زيارة الطبيب النفسي: جنونٌ أم توازن؟

في ظلّ تخبّطات الحياة وتناقضاتها وما تحمله من تحدياتٍ قوية، باتت زيارة الطبيب النفسي ملجأ كثيرٍ من الأشخاص، وذلك للوصول إلى حالة السلام الداخلي التي يفتقدونها.



لذا نرجوا منك الإجابة على هذه الأسئلة بصدق:

  • كم من المرّات أخبرت نفسك فيها أنَك بحاجةٍ إلى الاستعانة بطبيبٍ نفسيّ؟
  • كم من المرّات شعرت فيها أنَّ أمورك قد خرجت عن نطاق سيطرتك وأنَّك بحاجةٍ إلى مساعدة أخصائي صحّةٍ نفسيّة؟
  • كم من المرّات وقفتَ عاجزاً أمام تأزّم مشكلاتك في ظل تردّدك بشأن طلب المساعدة، أو بسبب نظرتك المشوّهة تجاه الطب النفسي؟

وهنا يتبادر إلى أذهاننا الأسئلة التالية:

  • ما هو الوقت المناسب للقيام بهذه الخطوة؟
  • وما هي العلامات التي تُنذِر بضرورة زيارة المعالج النفسي؟
  • وإلى أيّ مدى تؤثّر نظرة المجتمع للعلاج النفسيّ في هذا الصدد؟

دعونا نتفق بدايةً على حقيقةٍ علميّةٍ تُفيد بأنّ ما يحركنا هي أفكارنا التي تكون نتيجةً لمشاعرنا إذاً فالأساس هو المشاعر، لذلك من المهمّ جداً مراقبتها وتوجيهها في الاتجاه الصحيح، ذلك لأنّها ترتبط بكلّ مفصلٍ من مفاصل الحياة، فما نختبره من مشاعر سواءً أكانت إيجابيّةً أم سلبيّة، ينعكس على تصرفاتنا وخططنا وقراراتنا، وما إلى ذلك.

فما هي العلامات التي يجب الانتباه إليها والتي تؤكد أنّنا بحاجةٍ للمساعدة؟

1. فشل محاولاتك لتحسين حالتك النفسية:

هل بقيت مؤشرات القلق مرتفعة لديك، رغم أنّك جرّبتَ المشي يوميّاً؟ وهل جرّبتَ التّحدث إلى صديق، إلّا أنّ ذلك لم يُجْدِ نفعاً؟ وهل جرّبت قراءة كتب التنمية البشرية، إلّا أنّك لم تستطع الاستفادة منها عمليّاً؟

يُعدُّ الوصول إلى حالةٍ كهذه، بمثابة علامةٍ تُشِير إلى ضرورة طلب مساعدةِ طبيبٍ نفسيّ.

إقرأ أيضاً: مرض القلق النفسي: أسبابه، أنواعه، أعراضه، علاجه

2. ملل أصدقاؤك وأهلك من الاستماع إلى مشاكلك:

يلجأ كلُّ منّا إلى دائرة معارفه المقرّبين لمشاركتهم المشاكل ولمحاولة إيجاد حلولٍ لها، لكن في بعض الأحيان ونتيجةً لضغوطات الحياة، قد تشعر بنقصان رغبتهم في سماع مشكلاتك، وبانخفاضٍ في اهتمامهم بكَ. ومن جهةٍ أخرى قد تمرّ بأزمةٍ صعبة، وتحتوي الكثير من الخصوصيّة إلى الحدّ الذي لا تستطيع الإفصاح عنها لأحد معارفك، أو أنّ أزمتكَ تحتاج إلى تحليلٍ عميقٍ من قِبَلِ أحد الاختصاصيين. تُعدُّ كلّ الاحتمالات السابقة علامةً قويّةً لطلب المساعدة.

