كيف تدرب نفسك على الانفتاح الذهني؟

عندما تخوض نقاشاً مع أحدهم، هل يكون سير النقاش سلساً وتصغي فيه إلى وجهة نظر المتحدث وتحاول التعلم منه؟ أم يحتد النقاش ويحاول كلُّ طرف إثبات وجهة نظره؟ وهل تُصغي إلى المتحدث باهتمام، أم تنتظر دورك لتنقض عليه؟



حرية التعبير عن الرأي مِن أثمن الحريات التي لا يحق لأحد مصادرتها؛ لأنَّها تُشعرنا بإنسانيتنا، كما نحب أن يكون لنا كينونتنا وأفكارنا الخاصة، ونُسعَد كثيراً عندما نُسأل عن رأينا ولو كان في أبسط الأمور كلوننا المفضل أو برنامجنا التلفزيوني الذي نحب مشاهدته!

على ما يبدو أنَّ الرغبة في إبداء رأينا قد ترافقَت معنا منذ المراحل الأولى لتطورنا، وأن يكون لديك وجهة نظر ليس أمراً مرغوباً فحسب؛ بل ومتوقعاً في كثيرٍ من الأحيان كي يتمكن الناس مِن إيجاد جوانب مشترَكة تربطهم بعضُهم ببعض، ومعرفة إن كانوا يتفقون وينسجمون مع بعضهم بعضاً أم لا.

لا نحبِّذ نحن البشر الغموض أو الحيادية، وتدفعنا عدم قدرتنا على التأرجح بين مؤيد أو معارض لوقت طويل إلى أن نصبح منغلقي الذهن؛ لكنَّنا نعلم أنَّ الانفتاح سمة مرغوبة يجب أن نسعى جميعاً للتمتع بها.

كشفَت دراسة نفسية أجراها كلٌّ مِن الباحثِين آنا أنتينوري (Anna Antinori) وأوليفيا إل كارتر (Olivia L. Carter) ولوك د. سميلي (Luke D. Smillie) أنَّ الأشخاص المنفتحين ذهنياً قد يعيشون حياة مختلفة كلياً، كما وجدوا أنَّ الانفتاح والمزاج يُؤثِّران في كيفية رؤيتك للعالم فعلياً، مما قد يُؤثِّر في الإبداع، حيث تُظهِر الأبحاث أنَّ سمات شخصيتك - أنماط التفكير والشعور والسلوك - لا تُغيِّر فقط نظرتك إلى الحياة فحسب؛ بل أيضاً الطريقة التي ترى بها واقع العمل، وكيفية تعاملك مع العائلة والأصدقاء والشريك.

وأكثر مِن ذلك حتى، فقد اتَّضح أنَّ للانفتاح الذهني تأثير مذهل في كفاءتنا الذاتية ونجاحنا المستمر وسعادتنا؛ لكن لو كان الأمر سهلاً، أما كان بإمكاننا جميعاً فِعلُه؟ حيث اتَّضح أيضاً أنَّ الانفتاح الذهني يتطلب الجهد، وأنَّ بعض أنواع الشخصيات تجده أسهل مِن غيرها.

وفقاً للدراسة التي أجرَتها آنا أنتينوري (Anna Antinori) على 123 متطوعاً في اختبار الشخصيات الخمس الرئيسة - الذي يمنحك درجات دقيقة لسمات الشخصية الخمس الرئيسة من خلال التقييم العلمي للشخصية وهي :الانفتاح على التجارب والضمير والانبساط والوفاق والعصابية عند قياس درجة الانفتاح - تبين أنَّ: "الأشخاص الذين يجدون صعوبة في تقبُّل الحقائق المختلفة عما عهدوا في الحياة والعمل، يستغرقون وقتاً أطول لإحداث تَحسُّن كبير في الحياة"؛ لكن لا تقلق، فالتغيير ممكن.

لحسن الحظ، لدى الجميع - أياً كان نمط شخصياتهم - القدرة على بناء مخطط جديد من خلال عملية تُعرف باسم التكييف، إذ يمكِنك تعلُّم شيء جديد تعلُّماً فعالاً، وتعديل الطريقة التي تصنِّف بها ما تَعلَّمتَه سابقاً، والاحتفاظ به كمنظور جديد يُثري رصيد خبراتك.

