نعم، لقد نضجنا ونحن نخاف الموت ولا نحبُّه، وكأنَّه العقاب الأكثر ظلماً للإنسان، وقد تحوَّل الأمر لدى الكثيرين إلى هاجسٍ يُقلِق راحتهم طوال يومهم، فتراهم يقولون في سرِّهم بينما يكونون جالسين برفقة أبويهم: "ستنتهي حياتي إن فقدتُ أحد والدي"، وتبدأ بعدها مشاعر القلق والحزن تسيطر على حياة أولئك الأشخاص، وتُعِيقهم عن القيام بالكثير من الأمور الإيجابية، وتُفقِدهم متعة الحياة وبهجتها؛ فقد حوَّلوا حياتهم إلى لعبةٍ في يد مخاوفهم عوضاً عن عيش اللحظة وروعتها، وسمحوا لها بالتحكُّم بهم والسيطرة على حياتهم بدلاً من مقاومتها والانتصار عليها.
تُرَى هل خوف أولئك مُبرَّر؟ أم أنَّهم لا يَرون الموضوع من زواياه المختلفة؟ وهل تعلُّق أولئك الشديد بالأشخاص القريبين منهم سيمنع عنهم موت مَن يحبُّون؟ أم أنَّه وسيلةٌ فاشلةٌ لمعالجة الخوف المرضي الذي يعتريهم؟ وهل الموت بالفعل عذاب وألم؟ أم أنَّه حقيقةٌ لابدَّ من التسليم بها، ولابدَّ من التحضير النفسي لها؟ وماذا عن الشخص الميت؟ هل تساءلنا يا تُرَى عن مشاعره في حال رؤيتنا نبكي عليه بلوعة، ونجعل حياتنا خاويةً من بعده؟ هل سيكون سعيداً حينها؟
أسئلةٌ كثيرةٌ تدور في بالنا عند حديثنا عن الخوف من الموت؛ لذا سنحاول من خلال هذا المقال الوصول إلى مُقاربةٍ منطقيةٍ تساعدنا في التداوي من هذا الخوف الذي يعصف بقلوبنا، ويُشوِّه حياتنا.
ما هو وسواس الخوف من الموت؟
دعونا بدايةً نُلقِي نظرةً على الخوف:
يوجد في الحقيقة نوعان من الخوف، هما: خوفٌ طبيعي، وهو الذي أودعه اللَّه في قلوبنا وفَطرنا عليه، مثل: الخوف من عبور الشارع بينما تمرُّ السيارات مُسرعة؛ وخوفٌ آخر مرضيٌّ يقلب حياتنا رأساً على عقب، حيث يطغى على مفاصلها، ويصيبنا بانعدام التوازن والسلام والراحة.
تكمن عادةً حالة رفضٍ لشيءٍ ما أو لفكرةٍ ما وراء شعور الخوف، وكلَّما ازداد رفضك لشيءٍ ما، ازداد خوفك.
إنَّ طاقة الخوف من أكثر الطاقات سلبيةً في الحياة، وهي تُفعِّل الجذب العكسي للأمور؛ فإن كنتَ تجذب عكس ما تريد إلى حياتك، فاعلم أنَّ دوافعك للقيام بأهدافك مُستمدَّةٌ من الخوف لا الحب، فعلى سبيل المثال: "إن كنت راغباً في الزواج بشدة، فاسأل نفسك: هل ترغب بالزواج من أجل حبِّك للعائلة، ولأنَّ فكرة مشاركة الحياة مع شخصٍ آخر مُغريةٌ بنظرك، أم أنّك تتلهف إلى الزواج خوفاً من نظرة المجتمع عنك؟"، فدوافعك إذاً هي مَن تُحدِّد نوعية جذبك.
يعدُّ وسواس الخوف من الموت نوعاً من اضطرابات الهلع التي تُصِيب الإنسان، حيث يُعاني من خوفٍ شديد وقلقٍ رهيب يصل إلى أعلى درجاته خلال دقائق معدودة يشعر خلالها بفقدان السيطرة على حياته، وأنَّه يعيش حالة الموت الفعلي؛ أي أنَّه قلقٌ عصبيٌّ شديد، تصعب السيطرة عليه، وناتجٌ عن شيءٍ ما اختبره الإنسان في السابق، أو فكرة ما يُؤمِن بها.
