سيكولوجيا البدانة والآليات النفسية المسببة لها

لا شك في أنَّ البدانة الآن، باتت تُشكِّل سمة بارزة في كثيرٍ من المجتمعات؛ إذ إنَّ الحياة أصبحت أكثر اعتماداً على وسائل النقل الحديثة بدلاً من الحركة أو المشي، فضلاً عن فترات الجلوس الطويلة أمام شاشات الأجهزة الذكية والحواسيب، وهي أمور جعلت الإنسان يجلس في منزله أكثر من المعتاد، ومن ثمَّ يحرق دهوناً أقل، ناهيك بالوجبات السريعة وما لها من دور كبير وهام في البدانة.



ومع ذلك، فإنَّنا لن نتطرق في هذا المقال عن أيٍّ من هذه الأمور؛ بل سيكون مدار حديثنا عن المُركَّب النفسي والآثار النفسية السلبية، والآليات النفسية التي ترافق مريض البدانة النفسية.

هل يمكن أن تكون السمنة انتحاراً عاطفياً لاشعورياً؟

تذهب سيدة سمينة إلى مختصٍّ في علم التغذية، وتقول إنَّها عازمة بكل ما تملك من إرادة وتصميم على خسارة الوزن، وأنَّها قد استاءت لدرجة كبيرة من مظهرها ووزنها الزائد، ثم توصيه بإلحاح أن يضع لها نظاماً غذائياً قاسياً، وتصرُّ على أن يكون مفرط القساوة؛ فإنَّها تريد شيئاً واحداً فحسب؛ ألا وهو خسارة الوزن بأيِّ طريقة ممكنة.

وقد توصي أيضاً برغبتها في استعمال بعض الأدوية التي تساعد على خسارة الوزن إلى جانب النظام الغذائي. في نهاية المطاف، يتحقق للسيدة المسكينة بعض ممَّا أرادته، ويحصل انخفاض ملحوظ في وزنها.

ولكن كما يُقال، إنَّ الأشياء الجميلة لا تستمر طويلاً؛ إذ تقوم هذه السيدة، وبشكل مفاجئ، ومن دون أيِّ سبب منطقي، بإفساد كل ما وصلت إليه؛ فتندفع إلى تناول جميع أنواع الأطعمة الدسمة وغير الدسمة، والمشروبات، والحلويات المشبعة بالسكر، فتمزق الريجيم إلى أشلاء، وتضرب به عرض الحائط، ليعود وزنها للزيادة مجدداً. يا لخيبة الأمل!

بعد أيام من الاكتئاب والانطواء على على نفسها في غرفتها وحيدة وحزينة، وكأنَّها تستقبل التعازي على النحافة التي أضاعتها من بين يديها، تعود إلى عيادة مختصِّ التغذية وفي ملامحها وحديثها عبرات الأسف والحزن والأسى والندم، والتبرم والضجر من وزنها الحالي وما آل إليه وضعها، ثم ترجوه أن يساعدها، ويصف لها نظاماً غذائياً مرة جديدة، وأدوية مرة أخرى، ومتوعدة مراراً وتكراراً بأنَّها لن تعيد غلطتها هذه.

ولكن هيهات؛ إذ إنَّها تعود بعد فترة بالقصة نفسها، ويتكرر الفشل مرة بعد أخرى، وربما تتكرر هذه اللعبة عشرات المرات، حتى ينتابها اليأس حيال الريجيم، وتيأس من نفسها وحياتها. وحينها تعرف أنَّ لحظة الحقيقة قد جاءت، فتعترف بأنَّها غير قادرة ولا بأيِّ شكل من الأشكال على أن تقاوم رغبتها العارمة أو اندفاعها القوي نحو وجبات محددة، وهي تعلم تمام العلم أنَّها تزيد الوزن.

إقرأ أيضاً: بالصور: 8 أطعمة للقضاء على الجوع الشديد أثناء الريجيم

هل توجد علاقة ما بين البدانة والطب النفسي؟

بيَّنت آخر الدراسات التي قام بها خبراء مختصون في علم النفس، بأنَّ الأنثى البدينة أو السيدة البدينة تملك ضمن شيفرات جهازها النفسي أو تركيبتها النفسية، خصائص مميزة تجعلها تقاوم عملية إنقاص الوزن بشكل غير واعٍ ولا شعوري، على الرغم من أنَّها في الوقت نفسه تراجع عيادات التغذية، وتلتزم بنظام غذائي قاسٍ، وتخرج مع صديقاتها لممارسة الرياضة؛ بل وربما تسجل في كورسات من أجل خسارة الوزن، وتتناول أدوية تخفيض الوزن؛ فإنَّه في لحظة ما، ومن دون سابق إنذار، ينهار كل جهدها الذي بذلته لإنقاص الوزن.

