إنَّ رحلة السعي والعمل والالتزام والإخلاص ممتعةٌ جداً، لكنَّها تتحوَّل لدى بعض الأشخاص إلى رحلةٍ شاقَّةٍ ومتعِبةٍ وماصَّةٍ للطاقة، فتبدأ رغبتهم بالعمل بالانخفاض إلى أن تتلاشى، وتتحوَّل الأهداف التي كانوا يحاربون من أجلها إلى أمرٍ عاديٍّ لا يستحقُّ الذكر، وتترأس اللامبالاة والتهكُّم سلوكاتهم، عوضاً عن الشغف الذي كان هوَّيتهم؛ وهنا تسأل نفسك: ما الذي أوصلهم إلى هذه المرحلة؟ كيف للإنسان المتميِّز أن ينحدر أداؤه بهذا الشكل؟ وماذا عن سقف طموحاته وقيمه وأهدافه، كيف له أن يتخلَّى عنها بهذه السهولة؟
لعلَّ الأمر ليس سهلاً كما يبدو، وبحاجةٍ إلى تحليلٍ أكثر؛ لكن ماذا لو أنَّ هذا الوضعَ حالة مَرضيَّةٌ تُدعَى "الاحتراق الوظيفي"؟
سنناقش في هذا المقال الاحتراق الوظيفي، وأعراضه، وأسبابه، وعلاقته بالرضا الوظيفي.
ما هو الاحتراق الوظيفي؟
يُعرَّف الاحتراق الوظيفي بأنَّه ضغطٌ نفسيٌّ وبدنيٌّ يعاني منه الشخص نتيجة شعوره بالقهر، بحيث ينتقل من مرحلة استمتاعٍ وأداءٍ عالٍ في العمل، إلى مرحلةٍ من الفتور وانعدام الدَّافعية، فيمسي غير قادرٍ مطلقاً على التأقلم مع ظروف العمل المحيطة به، ويتحوَّل إلى شخصٍ انعزاليٍّ أو تهكُّميّ في تعاطيه مع الآخرين.
تستمر مرحلة الاحتراق الوظيفي لفتراتٍ طويلة، وتختلف عن الفترة المحدودة الطبيعيَّة من انعدام الطاقة التي يمكن أن يمرَّ بها أيُّ إنسانٍ نتيجة ضغط العمل.
يعدّ أغلب الذين يعانون من الاحتراق الوظيفي أشخاصاً مميَّزين، حيث يحتلُّ العمل قيمةً عليا في حياتهم، إلَّا أنَّهم يفتقرون إلى تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية، أو أنَّهم يشغلون وظائف ذات ضغط عملٍ مرتفع، مثل الوظائف الخدمية، كالتَّعليم والرعاية الصحيَّة.
صنَّفت منظمة الصحة العالمية الاحتراق الوظيفي على أنَّه مرض؛ لأنَّه يؤدِّي إلى الكثير من الأمراض الصحية والنفسية والاجتماعية.
العلاقة بين الاحتراق الوظيفي والرضا الوظيفي:
يوجد تقاطعٌ كبيرٌ بين الاحتراق الوظيفي والرضا الوظيفي، حيث يعدُّ ضعف الرضا الوظيفي لدى العاملين من أهمِّ أسباب الاحتراق الوظيفي، إذ سيكون العامل غير الراضي وغير المستمتع بعمله عرضةً إلى الإصابة بالاحتراق الوظيفي على المدى الطويل، حيث تُولِّد حالة عدم الرضا ضغطاً نفسياً كبيراً على الإنسان، وقد تُسبِّب له أمراضاً جسديَّة، مثل: الضغط، والنوبات القلبية، والقولون العصبي، وغيرها.