أعراض الخوف المرضي من الموت:
يعاني الإنسان المصاب بالخوف المرضي من الموت، من الكثير من الأعراض؛ منها:
1. الأعراض الجسدية الحسية:
يشعر الإنسان بـ: خفقانٍ شديدٍ في القلب، وبالتوتر والقلق والانزعاج، والدوخة والغثيان، والحزن والكآبة وفقدان بهجة الحياة؛ ويعاني من تعرقٍ شديد، وارتعاشٍ ورجفةٍ في الجسم.
2. السلوكات التجنبيَّة:
حيث يشعر الإنسان بالميل إلى العزلة والانطواء، ويبتعد عن كلِّ مظهرٍ من المظاهر التي تذكِّره بالموت، فتجده يبتعد عن الصلاة وزيارة أماكن العبادة، ويبتعد عن القيام بواجبٍ عائليٍّ ينطوي على مشاركة عائلةٍ ما حزنها لفقدان شخصٍ عزيزٍ عليها، ويبقى في حالة خوفٍ من تكرار نوبة الهلع لديه، ويشعر أنَّه ضعيفٌ للغاية، ولا يقوى على مجابهة مخاوفه، ويفقد متعة الحياة وشغفها.
شاهد بالفيديو: 6 نصائح لتتجاوز وفاة شخص عزيز عليك
أسباب الخوف المرضي من الموت:
من أسباب الخوف المرضي من الموت ما يلي:
1. التجارب السابقة:
قد يكون ما شهدته من تجارب وفاةٍ في طفولتك، وما اختبرته من مشاعر حزنٍ وألمٍ عبَّر المحيطون بك عنها؛ عاملاً مساعداً في تعزيز مخاوفك من الموت، فكبرتَ وأنتَ مقتنعٌ بأنَّ الموت أمرٌ محزن للغاية. وهنا تستطيع أن تسأل نفسك: تُرَى ما شعور الشخص الميت؟ وهل من الممكن أن يكون سعيداً وراضياً أكثر؟ أَولَم يذهب إلى ملاقاة ربِّ العالمين، أرقِّ وأسمى وأرحم الراحمين؟ هل هناك من مبرِّرِ لبكائنا عليه إذاً؟ أم أنَّنا نرثي أنفُسَنا لفقدنا إيَّاه؟ هي إذاً حالةٌ من الأنانية والتعلُّق المرضي؛ لأنَّ مَن يحبِّ شخصاً بصدق، سيشعر بالسعادة إن علمَ أنَّه بمكانٍ أفضل، ويسعى جاهداً لكي يكون قوياً ومتماسكاً وإيجابياً وراضياً، لا منهاراً باكياً ورافضاً.
2. فكرتنا عن الموت:
يعيش أغلب الناس الحياة غير مُدرِكين مفهوم الموت، فتجدهم مفرطي الدنيوية، وشديدي التعلُّق في الأشياء والأشخاص، وسريعي التهشُّم النفسي في حال فقدانهم شخصاً ما عزيزاً عليهم؛ لأنَّهم لم يَعوا لفكرة أنَّ الموت حقيقةٌ لابدَّ من التسليم بها، وهو ليس فناء ونهاية، بل مرحلة جديدة أخرى أكثر وعياً وراحةً وسلاماً في حياة الإنسان، مرحلة لها خصائص معيَّنةٌ وميِّزاتٌ مختلفةٌ عن الحياة الدنيا؛ وسيكون هناك لقاءٌ في الآخرة يجمعهم مع كل مَن فقدوهم. إذاً، الموت فِراقٌ مؤقتٌ ليس أكثر.
3. الخوف من المجهول:
يجهل الكثير ما الذي يوجد بعد الموت؛ لذلك عليهم الرجوع إلى القرآن الكريم، حيث أكَّد على مفاهيم الجنة والنار والآخرة؛ وذلك لانتشال البشر من حالة التخبُّط والضياع. ومن جهةٍ أخرى، عوضاً عن أن تسأل نفسك: "إلى أين سأذهب بعد الموت؟"، اسأل: "إلى مَن سأذهب؟"، فمن شأن هذه الاستعاضة أن تشعرك بالراحة والسكينة؛ لأنَّك ستعلم أنَّك ستلاقي رب العالمين.
4. الخوف من الموت نفسه أو من ألم وعذاب بعد الموت:
يخاف الكثير من الناس من الموت نفسه، معتقدين أنَّ حالة أخذ النفس من الجسد حالةٌ مرعبة، في حين قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، دلالةً على أنَّ حالة الموت تشبه حالة النوم، فهي حالة مُيسَّرةٌ جداً للإنسان، فنحن نموت كلَّ يومٍ حين ننام؛ أمَّا مَن يستيقظ منَّا في الصباح التالي، فقد كُتِبَ له عمرٌ جديد.