بالطبع لا يَحدث هذا دون بذلِ جهد؛ بل يبدأ بالتزام فعلي وجدِّي للنمو خطوة بخطوة.\

إقرأ أيضاً: 5 انحيازات معرفية تمنعك من تحقيق كامل إمكاناتك

إليك 10 نصائح حول كيفية تدريب نفسك على الانفتاح:

1. تمهَّل:

إذا أردتَ التوصل إلى طرائق جديدة للتفكير والعيش؛ فلا تكن عجولاً، حيث يتطلب منك الانفتاح الذهني أن تتوقف لبرهة، وتبحث بكامل وعيك عن معلومات وبيانات وإمكانات جديدة تتخطى ما يخبرك به حدسُك.

تقول ستيسي توستاين (Staci Taustine)، المؤسِّسة والمديرة التنفيذية لشركة "ستابورن هارت كونسلتينغ" (Stubborn Heart Consulting LLC) للاستشارات المهنية: "بصفتي مضيفة لشبكة "ستابورن هارت نيت وورك" (The Stubborn Heart Network)، أُتيحُ كلَّ يوم خميس مجالاً للأشخاص - على اختلاف وجهات نظرهم - لتسجيل الدخول والتواصل مع الآخرين للاستفادة من الأفكار وتقديم الدعم والتعاون والتعلم من بعضهم بعضاً، وأدعو هذا الوقت: "الخميس الساعة الواحدة"، حيث نبتعد معاً عن واقع الحياة مؤقتاً، ونسجل الدخول إلى برنامج زوم (Zoom)، ونتعمق في البحث، فتَظهر منظورات جديدة".

وصف "تيري جونسون" (Terry Johnson)، وهو أحد المشاركين، سعيه للانفتاح على أنَّه التزام، قائلاً: "أنا لا أفرض مشاعري على الآخرين كي أشعر بالرضا؛ إذ يتطلب التمتع بذهن منفتح أن تكون مستعداً لتقبُّل حقيقة أنَّ ما يَشعر به الآخرون مختلفاً عما تَشعر به أنت".

أوضحَت "فيكي مور" (Vicki Moore)، وهي زميلة مشاركِة ومؤلفة كتاب "الحياة بعيداً عن المفروض" (Life Beyond should)، أنَّ الانفتاح يتطلب منا معرفة الأسباب، وقالت إنَّها ترى الأمر كإجراء تحليل السبب الجذري، بما يعني أن نسأل أنفسنا: لماذا أفكر بهذه الطريقة؟ ولماذا لدي استجابة غريزية لطريقة أخرى في التفكير؟ يساعدها الاستمرار في نهج معرفة السبب على الاعتراف بوجود العقلية المنغلقة والعودة إلى نهجِ الإنصات باهتمام.

عندما نكون على عجلة من أمرِنا، فإنَّنا نسلك طُرُقاً مختصرة ونضع افتراضات ونفوِّت فرصة التغيير، وإنَّ التمهل في الوقت الحالي، والتمهل في عيش الحياة، وأخذ الوقت الكافي للتفكير، يفتح مجالاً أوسع لمزيدٍ من البحث.

2. تحلَّ بالفضول:

اسعَ لتَعلُّم شيء جديد خلال كل نقاش تُجريه، فنحرص أحياناً دون أن ننتبه على إثبات وجهات نظرنا بدلاً مِن أن نفتح أذهاننا على الأفكار الجديدة تماماً. يرجع السبب في ذلك إلى شعورنا بالراحة عندما يوافقنا الآخرون في وجهات نظرنا الموقنين بصحتها.

كما ويرجع السبب في رغبتنا العارمة بأن نكون دوماً على حق إلى ميلنا لأحد الانحيازات المعرفية وهو الانحياز التأكيدي، حيث يجب أن نقمع الرغبة في البحث عن المعلومات التي تدعم نمط تفكيرنا، واستبعاد نظيرتها النقيضة لأفكارنا التي طورناها مسبقاً.

يمكِننا القيام بذلك عن طريق اكتشاف العالم بفضول الأطفال الذين يرون العالم لأول مرة، وإذا شعرنا بالفضول العميق بشأن كلِّ شخص وكلِّ شيء من حولنا؛ فإنَّنا سنتقبَّل موضوعات ومفاهيم جديدة تُوسِّع آفاقنا.

