كيف يحسِّن التأمل قدرتنا على التركيز؟

هل سبقَ وشعرتَ بالإرهاق والتوتر الشديدين بسبب عدم قدرتك على التركيز على شيء ما، أو لأنَّ ذهنك مُشتَّت بحيث لا تستطيع التركيز على أي شيء على الإطلاق؟ يَحدث هذا معنا جميعاً دون استثناء في كثير من الأحيان؛ فنحن نحاول أن نبذل قصارى جهدنا كي نُقدِّم أفضل أداء ممكن، ونستثمر كل فرصة نمرُّ بها في حياتنا، ونحاول بكل ما أوتينا من قدرة أن ننجز الأعمال الملقاة على عاتقنا بأن نوجه تركيزنا عليها بغضِّ النظر عن عدد العقبات التي تعترض سعينا إلى ذلك.



ومع ذلك، وبغضِّ النظر عن مدى ذكائنا واجتهادنا، نحن بشر في نهاية المطاف؛ إذ لا يمكِننا فعل الكثير والمضي قدماً دون الحاجة إلى أخذ استراحة بين الحين والآخر لإعادة شحذ طاقاتنا وتجديد نشاطنا، ناهيك عن حقيقة أنَّ وقتنا محدود للغاية بحيث لا يمكِننا إنجاز كل شيء في قوائم مهامنا المزدحمة.

ربما أنت مشغول للغاية ولا تستطيع التمتع برفاهية أخذ استراحة متى شئت، لكن نأمل أن تُغيِّر منظورك للحياة؛ فتنظر إليها على أنَّها أشبه بماراثون طويل، وليست سباق عَدْوٍ سريع لا يلبث أن ينتهي حتى يبدأ آخر غيره، حيث يجب علينا جميعاً أن نضبط وتيرتنا الخاصة بطريقة أو بأخرى حتى لا نستنزف طاقتنا الذهنية قبل أن نبلغ خط النهاية.

يعاني الكثير من الأشخاص الناجحين من مشكلات في الصحة الذهنية أو النفسية وغيرها من الاضطرابات التي تتجاوز حدود المستويات الاجتماعية والاقتصادية، وذلك كونهم لا يتمكَّنون من ضبط وتيرة حياتهم بما يتناسب مع ما يفعلونه، وأحد أهم الدروس التي يمكِن تعلُّمها من هؤلاء هو مدى أهمية إيجاد طريقة لتنظيم وقتك بحكمة بحيث يمكِنك تعزيز إنتاجيتك وإتاحة الوقت الكافي للاستمتاع بالحياة كما تريد دون التعرض لخطر الاحتراق المهني؛ بمعنىً آخر، لا يجب أن يأتي النجاح على حساب صحتك العقلية والنفسية والجسدية أيضاً؛ بل يجب أن تسعى دوماً إلى تحسين صحتك على جميع المستويات إذا أردتَ تحقيق ما تريد.

لحسن الحظ، يُعدُّ التأمل واحداً من أنجع الوسائل الإدراكية المتاحة لنا، والتي يمكِن استثمارها بسهولة وفاعلية لمساعدتك على اكتساب الوضوح وتعزيز قدراتك الإدراكية لتوظيف وقتك الثمين بنجاح، وسنورد فيما يلي 5 طرائق يساعدك بها التأمل على تحسين تركيزك وتعزيز انتباهك في حياتك اليومية:

1. ترتيب أفكارك:

يساهم التأمل في تنظيمك ذهنياً، وهو ما ينعكس إيجاباً على جودة تركيزك، فعلى غرار جهاز الكمبيوتر، بعد محاولة استيعاب كم كبير من الأمور المعقدة، ستشعر على الأرجح كما لو أنَّك لا تمتلك أيَّة "مساحة خالية" لتخزين أيَّة معلومات جديدة؛ وبالتالي، من المحتمل أن يزداد عبء المعالجة على نظام التشغيل الداخلي لديك، والذي هو الدماغ.

يَحدث ذلك للجميع بمن فيهم أنت شخصياً؛ ونتيجة لذلك - تماماً مثل الكمبيوتر - يتضاءل أداؤنا الذهني، وتتراجع صحتنا النفسية والجسدية تدريجياً مع الزمن؛ فجميعنا لدينا حدود لا يمكِننا تحمُّل أعباء تتجاوزها، ويُعَدُّ التأمل بمثابة وسيلة عصبية حسية لأرشفة الملفات الهامة وحذف البيانات القديمة وحتى المتطفلة في بعض الأحيان، مما يمكِّننا من إعادة ترتيب أذهاننا للتركيز على ما نريد حقاً دون سواه.

