هل اعتدنا على أخذ الأمور كما تُقدَّم إلينا دون تحليلٍ دقيقٍ لها، أو بحثٍ في مصادر كثيرةٍ بهدف الوصول إلى المعلومة الأقرب إلى المنطق؟
كم تحتاج من أمورٍ في الحياة إلى إعادة بحثٍ وتمحيص؟ وكم من تفاصيل كانت لتختلف لو أنَّنا أعملنا النقد الإيجابي فيها؟ وكم من أفكار كانت ستُنسَف، وأخرى كانت ستظهر بقوة؟ وكم من سلوكاتٍ كانت ستختلف في شخصياتنا؟
هل اعتدنا النتائج الجاهزة والحفظ الببغائي، دون إفساح المجال لشخصيتنا التحليلية الناقدة للظهور؟
ما هو التفكير النقدي؟ وما هي أهميته؟ وكيف نطبِّقه؟ هذا ما سنناقشه في هذا المقال.
ما هو التفكير النقدي؟
هو القدرة على التفكير بوضوحٍ وعقلانيَّة، وفهم العلاقة المنطقيَّة بين الأفكار؛ أي القدرة على الانخراط في التفكير التَّأملي المُستقل. لقد كان التفكير النقدي موضعاً للكثير من النقاشات والأفكار منذ زمن الفلاسفة اليونانيين الأوائل مثل: أفلاطون، وسقراط؛ واستمرَّ حتَّى العصر الحديث.
يتطلَّب التفكير النقدي القدرة على استخدام المنطق، بحيث يكون الإنسان متعلِّماً نشطاً، لا مُتلقِّياً سلبياً للمعلومة.
يتساءل المفكِّرون الناقدون بصرامةٍ عن الأفكار والافتراضات بدلاً من قبولها كما هي، ويسعون إلى تحديد ما إذا كانت تُمثِّل الأفكارُ والحججُ والنتائجُ الصورةَ بأكملها، ويُحدِّدون المشكلات ويحلِّلونها ويجدون الحلول لها بشكلٍ منهجيٍّ بدلاً من الحدس أو الغريزة.
هل نحتاج اليوم إلى التفكير النقدي؟
أصبح التفكير النقدي في عالم التكنولوجيا الرقمية، والسرعة الهائلة في تناقل المعلومات والأخبار، والانفتاح الكبير بين الدول والثقافات والأشخاص - ضرورةً كبرى لمواكبة العصر، إذ أنَّ تقنية الحفظ الببغائي لم تعد تجدِ نفعاً في عالمٍ عِمادهُ الإبداع والربط بين المعلومات والاستنتاج.
لا نستطيع إنكار تأثير الغرب فينا، حيث تُؤخَذ الكثير من الكتب والأفكار والمعلومات والمصادر منهم، وهذا أمرٌ يُغنِينا في الكثير من الأحيان، لكنَّه سيفٌ ذو حدَّين، إذ يتوجَّب علينا أن نمتلك عقليةً نقديةً بحيث نعرف المعلومات التي تفيدنا بالضبط، والمعلومات التي تضرنا، بحيث لا نفقد هويتنا.
يحرِّرنا التفكير النقدي من قناعاتنا المغلوطة، فعندما نبحث في قناعةٍ مثل: "المال أصل الشر"، ونبدأ بتحليلها وربطها مع حقائق وتجارب؛ فمن الممكن أن نصل إلى قناعةٍ مُغايرةٍ وأكثر إيجابيةً مثل: "المال وسيلةٌ للوصول إلى السعادة"، وستصبح سلوكاتنا مبنيةً على القناعة الجديدة.
سيزداد احترام المجتمع لأمانة الكلمة من خلال انتشار ثقافة النقد البنَّاء، وسيبذُل كلُّ عالمٍ وكلُّ مثقفٍ كلَّ جهده من أجل تقديم محتوىً علميٍّ مُدعَّمٍ بالمصادر والأبحاث والبراهين.