3. كن واعياً:

أشار "جايسون جونسون" (Jason Johnson) مُقدِّم التدوين الصوتي "أون يور سبيس" (Own Your Space) والمشارك في فقرة "الخميس الساعة الواحدة" إلى أنَّ هناك فائدة من تَعلُّم كيف تكون حاضراً خلال سعيك إلى تحقيق الانفتاح الذهني، واكتساب وعي عظيم نتيجة هذا الحضور، كما يحب "جونسون" (Johnson) ممارسة تأمل اليقظة الذهنية الذي يركز فيه انتباهه على اللحظة الراهنة، وليس على الماضي أو المستقبل.

وفقاً "لديبرا نوريس" (Deborah Norris)، عالمة الأعصاب ومؤلفة كتاب "في التدفق: الشغف والهدف وقوة اليقظة الذهنية" (In the Flow: Passion، Purpose and the Power of Mindfulness): "تُدرِّب ممارسة تأمُّل اليقظة الذهنية، الذي يجلس فيه المرء ويكون واعياً لتنفسه، الدماغ فعلياً على أن يصبح أكثر انفتاحاً".

4. استكشِف:

عندما تخرج من منطقة الراحة الخاصة بك، ستجد فرصاً جديدة لتتأمل بدهشةٍ الأشياء التي تراها وتتعلَّمها وتستوعبها خارج محيطك المعتاد.

في عصر العمل عن بُعد والسبل الجديدة للوجود والعمل براحتك، لا يعني الاستكشاف أن تكون مثل شخصية "إنديانا جونز" (Indiana Jones)؛ بل من الممكن استكشاف علاقات وتجارب افتراضية وأوجه تعاون جديدة من منزلك. خذ الوقت الكافي لتجربة أحد البرامج أو انضم لدورة تفاعلية أو شارِك في فعالية تُنمِّي شبكة علاقاتك الاجتماعية. 

عندما تَستكشف بيئات جديدة، سيكون لديك استعداد لخوض التجارب في العالم بطريقة جديدة، وبالتالي تتقبل وجهات نظر الآخرين وتجاربهم الحياتية وقيَمهم وقصصهم.

إقرأ أيضاً: ميكانيزم العقل وتوسيع الإدراك!

5. فليكن تفكيرك خلاقاً:

تخطَّ حدود تفكيرك عن طريق تجهيز نفسك للتفكير بطرائق جديدة ومختلفة.

يَعرف الأشخاص مِن حولنا ما هي مَواطن قوَّتنا ويطلبون عادةً مساعدتنا إيماناً منهم أنَّنا موضع ثقة، لذا إن أردنا أن نكون دائماً هؤلاء الأشخاص الذين يهبُّون للمساعدة سواء بمعرفتهم أم مهاراتهم، فعلينا توسيع آفاقنا؛ على سبيل المثال: يمكِننا التسجيل في دورة تطوير ذاتي أو تعلُّم حرفة يدوية أو تعلُّم آخر الصيحات التكنولوجية.

عندما نُطبِّق التفكير الإبداعي، نسعى إلى حل المشكلات بطرائق جديدة، ونختبر ما يعنيه النجاح بطرائق أخرى، ونتقبَّل غالباً وجود العديد من الطرائق التي تُنمِّي مهاراتنا، وبذلك نعزز حجتنا أمام الآخرين.

6. تدرَّب على رؤية الأمور من منظور قريب وبعيد:

المنظور هو الأهم، ففي بعض الأحيان نقترب لندرس التفاصيل، وفي أحيان أخرى، نبتعد لرؤية الصورة الشاملة، كذلك يمنحنا كلُّ منظور معلومات مفيدة وفريدة من نوعها، وتسمح لنا قدرتنا على التوازن بين الاقتراب والابتعاد التوصل إلى وجهات نظر متعددة نتيجة توسيع نطاق استيعابنا.

يمكِنك التدرب على تغيير المنظور بانتظام كي تَحُول دون الانجرار وراء العناد في التفكير والتعصب لفكرة أو حدثٍ أو نقاشٍ ما، فتحدَّ نفسك لرؤية الأمور من منظورين مختلفين، وتصوَّر كلَّ الاحتمالات، وفكِّر في تفسيرات متعددة قبل تَبنِّي أيِّ تفسير واحد بصورة دائمة.