إقرأ أيضاً: 14 طريقة لتخلّص دماغك من الفوضى التي تعشش فيه

2. التحرر من صدمات الماضي:

عادةً ما تنطوي الأحداث الصادمة على إحساس بالرعب، أو العجز، أو شعور مفاجئ بالتهديد بإصابة خطيرة، أو الخوف من الموت، أو فقدان الأحبة، ويتأثر كثير من الأشخاص الذين شهدوا حدثاً صادماً سلباً لفترة طويلة بعد وقوع الحادث بسبب حالة تُعرَف عادةً باسم اضطراب ما بعد الصدمة؛ حيث يبقى العديد من الأشخاص الذين يعانون هذا الاضطراب حبيسي ذكريات الماضي، ويعانون من الأرق واضطراب القلق المعمم.

لكن من خلال التأمل المُوجَّه، سيكون هؤلاء قادرين على تجاوز المشكلة من خلال تغيير الظروف المحددة المحيطة بالحدث الصادم الذي أثر سلباً في حياتهم، حيث يمكِن أن يساعد التأمل على تحقيق السلام الداخلي وتقبُّل الماضي كما هو، بحيث تعيش الحاضر بكل تفاصيله بوضوح وتركيز ودون وجل أو خوف من الماضي.

3. تسليط الضوء على تأثير المُعتقدات البالية:

نحن جميعاً نتاج بيئاتنا على اختلافها، حتى إنَّ معتقداتنا مبنية على المعطيات التي يُقدِّمها العالم الذي نعيش فيه، والمعلومات التي يمكِننا الوصول إليها، لكنَّ الاستكشاف هو السبيل الوحيد لنقض المعتقدات البالية التي لم تَعُد قادرةً على التكيف مع المُستجدات الحالية، وما استكشاف بطلان فرضية الأرض المسطحة سوى دليل على ذلك.

نمتلك جميعاً القدرة على تغيير طريقة تفكيرنا، واكتساب بصيرة ثاقبة، كي نكون أكثر وعياً بمحيطنا؛ إذ يمكِن أن يوفر لنا التأمل منظوراً متسامياً للخروج من سجن أجسادنا واكتساب رؤية أكثر شفافية، بدلاً من الغوص في التفاصيل التي تجعل رؤيتنا ضبابيةً وقاصرة عن إدراك الصورة الأشمل، ويمكِن أن يعزز التأمل قوَّتك الذهنية للنظر في أي موقف معيَّن من وجهات نظر متعددة، مما يعزز في النهاية قدرتك على التكيف مع التغيير، بدلاً من السير مع التيار والاحتكام للمعتقدات التي لم تَعُد صالحةً بعد الآن.

4. يساعد على تحييد المشتتات غير الصحية:

يمكِّننا التأمل من تحييد عوامل التشتيت الأقل أهمية وغير الصحية، مما يضمن الحفاظ على علاقات صحية مع الآخرين والعمل باستقلالية.

كما أنَّ التأمل علاج ناجع لحالات الإدمان، حيث يتمكَّن العديد من الناس من توظيف التأمل الموجه للحد من الرغبة الشديدة في المواد التي يظنون أنَّها تحسِّن المزاج، بالإضافة إلى كبح السلوكات المرتبطة باضطراب الوسواس القهري.

حيث يمكِنك من خلال التأمل التخلص من الأفكار غير المرغوب فيها داخل عقلك الباطن أولاً، ثمَّ في الممارسة العملية، خاصة عندما تظهر بعض المحفزات في الحياة الواقعية؛ إذ يساعد التأمل الناس على البقاء يقظين ومستقرين من خلال منحهم متنفساً لإطلاق الأفكار والمشاعر التي من شأنها أن تُعرِّض صحتهم العقلية والنفسية للخطر، وفي الواقع، أظهرَت الدراسات أيضاً أنَّ ممارسة التأمل بصورة منتظمة يمكِن أن يكون فعَّالاً مثل الأدوية في علاج أعراض الاكتئاب الحاد.