3. حينما يُصبح إدمانك على شيءٍ ما أو تحطيمك أحدهم، بمثابة محاولات فاشلة للتخفيف من مشاكلك:

يلجأ الكثير من الأشخاص في ظلّ ظروف الحياة القاسية، إلى وسائل عديدة لتغيير حالتهم المزاجية كطريقةٍ للهروب من الواقع ومن مشاكلهم، فيلجؤون إلى إدمان التدخين والكحول والمخدرات. وكما يُعدُّ قضاء الوقت الطويل على منصات التواصل الاجتماعي أو مشاهدة الأفلام الإباحية، من الجهود المبذولة للهروب من الواقع. كما قد يتّبع بعض الأشخاص أسلوب تدمير حياة أحبّائهم كوسيلةٍ للإحساس بالرضا عن ذواتهم.

في الحقيقة قد يكون الطعام طريقة تخديرٍ لمشاعرَ يجب معالجتها، فتكون التغيرات في الشّهية -الإفراط في تناول الطعام أو عدم الرغبة فيه- علامةً على أنّ الأمور لا تسير بشكلٍ جيّد.

والسؤال هنا: أليس الأجدر بنا أن نطلب مساعدة طبيبٍ نفسيٍّ بدلاً من أن نخاطر بإضافة اضطرابٍ جديدٍ إلى حياتنا في محاولةٍ فاشلةٍ للعلاج الذاتيّ؟

4. ملاحظات الآخرين على سلوكك:

قد تصبّ كثيرٌ من ملاحظات الآخرين في مصلحتنا، لذا علينا أخذ ملاحظاتهم على محمل الجدّ ومحاكمتها منطقيّاً، فعندما يقدّم لك زميلك في العمل ملاحظةً عن أدائك مؤخراً، أو عن سلوكك وتصرفاتك، فلا مانع من أخذ ملاحظاته بحُبّ والعمل على تحسين أمورك. ومن الممكن أن يطلب منك الذهاب لاستشارة طبيبٍ نفسيٍّ لأنّ وضعك يستدعي ذلك، لذا خُذ النصائح بصدرٍ رحب وطبّقها، فقد تقيك من أزمةٍ حقيقيّة.

5. تشعّب الآثار السلبيّة لمشاكلك، وحدوث تأزّمٍ في حياتك:

قد تشعر في كثيرٍ من الأحيان أنّك لا تسيطر على الأمور، وأنّ مستويات القلق والحزن تزداد بشكلٍ مُلفِتٍ لديك؛ ما ينعكس سلباً على أدائك في العمل، حيث يصبح تركيزك أقلّ وقد تحصل على تغذيةٍ راجعةٍ سلبيّةٍ من قبل المديرين. كما قد يؤثَر ذلك على علاقاتك الاجتماعية، وذلك لأنّك تصبح أقلّ صبراً وتفاعلاً مع الآخرين.

ومن جهةٍ أخرى، تشعر أنّ حياتك متأزّمة، ذلك لأنّك تُبْعِدُ عنك كلّ أمر يسبّب لك القليل من التوتر، إضافة إلى سيطرة السيناريوهات السوداويّة على كلّ تحدٍّ غير متوقع تخضع إليه.

كلّ العلامات السابقة تؤكّد أنّك بحاجةٍ إلى المساعدة.

6. سوء إدارة صدماتك:

يعيش الكثير من الأشخاص ما يُعرف باضطراب "الكرب التالي للصدمة"، فيشعرون بالآثار السلبيّة للصدمة حتى بعد انتهائها، فبعضهم لا يستطيع تقبّل موت شخصٍ عزيز عليه على سبيل المثال، الأمر الذي يستوجب الاستعانة بطبيبٍ نفسيٍّ للتخفيف من حِدَّة الأمر.

7. ألم جسدك نتيجة لحالتك النفسيّة:

يظهر التوتر النفسي على شكل مجموعةٍ من الأعراض الجسدية مثل اضطرابٍ مزمنٍ في المعدة وصداع ونزلات برد متكرّرة وتقلّص الدافع الجنسي، إضافةً إلى وخزٍ في العضلات وآلام الرقبة؛ لذا عليك أن تسمع ما يُخبركَ جسدكَ إيّاه عن حالتك النفسية.