من جهةٍ أخرى، يخاف الكثير من النَّاس من العذاب بعد الموت، ومن حالة الانتظار الطويلة ريثما يأتي الحساب ويوم الآخرة، لكنَّهم لا يَعون أنَّ مقاييس الوقت مختلفةٌ في الآخرة عن الدنيا. قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ}، دلالةً على أنَّ الميت لا يشعر بالوقت مطلقاً.
لكي يتخلَّص الإنسان من هذا الخوف، عليه أن يعمل عملاً صالحاً في دنياه، لكي يشعر أنَّه يستحقُّ جنَّة الآخرة، وبالتَّالي يختفي خوفه من العذاب بعد الموت.
كيف أتخلَّص من الخوف من الموت؟
1. تعلَّم الحبَّ الحقيقي:
انسَ الأنانيّة، وفكِّر أنَّ الطرف الآخر المتوفَّى في مكانٍ أفضل له؛ لذلك اهتم براحته قبل اهتمامك بألمك في بُعده عنك، واسعَ جاهداً لأن تقوم بالأمور التي تسعده؛ فهو لن يُسعَد إن كنتَ حزيناً ومنهاراً ورافضاً موته، بل يريدك أن تكون قوياً ومتَّزناً.
2. اعلم أنَّ الموت مرحلةٌ جديدة، والتعلُّق معاناة:
تأكَّد أنَّ الموت ليس النِّهاية، بل هو بداية مرحلةٍ غايةٍ في الروعة والأمان والسلام، وسيكون هناك لقاءٌ مع كلِّ مَن فقدناهم في يوم الآخرة.
من جهةٍ أخرى، نحن جميعاً زملاء في اختبار الحياة، فالأب دوره في الحياة أن يكون أباً، والابن دوره في الحياة أن يكون ولده؛ ولكنَّهما يشتركان في أنَّهما زملاء في الاختبار. لذا لا تتعلَّق بشخصٍ ما تعلُّقاً شديداً، وتتماهى في الدور، وتنسى اختبارك الأساسي ورسالتك التي خُلِقت من أجلها.
3. لا تعش حالة تأنيب الضمير:
الشخص المتوفَّى موجودٌ في بُعدٍ آخر، بُعدٍ أرقى وأسعد وأجمل؛ لذلك لا تقلق من فكرة أنَّه لن يسامحك على ما فعلته له، فهو لم يَعد يفكِّر مثلنا مطلقاً؛ لأنَّه أصبح بوعيٍ مختلف. بإمكانك عوضاً عن ذلك استحضاره في خيالك، واستشعار المشاعر الإيجابية معه، إذ يختفي الجسد؛ لكنَّ طاقة الشخص تبقى، ويمكن التواصل معها في أيِّ وقت.
4. حضِّر نفسك وأولادك لفكرة الموت:
تعامل مع الموت بصورة طبيعية، وانسف كلَّ الأفكار المغلوطة التي تحوِّلك إلى شخصٍ تعاني خوفاً مرضياً منه، وهيِّئ أولادك لهذه الفكرة بطريقةٍ مُبسَّطةٍ وناضجة، واصنع منهم أشخاصاً أقوياء وقادرين على الاستمرار في الحياة، حتَّى في حال غيابك عنهم. لا تكن أنانياً وتجعلهم يتعلَّقون بك تعلَّقاً مرضياً، فيُصابون بحالة انهيارٍ لغيابك عنهم.
الخلاصة:
هل ستبقى تعيش حالة الخوف من الموت التي تجعل منك شخصاً حزيناً ضعيفاً وهشَّاً؟ أم أنَّك ستنتفض على هذه الحالة، وتواجه مخاوفك، وتتعامل معها بقوَّةٍ وثقةٍ باللَّه وطاقتك الداخلية، وتمضي حياتك في سعيٍ وجِدٍّ لصنع النجاحات لك ولعائلتك ومجتمعك؟
هذا السعي هو بطاقة دخولك إلى البُعد الآخر بقوَّةٍ وجدارة، لذا اعلم أنَّ البُعد الآخر يحتوي على الكثير من الراحة والسلام؛ فابنِ علاقةً طيبةً معه عوضاً عن خوفك منه، ولا تخف على عائلتك في غيابك، فالله وليُّ الجميع.
أضف تعليقاً