تُبنَى الأمم على الأفكار، فالعقول هي خزَّان الأفكار، وإذا كانت الخزَّانات صَدئةً، فستُولِّد مجتمعاً مُتخلِّفاً؛ وإن كانت قويَّةً، فستُولِّد مُجتمعاً مُتقدِّماً. فعلينا بدايةً نسف الأفكار الخاطئة المُعشعِشة في مجتمعنا، وذلك بإعمال آلية النقد.
ما هي ضوابط النقد؟
لا يجوز أن يكون النقد عشوائياً، بل يجب أن يكون له ضوابطٌ وشروط، ومنها:
1. إحسان النيَّة:
على الإنسان أن تكون نيَّته في النقد خالصةً لوجه اللَّه، وأن يبتغي التقدُّم والإصلاح، وليس الانتقام من الخصوم والاستهزاء بهم.
2. انتقاد الأفكار وليس الأشخاص:
على الإنسان أن يبتعد عن الشخصنة، فما يهمُّ هو تبيان وجود خللٍ في فكرةٍ معيَّنةٍ والعمل على إصلاحه بمنهجيَّة، وليس الغرض هو التشهير بالأشخاص.
3. الابتعاد عن النقد في حالاتٍ معيَّنة:
عندما تعي أنَّ نقدك لموضوعٍ ما لن يُحقِّق الغرض المطلوب منه، ولن يؤدِّي إلَّا إلى مزيدٍ من الجدل، عندها من الأفضل ألَّا تنتقد. ومن جهةٍ أخرى، عندما يكون الموضوع لا يستحق عناء عملية النقد المُرهِقة مثل: مشاهدة فيلم، أو قراءة كتاب، أو قراءة شعر؛ فيُفقِد استخدام النقد المُتعَة في هكذا حالات.
4. إيصال النقد على شكل نصيحة:
طريقة إيصال النقد لها أهميةٌ كبيرة، فنحن شعبٌ يُشخصِن الأمور، وينتمي إلى أفكاره بطريقةٍ مبالغٍ بها؛ فعندما ينتقد أحدٌ فكرةً من أفكارنا، نشعر أنَّه ينتقدنا شخصياً، ونتألَّم لذلك كثيراً؛ لذلك عليك الانتقاد بطريقةٍ لبِقة، وعلى شكل نصيحة، وبالمقابل، تقبَّل أيَّ نقدٍ يصل إليكَ على أنَّه نصيحة.
5. النظر إلى النقد على أنَّه هِبَة:
أولى الناس بنقدك هو "أنت"؛ لذا راقب دائماً أفكارك وانتقدها، ولا تنجرَّ وراء "الإيجو"؛ لأنَّك عندها ستستخدم النقد بأبشع صوره، ولن تحترم الآخرين، وستستهزِئ بمعلوماتهم، ولن تُحقِّق الغاية السامية منه.
هل يعدُّ النقد مهارةً وعلينا تعلُّمها؟
النقد مهارةٌ فكرية، وهو سببٌ من أسباب نهضة الأمم، وعليه أن يتكامل مع مجموعةٍ أخرى من المهارات للوصول إلى التقدُّم المطلوب، مثله مثل مهارة الإبداع والتفكير الاستراتيجي و...الخ.
نحتاج إلى مكوِّنين لاكتساب هذه المهارة، وهما: الأدوات والمُمارسة الفعَّالة.
من أهمِّ طرائق تعليم التفكير الناقد: منهجية طرح الأسئلة المناسبة، وهي عبارةٌ عن مجموعةٍ كبيرةٍ من الأسئلة التي تُطرَح لفهم النص، ومن ثمَّ الحكم عليه؛ وبالتالي تحقيق مرحلتي النقد، وهما: فهم المسألة، ومن ثمَّ الحكم.
