي وتحوّلها بدرجات مختلفة إلى ديمقراطيات على النمط الغربي تسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والالتحاق بركب السوق الأوروبية والعملة الأوروبية الموحدة. وكان لزاماً على تلك الدول أن تأخذ بنظام اقتصاديات السوق وتتخلّص من الملكية العامة لقطاعات الإنتاج والخروج من عزلتها الاقتصادية السابقة والاندماج في السوق العالمي.
وقد امتد تأثير هذه الحركة نحو الديمقراطية واقتصاديات السوق إلى كثير من الدول خارج أوروبا وفي أفريقيا وآسيا ودول الشرق الأوسط وذلك بدرجات متباينة من العمق والنجاح. وقد ساعدت هذه الحركة التحررية على انطلاق مؤسسات ومنظمات واتفاقيات تسعى جميعها إلى تنمية التواصل العالمي وانفتاح الدول بعضها على بعض وإزالة القيود المانعة لحركة الأموال والقوى العاملة والمبادلات الاقتصادية بين دول العالم. وشهدت التعاملات في العملات والأوراق المالية وحركة الاستثمارات المباشرة طفرات هائلة في السنوات الأخيرة.
وقد كان لتلك التحولات السياسية تأثيراتها الهائلة على قضايا الإنسان وتصاعد الاهتمام بأفكار حقوق الإنسان، واحترام حرية الإنسان في اختيار نوع العمل، وحمايته من البطالة، وتقييد حرية أصحاب الأعمال في فرض نظم وشروط التوظيف. وتصاعدت حركات تسعى إلى تجريم تشغيل الأطفال، بل أصبحت هذه القضية أهم الشروط التي تنطوي عليها اتفاقيات التعاون والمشاركة بين الاتحاد الأوروبي وغيره من الدول.
كما تجسد التحول السياسي على المستوى العالمي نحو النظم الليبرالية بشكل عام والقائمة على التعدّدية الحزبية، والديمقراطية النيابية بشكل أو بآخر. ومن ثم بدأت الدول والمنظمات في الاهتمام بالموارد البشرية وتوفير فرص التعليم الأفضل، والرعاية الصحية والاجتماعية، وتخصيص جوانب مهمة من الميزانيات العامة لمشروعات تشغيل العاطلين وتطوير نظم الضمان الاجتماعي وتعويضات البطالة. كل ذلك أنتج نوعية أفضل من الموارد البشرية ذات قدرات ومهارات أعلى، وبالتالي يتطلعون إلى أساليب أفضل في التعامل من جانب الإدارة المسؤولة في المنظمات، ولا يقبلون الممارسات القديمة لإدارة الموارد البشرية التقليدية.
4. الصحوة الثقافية والانتباه الى أهمية التعليم:
انتبه العالم إلى أهمية الثقافة ودور التعليم في تحقيق النهضة والتنمية الوطنية، وسارعت معظم دول العالم إلى تبني خطط وبرامج طموحة لتطوير نظم التعليم فيها على مختلف المستويات ووجهت نسباً متزايدة من الناتج القومي الإجمالي فيها نحو تحسين نوعية التعليم وزيادة قدرته على استيعاب أعداد متزايدة من السكان.
وكان لانتشار الفضائيات وتقنيات المعلومات أثر هائل في تطور نظم التعليم المفتوح والتعليم عن بعد والوصول بالخدمات التعليمية إلى ملايين السكان الراغبين في التعليم أينما كانوا ومهما تباعدت مواطنهم عن مصادر التعليم التقليدي في بلادهم، بل وتجاوزت إمكانيات التعليم من بعد حدود الدولة الواحدة وأتيحت لمواطني العالم الحصول على فرص للتعليم والحصول على خدمات تعليمية متطورة من مصادر أجنبية تبعد آلاف الأميال عن مقار إقامتهم.
وأصبح مفهوم "التعليم مدى الحياة" هو السائد في معظم الدول، وتعمل منظمة اليونسكو على نشره وترويجه وتطوير آليات مساعدة للدول في تطبيقه. كما أصبحت القنوات الفضائية ونظم البث المباشر عبر الأقمارالصناعية التي تملأ السماوات المفتوحة الآن مصدراً رئيسياً للمعلومات والتأثيرالثقافي المتبادل بين دول العالم عاملاً أساسياً في انصهار الثقافات المختلفة وبداية ظهور ثقافة عولمية.
لقد أنتجت حركة التجديد والتطوير الثقافي والتعليمي واقعاً جديداً يعيشه الإنسان المعاصر يتميز بالانفتاح الفكري والتنوع الثقافي يسمح للإنسان بتحصيل العلم والمعرفة في أي مكان وفي أي وقت وبتكلفة زهيدة. وكانت المحصلة المهمة لتلك الصحوة الثقافية والتعليمية أن توفرت للمنظمات المعاصرة نوعيات متفوقة من الموارد البشرية أطلق عليها بيتر دراكر اسم "عمال المعرفة" الذين يشغلون الأعمال الأكثر أهمية والأعلى في إنتاج القيمة المضافة في المنظمات.