7. جرِّب نهج "نعم و..":

لا يُعدُّ الانفتاح عملية ممتعة في مجمله، ولكن قد يتخلله بعض المرح أحياناً. جرِّب نهج "نعم و.." المستَخدمة في فن الارتجال، التي هي لعبة تطوير ذاتي تُعلِّم قيمة تقبُّل أفكار الآخرين والتعاون معهم، كما يمكِنك أن تلعب اللعبة في أزواج أو في مجموعات، حيث يتمحور هذا النهج حول طرح فكرة توافق عليها - وهو القسم الأول من النهج الذي تقابله كلمة "نعم" - ثمَّ الانتقال إلى الخطوة التالية عَبْر محاولة تقديم مقترحات تُثري تلك الفكرة.

مثال:"النهر مملوء بالأسماك" (عبارة استهلالية):

  • "نعم، أحدها ضخمة".
  • "نعم، وهي تسبح نحونا".
  • "نعم، وتبدو جائعة".
  • "نعم، إنَّها تشبه الحوت أكثر من السمك" وهكذا.

يمكِنك لعبُ هذه اللعبة كتمرين فعلي أو إيصال الرسالة الجوهرية منها إلى عمليات تفكيرك، وعندما تسمع شيئاً جديداً أو مختلفاً أو محيراً، تعامَل معه إما من خلال رغبتك في فهمه أو الاستفادة منه أو إغناء معرفتك أو تطوير فهم أعمق لتعزيز الهدف الجماعي للنقاش الذي أنت جزء منه.

8. اسأل كلما أمكنك ذلك:

يبدأ تعزيز فهمك بطرح أسئلة جيدة، فالاستفسار هو أصل التعلم بأسره.

كان سقراط من أوائل الفلاسفة اليونانيين، واشتهر بوضع المنهج السقراطي الذي هو "شكل من أشكال الحوار الجدلي التعاوني بين الأفراد، ويستند إلى طرحِ الأسئلة والإجابة عنها لتحفيز التفكير النقدي واستنباط الأفكار والافتراضات الأساسية"، وكان لديه نفس هدفك: أن يكون متوسعاً واستكشافياً ومنفتحاً في تفكيره.

عندما تَطرح الأسئلة طلباً للمعرفة، احرص على أن تكون أسئلتك مفتوحةً بما يكفي لتعزيز الاستفسار عنها، حيث تُوجِّه الأسئلة الجيدة الناس لاستكشاف وجهات نظر مختلفة، ويُفترَض أن يفتح كل سؤال المجال إلى خوض نقاش بدلاً من مجرد تقديم إجابة واحدة.

9. افترِض دائماً أنَّك لستَ الخبير الوحيد في أي مجال:

عندما يَعتقد الناس أنَّهم متمكنون من موضوع ما أو أنَّهم يعرفون فعلاً كلَّ شيء عنه، يصبحون أقل استعداداً لتلقِّي معلومات جديدة والاستمتاع بأفكار جديدة، فلا يحد هذا فقط من إمكانات التعلم الخاصة بهم؛ ولكن يمكِن أن يكون أيضاً مثالاً على الانحياز المعرفي المعروف باسم تأثير دانينغ كروغر، ويقود هذا الانحياز الناس إلى المبالغة في تقدير معرفتهم بموضوع ما، مما يجعلهم لا يدركون جهلهم.

لا تقع ضحية لهذا، عندما تسعى باستمرار لإيجاد قيمة لأفكار الآخرين، تزداد احتمالية أن تجد شيئاً تقدِّره، فلستَ مضطراً إلى تَبنِّي أفكار الجميع؛ ولكنَّ رؤية كل نقاش على أنَّه فرصة لتعلُّم أمر ما يُهيِّئك لنقاش مثمر أكثر.

إقرأ أيضاً: 9 نصائح لتصبح أكثر ذكاءً وتميزاً

10. راقِب فوائد توسيع آفاقك:

انتبِه إلى التطور الشخصي والنمو الذي تختبره نتيجة السعي إلى عيش الحياة بذهن منفتح، وعندما تواجهُ طاقةً متجددة وتواصلاً أعمق وتعلُّماً وتقدُّماً هادفاً، ستستمر في بذل الجهد، بينما نبحر في بحر عالم يتغير أمام أعيننا، نجد خيارات تفتح قلوبنا وأذهاننا.

الخلاصة:

نعلم أنَّ الانفتاح يتطلب الممارسة والجهد والتصميم، لكنَّنا نعلم أيضاً أنَّ الأمر يستحق العناء، ما عليك سوى اتباع هذه النصائح العشر حول كيفية أن تكون منفتح الذهن وستكون أفضل استعداداً للتعامل مع الحياة من منظورٍ أفضل.

 

المصدر




مقالات مرتبطة