ما منهجيَّة طرح الأسئلة المُناسبة؟
وهي منهجيَّةٌ لتعليم التفكير النقدي، حيث تفترض هذه المنهجية عدم وجود خلفيةٍ مُسبقةٍ من النقد لدى الشخص، وتعتمد على طرح الأسئلة لامتلاك أدوات التفكير النقدي. والأسئلة هي:
1. ما هي المسألة؟ وما هي النتيجة؟
تعدُّ المسألة الموضوع الذي يتحدَّث عنه الشخص الباحث، أمَّا النتيجة فهي الرسالة التي يريد إيصالها إلى المُتلقِّي. مثلاً: تُعدُّ مهارة التفكير النَّاقد مهارةً ضروريَّةً لكلِّ طالبٍ جامعي؛ لأنَّها تساعده في فهم مقرَّراته بشكلٍ أفضل.
- المسألة هنا: هل تعدُّ مهارة التفكير النقدي مهارةً ضروريَّة؟
- والنتيجة: نعم، تعدُّ ضروريَّة.
2. ما هي المُبرِّرات؟
تكمن المُبرِّرات في الإجابة عن السؤال: "لماذا ترى أنَّ النتيجة صحيحة؟"، وتُبنَى على: مقارنات، وملاحظات، وإحصائيات، ومعلومات، ودراسات، وأشخاصٍ مرجعيِّين. وهنا يجب التفريق بين الحجَّة والادِّعاء.
فالحجَّة عبارةٌ عن نتيجةٍ ومُبرِّرات، وهي تقبل النقد. على سبيل المثال: أنا ذكيٌّ؛ لأنَّ لدي 10 اختراعات، وشهادتي دكتوراه و..الخ، بمعنى أنَّه ذكر الأسباب. بينما لا يقبل الادعاء النَّقد، ويكون عبارةً عن رأيٍّ شخصيٍّ لا يملك مبرِّراته.
3. هل يحتوي النَّص على عباراتٍ غامضة؟
تحتوي الكثير من النصوص على عباراتٍ غامضة، بحيث يمكن تأويلها في أكثر من اتجاهٍ ومعنى. على سبيل المثال: "أنصحك بحضور هذه الدورة، فهي دورةٌ مُختلفةٌ عن أيِّ شيءٍ قمتُ بحضوره في حياتي".
هنا كلمة "مختلفة" كلمةٌ غامضة، فما الذي قصده الشخص بهذه الكلمة؟ قد تكون معاييره عن الاختلاف مختلفةً عن معايير شخصٍ آخر، وقد يجد أن إقامة الدورة في فندقٍ فخمٍ أمرٌ مختلفٌ ومميَّز، في حين لا يعني هذا الأمر بالنسبة للآخرين شيئاً.
4. هل يوجد خلافاتٌ قيميَّة؟
على الإنسان أن يعي تماماً منظومة قيمه، وذلك حتَّى يعلم كيف سيتأثَّر بعد قراءة هذا الكتاب أو المحاضرة. فقد يتأثَّر الشخص بكاتبٍ يقرأ له على الدوام، ويُغيِّر من منظومة قيمه بدون أن يشعر، إلى أن يصبح شبيهاً بكاتبه.
5. ما هي الافتراضات الوصفيَّة؟
على الإنسان أن يعي خلفية الكاتب قبل القراءة له، كأن يعرف عن القناعات المُسبقة التي لديه، والتي ستشكِّل اتجاه الكتابة.
6. هل توجد مُغالطاتٌ في الاستدلال؟
نستطيع في هذه المرحلة بدء الحكم على النص، وتسمَّى هذه المرحلة: "المُغالطات المنطقيَّة"، وعددها كبيرٌ جداً. سنذكر بعضها:
6. 1. مغالطات الخطاب الدعوي:
يعدُّ الدين أهمَّ ركائز الثقافة لدينا؛ لذلك يؤدِّي الفهم الخاطئ لآيات اللّه إلى كوارث اجتماعية، فمَن لديه مثلاً قناعةٌ مغلوطةٌ أنَّ "اللّه شديد العقاب، وإرضاؤه صعبٌ جداً"، سيجعل من نفسه ومن أولاده مرضى نفسيين، وسيعيشون في علاقة خوفٍ ورعبٍ من اللّه؛ في حين يقبل اللَّه التوبة الخالصة والاستغفار الصادق، وهو غفورٌ رحيمٌ بعباده. أو مَن لديه قناعة "الاحتكام إلى القديم"، بحيث يرفض رفضاً قاطعاً نقد ما أتى به رجال الدين القدماء من أفكار.