أسباب الاحتراق الوظيفي:
1. عدم الرضا الوظيفي:
يوجد عوامل كثيرةٌ تؤثِّر على معدَّل رضا الموظفين، منها:
1. 1. العلاقة مع المدير المباشر:
تعدُّ العلاقة المتوترة مع المدير المباشر من أهمِّ أسباب إصابة الموظفين الأكفَّاء بحالة عدم الرضا الوظيفي، والتي قد تتطوَّر إلى حالة الاحتراق الوظيفي؛ وقد يصلون إلى اتخاذ قرار الاستقالة وتركهم العمل.
يكون للمدير المباشر تأثيرٌ بالغ الأهمية في موظفيه، فهو قادرٌ على زعزعة ثقة الموظَّف بنفسه، وعلى تشويه علاقته الإيجابيَّة مع عمله، وذلك بمجرَّد توجيه نقدٍ لاذعٍ إليه. بالمقابل، فهو قادرٌ على تعزيز الطاقة الإيجابية للموظَّف، واستخراج أجمل ما لديه من مهاراتٍ وقدراتٍ بمجرَّد ابتسامةٍ صادقةٍ منه، ومديحٍ لطيفٍ على إنجازاته مهما صغرت.
من جهةٍ أخرى، على المدير أن يتبنَّى سياسية الفصل بين الشخص وسلوكه، وتوجيه الملاحظة إلى السلوك وليس الشخص، كأن يقول: "أنت موظَّفٌ نشيطٌ ومجتهد، لكنَّ سلوكك في تلك القضية كان غير مدروس؛ لذا انتبه واحرص على المحافظة على مهاراتك الرائعة".
على المدير المباشر أن يتمتَّع بمهاراتٍ إنسانيَّة، ويتعامل مع موظَّفيه ببساطةٍ ورقي، دون تكبُّرٍ وغرورٍ ومهاراتٍ فنيَّة، بحيث يكون قادراً على أن يكون مصدر معلوماتٍ موثوقٍ به، ويعود الموظَّف إليه للاستشارة؛ ذا فعليه أن يكون معطاءً في العلم ولا يحتكر المعلومات لنفسه، ومهيَّأً لصنع فريق عملٍ قويٍّ ومتعاون؛ إذ يتطلَّب العمل الناجح مديراً قويَّاً يُقدِّر عامليه، وموظِّفين أقوياء ومتمكِّنين من العمل، ومؤمنين بقدرات مديرهم، ومُقدِّرين تواضعه.
1. 2. عبء العمل:
يعاني الكثير من الموظفين من ضغط عملٍ غير طبيعي، بحيث يُطلَب منهم إنجاز مهام ضخمةٍ جداً بعدد ساعاتٍ قليل، الأمر الذي يجعل الموظَّف دائم التوتر والتعب والضغط النفسي، وبعد ذلك يصبح عرضةً إلى الإصابة بالاحتراق الوظيفي.
على أصحاب الشركات مراعاة الموظف الجديد؛ فلكي يكتسب المهارات المطلوبة للعمل، عليه أن يُعطَى الوقت الكافي لذلك، وألَّا يُعامَل كالموظَّف القديم.
1. 3. الأجر الشهري:
يشعر الكثير من الموظفين بعدم الرضا نتيجةً لانخفاض أجورهم الشهرية، حيث يشعرون أنَّهم ملتزمون في العمل ومخلصون له، ولكنَّ أجورهم لا تتناسب مع جهدهم المبذول؛ فيفقِدون بذلك الحافز للعمل.
1. 4. المسار الوظيفي:
يشعر الموظَّف بحالةٍ من عدم الرضا في حال فقدان السيطرة على عمله، كأن يشعر أنَّه عديم القيمة وغير مؤثِّرٍ في عمله، وأنَّ رأيه غير مسموعٍ ولا يُؤخَذ به؛ أو في حال وجود تعارضٍ في القيم بينه وبين مؤسَّسته، كأن تتبنَّى المؤسسة سياسة المحسوبيات ونظام الترقية الاعتباطي غير المبني على الكفاءات، الأمر الذي يُشعِره بالظلم والغبن، حيث تُمثِّل الجدارة قيمةً عليا لديه.