إقرأ أيضاً: ما هو أقل ما يمكنك فعله للحفاظ على صحتك؟

8. انعدام الرغبة في كلّ شيء:

سُئل أحد الأشخاص سؤالاً وهو: "ماذا سيغيّر في حياته في حال كان موعد وفاته بعد شهر؟"، وكان جوابه صادماً: "لن أغيّر شيئاً، وهذا الأمر غير نابعٍ من إحساسي بالرضا، وإنّما من عدم رغبتي بشيء".

لا بُدَّ أنّ هذا الشخص قد فقد الإحساس بالأشياء، وفقد الرغبة والطاقة والشغف للتغيير والتميّز.

سؤالٌ عفويٌّ بسيط، يستطيع أن يكشف لنا الكثير عن النفس البشرية، ويكشف أنّ هذه علامةٌ هامّةٌ لطلب المساعدة من الاختصاصي.

9. تأزّم علاقاتك الاجتماعية:

يُعدّ شعورك بعدم القدرة على التواصل مع الآخرين علامةً من علامات وضعك الصعب، فالاستعانة بطبيبك النفسيّ تُمكِّنكَ من اتخاذ خياراتٍ أفضل في طريقة تعبيرك عن الأشياء؛ فالأمر لا يتعلّق فيما تقوله فحسب، بل بلغة جسدكَ أيضاً.

في الحقيقة لا يمكن الحديث عن زيارة الطبيب النفسيّ دون التطرّق إلى نظرة المجتمع عن العلاج النفسي؛ فكثيراً ما نسمع مقولة: "المرضى النفسيون وحدهم من يزورون العيادة النفسيّة".

وهنا نسأل: هل العلاج النفسي للمرضى النفسيين دوناً عن سواهم؟ وما هي أشهر الأمراض النفسيّة؟

إنّ العلاج النّفسيّ أداةٌ مفيدةٌ لاستكشاف عالمك الداخليّ، ولفهم ذاتك أكثر، ولتفعيل علاقاتك وتواصلك الاجتماعي؛ فهو يجعل صحتك أفضل بكثير، ذلك لأنّ التوازن النفسيّ ينعكس إيجاباً على كلّ جوانب الحياة الصحيّة والعمليّة والعاطفيّة والاجتماعيّة.

إنّه ليس فقط للمرضى النفسيين، بل إنّه لكلّ شخصٍ مهتمٌّ بالتأمّل وبالتحليل العميق للأمور والسلوكات البشرية، وبالتعاطي مع الناس بطريقةٍ أكثر فاعليّة.

أشهر الأمراض النفسيّة:

الاضطرابات العقليّة هي الظروف التي تؤثّر على تفكيرك ومشاعرك ومزاجك وسلوكك، ويمكن أن تكون عرضيّةً أو طويلة الأمد، كما قد تؤثّر في قدرتك على التواصل مع الآخرين وعلى عملك أيضاً. ولعلَّ الحالات الآتية أشهرها:

1- الاكتئاب:

هو الاضطراب العقليّ الأكثر شيوعاً، وغالباً ما يتميّز بفقدان الاهتمام أو المتعة والحزن العام، بالإضافة إلى الإحساس بالذّنب، والاحساس بالإرهاق وعدم التركيز وصعوباتٍ في النوم.الاكتئاب ليس فقط نتيجة كميّةٍ زائدةٍ أو قليلةٍ من المواد الكيميائية للدماغ وخصوصاً السيروتونين، بل لعلم الوراثة والأحداث اليوميّة والمشكلات الطبيّة والأدوية علاقةٌ قويّةٌ بالاضطراب أيضاً.

2- التوتر:

كما هو معروف، يوجد توترٌ إيجابيّ يجعلك متيقظاً وشديد الانتباه والتركيز ومرتفع الإنتاجية، وبالمقابل إذا تجاوز التوتر حدّاً معيّناً فإنّه يتحوّل إلى أمرٍ مُهدِّدٍ للصحة الجسديّة والنّفسيّة. من جهةٍ أخرى، تتطور اضطرابات التوتر من عددٍ كبيرٍ من العوامل بما في ذلك علم الوراثة، والكيمياء الدماغية والأحداث اليومية.