6. 2. مغالطة المُصادرة على المطلوب:
وهي تحوي خطأً في الاستدلال، حتَّى لو كانت النتيجة صحيحة؛ وهذه المُغالطة تفترض صحة الشيء الذي تريد إثبات صحته.
مثال: "يقوم الإعلام بغسيل عقول المُتلقِّين؛ لأنَّه يستطيع أن يُلقِّنهم قناعاتٍ جديدةً مختلفةً عن قناعاتهم دون أن يشعروا بذلك". وهنا النتيجة صحيحة، لكن الاستدلال خاطئ؛ حيث استُخدِمت كلمة "لأنَّ" وهي لا تفيد البُرهان وإنَّما الشرح.
6. 3. مغالطة التجربة الشخصية:
تحتاج الحقيقة إلى الكثير من التجارب، ويقع الكثير من الناس في هذه المغالطة عندما يتكلَّمون عن قضيةٍ ما وكأنَّهم سَبَرُوْهَا من كلِّ جوانبها، علماً أنَّهم يملكون تجربةً بسيطةً وفي جانبٍ واحدٍ منها.
7. هل هناك أسبابٌ مُنافِسة؟
يقع الكثير من الأشخاص في مغالطة التبسيط المُفرِط في الأسباب، بحيث يَعزون قضيةً اجتماعيةً ضخمةً ومعقَّدةً إلى سببٍ واحد، غير واعين إلى الأسباب المرتبطة الأخرى.
8. هل هناك معلوماتٌ مُستبعدة؟
على سبيل المثال: يصف معظم الأطباء الدواء "X"، والنتيجة هي شراء الدواء بكمياتٍ كبيرة؛ لكن، ماذا لو أنَّ هناك أسباباً خفيَّةً لوصف الدواء؟ ماذا لو أنَّ شركة الأدوية تُقدِّم رحلاتٍ سياحيةً للأطباء، أو تُقدِّم لهم عيِّناتٍ مجانيَّةً من الدواء؟ وكنوعٍ من رد الجميل يقوم الأطباء بوصف الدواء".
تُعِيد هكذا معلوماتٌ مُستبعدةٌ الحكمَ من جديدٍ على المسألة.
9. هل هناك نتائج أخرى وجيهةٌ للمسألة؟
قد تكون مُبرِّرات المسألة صحيحةً والنتيجة صحيحة، لكنَّ الحجَّة خاطئة.
على سبيل المثال: علينا ألَّا نعلِّم شبابنا التفكير النقدي؛ لأنَّهم لو تعلَّموه فربَّما يضيِّعون أوقاتهم في جدالاتٍ لا نهاية لها، ورُبَّما يتطاولون على العلماء والكبار، ويطرحون أسئلةً لا يجدون من يُجِيبهم عنها".
وهنا لكشف النتائج الأخرى، علينا أن نطرح السؤال: "ماذا لو؟"، كأن نقول: "ماذا لو أنَّنا نعلِّم الشَّباب التَّفكير النَّقدي لكن مع ضوابطه، بحيث نضمن استخدامه بشكله الإيجابيِّ الفعَّال"؛ وهنا حصلنا على نتيجةٍ مُغايرةٍ ووجيهة.
الخلاصة:
التفكير النقدي مهارةٌ رائعة لجعل الإنسان حراً، بحيث يصعب التَّحكم بعقله وأفكاره، ويَهِب الإنسانَ مرونةً أكبر من أجل فهمٍ عميقٍ لأفكاره وأفكار الآخرين، ومن ثمَّ الحكم المنطقي الرشيد على الحالة، وصولاً إلى مجتمعٍ قويٍّ ومُنفَتحٍ ومُتقدِّم.
أضف تعليقاً