5. يخلق التأمل مساحةً خالية من الأحكام المُسبقة:

يساعدك التأمل على خلق مساحة لا مكان فيها للأحكام المسبقة، مما يساعدك على تجميع أفكارك في سلام وانسجام قبل اتخاذ قرارات حاسمة وحساسة، وبصفتنا بشراً، يجب أن نكون دائماً على أهبة الاستعداد، وأن نؤدي أفضل ما لدينا في العمل، مع بذل كل جهد ممكن لقضاء وقت ممتع مع عائلاتنا؛ ففي عالمنا هذا، لا مجال للحلول الوسطية وإضاعة الوقت سدىً؛ إذ يوجد دوماً أناس يعتمدون علينا لتسيير الأمور وعائلة تحتاج إلى أكبر قدر ممكن من الحب والاهتمام؛ لذلك، علينا أن نتخذ باستمرار قرارات هامة تؤثر في الكثير من الناس، وهنا تكمن أهمية التأمل.

فبغضِّ النظر عن مكان وجودك في العالم، وعن مقدار الوقت الذي تمتلكه، يمكِن أن يوفر التأمل فرصةً رائعة للنأي بنفسك عما يدور حولك والولوج إلى عالمك المثالي لاشعورياً، ويمنحك الصفاء والخلوة؛ حيث يمكِنك تصفية ذهنك لاتخاذ القرارات المصيرية بحكمة لا مثيل لها.

لمَ علينا التأمل من أجل التركيز؟

نرغب جميعاً في أن نُحقِّق الاكتفاء الذاتي وننعم بالنجاح في كل ما نختار فعله في حياتنا؛ فنحن كبشر فخورون بالفطرة كوننا نَعُدُّ أنفسنا مفكرين مستقلين لدينا القدرة على حل المشكلات المعقدة، وتحقيق أسمى أهدافنا باستخدام القيادة والإبداع، نتيجة لذلك، يجب أن نكون قادرين على التركيز في المواقف الحالية بذهن منفتح، سواء كان ذلك في العمل أم في المنزل.

من ناحية أخرى، تؤثر القرارات التي نتخذها تأثيراً مباشراً في حياة أحبائنا؛ فلا أحد يستطيع العيش وحيداً على جزيرة نائية، فنحن جميعاً بحاجة إلى بناء روابط شخصية في حياتنا للمشاركة بصورة كاملة في التجربة الإنسانية وإغنائها باستمرار، وعلاوة على ذلك، لهذا الأمر أهمية كبرى بالنسبة إلى رواد الأعمال والمهنيين المستقلين؛ إذ ينبغي على هؤلاء تسوية جميع أمور العمل بأنفسهم وإدراك أنَّ كل قرار يتخذونه سيؤثر في الآخرين سواء كانوا عملاءهم، أم أفراد عائلاتهم، أم عامة الناس؛ ففي نهاية المطاف، تقع على عاتقهم مسؤولية التأكد من أنَّ الناس من حولهم يتلقون الرعاية التي يحتاجون إليها وتُلبَّى احتياجاتهم التي وُعِدوا بها قبل كل شيء آخر.

إقرأ أيضاً: 7 طرق لتدريب عقلك على تحسين التركيز

أفكار أخيرة:

يشعر الكثير منا في هذا العالم العبثي، بأنَّه مُكبَّل بقيود العمل كما لو أنَّنا لا نملك الحق في أخذ يوم عطلة واحد، فلا يمكِن لأي شخصٍ آخر أداء ما نقوم به بدلاً عنا، وحريٌّ بنا أن نقوم بكل شيء ولو على حساب أحبائنا الذين ينتظرون بفارغ الصبر أن نمنحهم بعضاً من اهتمامنا؛ لذلك، قد تعتمد سعادتنا الشخصية ونجاحنا المالي إلى حد كبير على قدرتنا على التركيز وتوجيه انتباهنا بشكل فعَّال، ودون تخصيص الوقت الكافي لتجديد نشاطنا وإعادة شحن طاقاتنا الذهنية، يمكِننا بسهولة أن ننجرَّ وراء العمل حتى تذوب شمعة حياتنا ولا ينفع الندم على ما فات.

تماماً مثل البهلوان الذي يمشي بلا خوف على حبل مشدود، قد نتمكن من تحسين تركيزنا وزيادة مستوى انتباهنا باستخدام التأمل لمساعدتنا في توجيه أفكارنا وإسنادها إلى قاعدة صلبة لا تتزحزح، مما يمنحنا إحساساً أكبر بالتوازن والوضوح ونحن نمضي قدماً في حياتنا.

 

المصدر




مقالات مرتبطة