لذلك على الموظَّف اختيار مكان عملٍ مناسب، بحيث يُعزِّز مهاراته وقدراته، وبالتالي تصبح القيمة التي يُقدِّمها الشخص هامَّةً ومفيدةً لسوق العمل؛ ممَّا يرفع من أسهم الموظَّف، ويزيد من فرص تطوُّره.
من جهةٍ ثانية، يجب أن تكون القيم الموجودة في المؤسسة المُختارة متقاطعةً إلى حدٍّ مقبولٍ مع قيم الشخص في الحياة.
2. سقف التوقعات المرتفع:
يقع أغلب الموظفين في فخ الكمالية، فيرسمون العالم الوظيفي بطريقةٍ ورديةٍ خيالية، وتجدهم يتوقَّعون أن يحظوا بمديرٍ رائعٍ يتعامل معهم بمنتهى الرقي، وزملاء عملٍ متعاونين ومُتفهِّمين، وبيئة عملٍ مُحفِّزةً وفعَّالة؛ لكنَّهم ينصدمون بالواقع الوظيفي، ويلاحظون الفارق بينه وبين توقُّعاتهم، ممَّا يصيبهم بحالة الاحتراق الوظيفي.
3. التغيُّرات في الحياة الشخصية:
قد يؤدِّي وجود اضطراباتٍ في الحياة الشخصية للموظَّف إلى خلق حالةٍ من خلط الأوراق، بحيث ينقل مشكلاته في المنزل إلى عمله، ويؤثِّر بذلك في التوازن بين العمل والمنزل، فيزداد توتُّره، ويفقد استقراره؛ ممَّا يؤثِّر في إنتاجيَّته، فيضطَّر إلى أخذ عمله إلى المنزل، وقد يُضحِّي بساعات نومه لكي يُنهِي عمله، الأمر الذي يُتعِبه ويُتلِف أعصابه، فيُصبح معرَّضاً إلى الإصابة بحالة الاحتراق الوظيفي.
4. العمل الروتيني:
يخلق العمل الروتيني والجامد والمُحدَّد بقواعد معيَّنةٍ وتفصيلية، إحساساً بالضيق النفسي لدى الموظَّف، فلا يوجد مجالٌ للإبداع والابتكار والتجديد وإضافة لمسات الموظف الخاصة.
من جهة أخرى، يجعل عدم إعطاء الإدارة صلاحياتٍ للموظَّف من أجل إضفاء بصمته المميّزة على عمله، الموظفَ يشعر أنَّه مجرَّد آلةٍ تعمل، لا إنساناً يملك فكراً ووعياً وطموحاً.
كيف تعلم أنَّك مُصابٌ بمرض الاحتراق الوظيفي؟
إن واجهتك هذه الأعراض التالية، فأنتَ مُصابٌ بمرض الاحتراق الوظيفي:
1. الإرهاق الشديد وانعدام الحافز:
كأن تشعر أنَّك متعبٌ للغاية جسدياً ونفسياً، وأنَّه يلزمك الكثير من الطَّاقة كلَّ صباحٍ لكي تستطيع الذهاب إلى عملك.
من جهةٍ أخرى، قد تشعر أنَّ يوم عملك يومٌ طويلٌ للغاية ولا ينتهي، وتكون أغلب المشاعر المُرافقة لك طيلة عملك مشاعر سلبية من: رفضٍ وشكوى وتذمُّر.
2. انخفاض الأداء بصورةٍ ملحوظة:
إن كنت من الموظفين المشهود لهم بالتزامهم وإخلاصهم في العمل، وبدأ أداؤك ينخفض فجأةً، ويتشتَّت تركيزك، وتتناقص قابليَّتك للعمل والعطاء، واستمرَّ هذا الحال لمدةٍ طويلة؛ فأنت إذاً مُصابٌ بالاحتراق الوظيفي.