فهي قد تلتزم بريجيم غذائي صارم، وقد تنجح في فقدان بعض الوزن، وتصل إلى حد مقبول نوعاً ما، ولكنَّها بشكل مفاجئ يصيبها النهم الشديد، وتفقد كل تحكمها في نفسها، وتضعف أمام وجبة الطعام الموجودة أمامها.

هنا يأتي دور علم النفس لكي ينظر إلى الموضوع من زاوية مثيرة للاهتمام بشكل كبير؛ إذ يَعُدُّ خبراء علم النفس أنَّ البدانة قد توصل صاحبتها إلى حالة تشبه التوازن النفسي، أو قد يكون لها دور بطريقة ما في حماية هذه السيدة من انهيار نفسي حقيقي؛ لذلك تتمسك بها بشكل غير واعٍ أو غير شعوري، على الرغم من أنَّها تصرح بشكل واعٍ بأنَّها تعاني بشدة جرَّاء بدانتها.

هل يؤدي نجاح النظام الغذائي القاسي إلى مرض نفسي؟

تشير الدراسات التي قام بها عدد من خبراء علم النفس في جامعات أمريكية وأسترالية، إلى أنَّه خلال تطبيق النظام الغذائي لتخفيف الوزن، ومع الخسارة الملحوظة في الوزن، تدخل المريضة في حالة من الاكتئاب، وتعيش أجواءً من الحزن والتعاسة مجهولة السبب بالنسبة إليها؛ إذ إنَّها ترى هذه المشاعر غير مبررة، ولكنَّها غير قادرة على أن تتخلص منها.

في أحد اللقاءات المتلفزة، تقول إحدى السيدات اللواتي عانين من البدانة، إنَّه في الوقت الذي بدأ وزنها بالنزول بشكل واضح وملحوظ، وعلى الرغم من أنَّها بدأت تلقِّي المديح والاستحسان من قبل زوجها وأولادها وأهلها وصديقاتها، دهمها على نحو مفاجئ حزن لا تدري ماهيته ولا تعرف مصدره؛ إذ انتابها شعور بأنَّ وجهها أصبح باهتاً وشاحباً، وبدأت اللامبالاة باكتساح تفكيرها، وسيطر التبلد على مشاعرها وعضلاتها؛ لذا عمدت إلى دفن نفسها في بئر من العزلة، واندفعت بشكل جنوني نحو طعامها، تأكل من دون أدنى وعي منها، مضيفةً بأنَّ ذلك أنقذها من الانهيار الكامل.

وقد فسَّر خبراء علم النفس هذه الظاهرة بأنَّ الوجبات الشهية كانت هي الدواء الذي أدى إلى التخلص من القلق والاكتئاب.

ما هي وجهة نظر التحليل النفسي في سيكولوجيا البدانة؟

لقد حلل علماء النفس هذه الظاهرة من خلال التحليل النفسي الذي يقول إنَّ الطفل منذ ولادته يقوم بتحريك شفتيه كرد فعل على حاجة معدته إلى الطعام؛ إذ يقوم الطفل بالتحرك نحو ثدي أمه، وأيضاً عند بكائه تسارع والدته إلى إطعامه من أجل أن يهدأ؛ من هنا تصبح الوجبات أهم وأول أسس الارتباط العاطفي والنفسي بين الطفل ووالدته، ومن هنا يتشكل رابط قوي بين الوجبات وإزالة التوتر والقلق.

وعلاوة على ذلك، ينشأ رابط نفسي بين الطعام والسلوك الجيد، حين نُقدِّم الطعام إلى الطفل على أنَّه مكافأة على سلوكه هذا. ومع الوقت، يتطور الجهاز النفسي للطفل على هذه الطرائق في التربية، فهو يصبح بشكل غير واعٍ عاجزاً عن التمييز بين شعور الجوع والحالات الشعورية والوجدانية كالحزن أو القلق.