5. الانتباه الى البيئة:
اهتم العالم في السنوات الأخيرة بقضية البيئة وضرورة وضع النظم والضوابط الكفيلة بالمحافظة على سلامتها والقضاء على مصادر التلوث البيئي المختلفة وانعقدت لذلك المؤتمرات العالمية وشاركت الحكومات والمنظمات الدولية والوطنية في سباق كبير من أجل إصحاح البيئة، وانعكس هذا الاهتمام على مختلف مؤسسات المجتمع المعاصر الثقافية والتعليمية والإنتاجية ومنظمات المجتمع المدني على اختلاف توجهاتها، وتبلورت الصحوة البيئية في نظم وآليات للإنتاج تراعي متطلبات المحافظة على البيئة، وتطوّرت قواعد ومواصفات دولية يلزم الأخذ بها من أجل التأهل للتعامل في السوق العالمي والاندماج في هيكل العلاقات الدولية.
ويمثل الإنسان والاهتمام به محور مشروعات التنمية المستدامة والمحافظة على البيئة، وبالتالي اهتمت الإدارةبتنمية مناخ العمل داخل المنظمات بما يتفق وأسس الإدارة البيئية السليمة. فقداعتبرت الإدارة أن الإنسان هو محور الإنتاج أساس تحقيق القيم، ومن ثم تكون العناية به والاستثمار في مشروعات التنمية البشرية أساس للتقدم الإنتاجي.
6. بزوغ عصر المعرفة:
يعرف العصر الحالي بعصر المعرفة ويتسم بسمات رئيسية تجعله مختلفاً إلى حد بعيد عمّا سبق من عصور سادت فيها فلسفات وتوجهات تعبر عن الزراعة أو الصناعة باعتبارها النشاط الإنساني الأساسي في تلك العصور.
وتتبلور السمة المحورية لعصر المعرفة في الاهتمام المكثف بالإنسان وتنمية واستثمار قدراته الذهنية واعتباره الأساس في تحقيق أي تقدم أو تنمية بالمجتمع. وتفرع عن تلك السمة المحورية الاهتمام بالعلم والبحث العلمي كأساس لأي عمل، والاهتمام بتنمية التراكم المعرفي باعتباره الثروة الحقيقية للمجتمع، واعتبار المعرفة هي المعيار الأهم في تقييم البشر والمنظمات وما يتم بها من أنشطة وما يتحقق لها من إنجازات.
وأصبحت المعرفة المصدر الحقيقي للسلطة التي يتمتّع بها الإنسان أو المنظمة أو الدولة. فالمعرفة وليس المال أو المنصب الإداري أو النزعة السياسية هي مصدر السلطة الحقيقيفي عصر ومجتمع المعرفة، وقد ترتّب على ذلك الاهتمام بتكامل مصادر المعرفة وتنظيمها وتنميتها، وارتفاع أهمية وقيمة الأعمال ذات المحتوى المعرفي، واتجاه النسبة الغالبة من أفراد المجتمع إلى الاشتغال بها خاصة في صناعات الخدمات التي أصبحت تمثل النسب الأعلى في تكوين الناتج القومي الإجمالي للدول المتقدمة اقتصادياً وتقنياً ومعرفياً.
وقد اكتشفت الإدارة أهمية المعرفة في بناء وتنمية القدرات المحورية للأفراد والجماعات والمنظمات والدول، ومن ثم اهتمت ببناء برامج تنمية وتوظيف المعرفة لتحقيق تحسين مستمر في العمليات والأنشطة الإنتاجية والخدمية، واكتشاف منتجات وخدمات جديدة. ويترتب على ذلك أن يصبح تخليق المعرفة هو العمل الأكثر أهمية وجدوى في المنظمات المعاصرة، وتصبح مشاركة جميع أفراد المنظمة في تكوين وتنمية وتوظيف واستثمار الرصيد المعرفي هي سمة التقدم الحقيقي. كما تبينت الإدارة كذلك أهمية التمييز بين المعرفة الكامنة أو الذاتية للفرد وبين المعرفة الخارجية التي تأتيه من مصادر بيئية خارجة عنه، وضرورة المزج بينهما حيث لا غنى لإحداهما عن الأخرى، وحيث يحدث التقدم المعرفي نتيجة الاحتكاك والتمازج بين هذين النوعين من المعرفة.
خلاصة القول: إنّ كل تطور في الحياة لابدّ أن يؤدي إلى تغييرات على مستويات مختلفة في الإدارات المختلفة للمنظمات، وخصوصاً إدارة الموارد البشرية وذلك لكونها من أهم الإدارات في منظمات الأعمال، ويبقى على إدارات المنظمات وعلى العاملين فيها الانتباه لها ورصد تأثيراتها والتكيف معها ومواكبتها لتحافظ على جودة أدائها في خدمة رؤية ورسالة المنظمة.
المراجع: كتاب ادارة الموارد البشرية الاستراتيجية - المنتدى العربي لادارة الموارد البشرية
أضف تعليقاً