3. اللامبالاة للأحداث والعصبية:
كأن تشعر أنَّ علاقاتك مع الآخرين آخذةٌ بالانهيار، وأنَّك غير قادرٍ على الجدال كما السَّابق، فلم يَعُد هناك شيءٌ يستحقُّ النقاش والدفاع عنه برأيك؛ بالإضافة إلى تبنِّيك لردود أفعالٍ عدوانيَّةٍ وعصبيَّةٍ مبالغٍ فيها في بعض الحالات.
4. عدم التوازن والمشكلات الصحية:
لأنَّك تشعر بحالةٍ من عدم الرضا عن عملك، فيتحوَّل لديك العمل إلى هاجس، بحيث تعمل حتَّى خارج أوقات العمل، وتخسر بذلك استقرارك في العمل وفي المنزل، وتصبح تعيساً ومكتئباً؛ إضافةً إلى المشكلات الصحية التي قد تعترضك نتيجة الضغط النفسي الشديد، من: ضغط، ونوباتٍ قلبيَّة، ونوبات قولونٍ عصبي، واكتئاب، وصداع، وغيرها.
علاج الاحتراق الوظيفي:
1. اجلس مع ذاتك:
عليك بدايةً الجلوس مع ذاتك جلسةً هادئةً صادقة، وتحديد أسباب ضغطك النفسي في العمل، فقد تكون أسباباً لها علاقةٌ بك شخصياً؛ مثلاً: أن تزعجك إضاءة مكان العمل، أو أصواتٌ معينة، أو أن تعمل لساعاتٍ طويلةٍ دون أخذ استراحة، أو أن تتعرَّض إلى مشكلةٍ عائليةٍ وتنقل آثارها إلى العمل، أو أن تكون لديك معتقداتٌ معينةٌ أدَّت إلى وصولك إلى هذه الحالة، مثل: السعي إلى الكمالية.
وقد تكون أسباباً لها علاقةٌ بالشركة؛ مثلاً: ألَّا تعتمد نظاماً عادلاً لتقييم أداء العاملين، وهنا عليك مناقشة مسؤول الموارد البشرية في الشركة ومحاولة الوصول إلى الحلول المناسبة؛ وفي حال لم يتجاوب معك، فبإمكانك الانسحاب والبحث عن مكان عملٍ آخر يُناسِب طموحاتك ويُعزِّز من قدراتك.
2. ابتعد عن العمل واذهب إلى الاستجمام:
خُذ استراحةً من عملك، واذهب في رحلةٍ سياحية، أو التحق بنشاطٍ معيَّنٍ من شأنه أن يُعِيد الطاقة والشغف إلى حياتك، وابتعد عن الأجهزة الإلكترونية خارج أوقات العمل؛ لأنَّها مُسبِّبٌ أساسيٌّ في زيادة الضغط النفسي.
3. نَم جيداً:
اعلم أنَّ النوم هامٌّ جداً لصحَّتك النفسيَّة والجسدية، فلا تُفرِّط فيه بأيِّ حالٍ من الأحوال. إذ أثبتت الدراسات أنَّ النوم لأقل من 6 ساعاتٍ يومياً يزيد من احتمال الإصابة بالاحتراق الوظيفي.
4. نَظِّم أمورك:
رتِّب أولوياتك وسجِّلها وكُن منظَّماً في تنفيذها؛ فمن شأن ذلك أن يُحقِّق التوازن بين عملك ومنزلك.
الخلاصة:
اعلم أنَّك المسؤول عن حياتك، وأنَّ النجاح الحقيقي ليس بإرهاق نفسك وأعصابك واستهلاك طاقتك حتَّى الرَّمق الأخير، بل بتحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية، وعيش متعة الحياة بمنتهى الشغف.
أضف تعليقاً