يُطلَق على المرحلة التي تلي الولادة مباشرة، اسم المرحلة الفموية، التي يكون فيها فم الطفل وسيلة اتصاله مع العالم الخارجي، لكن عند بعض الأشخاص، قد يتجمد تطور جهازهم النفسي عند هذه المرحلة؛ بسبب تعرُّضهم لصدمة نفسية قد تكون عبارة عن نبذ أو اعتداء أو إهمال أو عملية إشباع مفرط لحاجات الطفل، مثل الرغبة النرجسية التي قد تكون موجودة عند بعض الأمهات؛ إذ تدفعها هذه الرغبة إلى تغذية طفلها بشكل مفرط وزائد عن الحد المقبول، ليصبح في وزن أو هيئة يبدو فيها كبيراً أو قوياً في نظرها؛ وهذا يجعلها تشعر بالفخر، وتتلقى على إثر ذلك الثناء أو المديح.

وعندما يصبح هذا الطفل إنساناً بالغاً، فإنَّه حين يشعر بأيِّ خوف أو اكتئاب أو قلق، يلجأ على الفور إلى تناول الطعام كوسيلة لتهدئة أعصابه والتخلص من هذه المشاعر السلبية، عوضاً أن يلجأ إلى التفريغ عبر الوسائل الطبيعية، مثل التواصل الاجتماعي مع الأهل والأصدقاء.

سيكولوجيا التعويض (البدانة كتعويض عن كل نقص):

لدى بعض خبراء علم النفس رأي آخر فيما يتعلق بأمر البدانة وتفضيل بعض الناس لها كنوع من التعويض؛ إذ يمكن تبيان ذلك من خلال الأمثلة الآتية:

  • قد تكون لدى الشخص البدين - قبل أن يصبح بديناً - حالة من الخوف الشديد من إقامة أيِّ علاقة مع الشخص الآخر، خاصة العلاقة الحميمية؛ لذا فهو يقوم بتناول الطعام لكي يصبح غير مرغوب فيه بأيِّ علاقة جنسية؛ أي بمعنى آخر، هو يلجأ إلى ما يسمى بالانتحار العاطفي، ويصبح الطعام وسيلة لإشباع جميع رغباته النفسية.
  • قد يضع الشاب البدين عذر العنانة، كطريقة لتفادي موضوع الزواج، وكذلك قد تضع الأنثى البدينة البرود الجنسي عذراً لعدم زواجها، وربما قد توجد رغبات جنسية محرمة لا يتمكن الشخص من تحقيقها؛ لذلك فهو يلجأ إلى استبدال متعة الجنس بمتعة الطعام.
  • قد تكون البدانة بديلاً لرغبة الرجل في أن يكون له أولاد وذرية تحمل اسمه، وقد تكون عند الأنثى بديلاً لرغبتها في الحمل؛ إذ يدفعهم الفشل في تحقيق هذه الرغبات المكبوتة إلى تفريغها بشكل غير واعٍ عبر تناول الطعام.
  • قد تكون البدانة تعويضاً عن الشعور بقلق الانفصال؛ إذ إنَّ البدانة قد تحقق لصاحبها شعوراً بالقوة، وقد توفر له نوعاً من الحماية ضد الشعور بالوحدة أو العجز أو النقص تجاه أمر ما.

شاهد بالفديو: 5 عادات يومية غير متوقّعة تسبّب لك البدانة

ما هو الحل من وجهة نظر التحليل النفسي؟

في جميع الأحوال، إنَّ مريض البدانة النفسية بحاجة ماسة إلى علاج نفسي معرفي؛ وذلك من خلال دعمه والوقوف إلى جانبه في مجابهة معاركه النفسية من الطفولة وحتى هذه اللحظة، لمساعدته على الوصول إلى حل يُمكِّنه من تجاوز هذه الاضطرابات وتجاوز الضغوط التي يرزح تحتها. وقد يحتاج مريض البدانة النفسية إلى معالجة نفسية دوائية لكي تحقق الرياضة والأنظمة الغذائية الأهداف المرجوة منها.

في الختام:

لا يمكن الوصول إلى الوزن المناسب من دون العبور من بوابة علم النفس أو العلاج النفسي؛ إذ إنَّ الشخص البدين، للأسف الشديد، هو نتاج تربية طفولية غير مدروسة، أو أنَّه مهيأ نفسياً وفق آلية غامضة لأن يحقق توازنه النفسي من خلال البدانة، وإن لم يكن كذلك، فهو بحكم البدانة سيعاني حتماً من صعوبات نفسية بسبب التنمر الدائم، وضعف الرضى حيال ذاته وشكله، ومن ثمَّ قلة الثقة بنفسه وقدراته وإمكاناته؛ لذا فإنَّ المُركَّب النفسي هو مركب دائم الحضور في موضوع البدانة، ولا يمكن إغفاله أو إهماله.




مقالات مرتبطة