3- الاضطراب ثنائي القطب:

يتميّز هذا الاضطراب بتقلّباتٍ مزاجيّة مُفرطة تتضمّن الارتفاعات (الهوس أو الهوس الخفيف) والانخفاضات (الاكتئاب).

4- الاضطرابات الذهانية ومن بينها الفصام:

اضطراباتٌ عقليّةٌ شديدةٌ تسبّب التفكير غير الطبيعيّ والتّصورات، حيث يفتقد الأشخاص المصابين بها الاتصال مع الواقع، ويوجد اثنين من الأعراض الرئيسة لها هما الهلوسة والأوهام، الهلوسة هي معتقدات كاذبةٌ مثل الاعتقاد بأنّ شخصاً ما يتآمر عليك. أمّا الأوهام فهي تصوّراتٌ خاطئةٌ مثل سماع أو رؤية شيءٍ لا وجود له.

5- الخرف:

تتدهور في هذا الاضطراب الوظائف المعرفية وراء الشيخوخة العاديّة، ويتضمّن مشاكل في الذاكرة والتفكير، وصولاً إلى الفهم والحساب واللغة مع التدهور في السيطرة العاطفية والاجتماعية.

6- اضطرابات الأكل:

تنطوي هذه الاضطرابات على مشاكل كثيرة مع أفكارك حول الغذاء وسلوكاتك الغذائية، فقد تأكل أكثر بكثير أو أقل بكثير مما تحتاجه، وتؤثّر على قدرة الجسم على الحصول على التغذية السليمة؛ الأمر الذي يؤدي إلى مشاكل صحيّة مثل مشاكل القلب والكلى.

7- اضطرابات الشخصيّة:

تنطوي هذه الاضطرابات على أنماط طويلة الأجل من الأفكار والسلوكات غير الصحيّة وغير المرنة، وتسبّب مشاكل خطيرة في العلاقات والعمل، فالأشخاص الذين يعانون من اضطرابات الشخصيّة لديهم مشكلة في التعامل مع الضغوطات والمشكلات اليوميّة، وغالباً ما يكون لديهم علاقات عاصفة مع الآخرين.

8- اضطراب التوتر ما بعد الصدمة:

يحدث هذا الاضطراب بعد رؤية حدثٍ صادمٍ مثل حربٍ أو اعتداءٍ جنسيٍّ أو إعصارٍ أو حادثٍ سيّء، ويبقى الفرد يشعر بالخوف حتى بعد انتهاء الخطر؛ ممّا يؤثّر على حياته وعلى حياة الأشخاص من حوله. ويشعر الفرد بالأعراض التالية:

  • الشعور وكأنّ الحدث يحدث مرّةً أخرى.
  • الشعور بالوحدة والخوف.
  • نوبات غضبٍ قوية.
  • مشاكل في النوم وكوابيس.
  • القلق والحزن والشعور بالذنب.

9- اضطرابات النمو العصبي:

وهي تلك الاضطرابات التي يتمّ تشخيصها عادةً أثناء الطفولة أو المراهقة، وتشمل:

  • الإعاقة الذهنية أو الاضطراب التنموي الفكري: وينشأ هذا النوع من اضطرابات النموّ قبل سن 18 سنة ويتميّز بقيودٍ في كلّ من السلوك الفكري والسلوكات التكيفيّة. غالباً ما يتمّ تحديد قيود الأداء الفكري من خلال استخدام اختبارات الذكاء، حيث تشير درجة محصلة الذكاء التي تكون أقل من 70 إلى وجود قيود. أمّا السلوكات التكيفيّة فتنطوي على مهاراتٍ عمليّةٍ يوميّةٍ مثل الرعاية الذاتيّة والتفاعل الاجتماعي والمهارات الحيّة.
  • التأخر التنموي العالمي: هو تشخيصٌ للإعاقة التنمويّة لدى الأطفال دون سنّ الخامسة، تتعلّق هذه التأخيرات بالإدراك، والأداء الاجتماعي، والكلام واللغة والمهارات الحركية.
  • اضطرابات التواصل: هي تلك التي تؤثّر على القدرة على استخدام وفهم واكتشاف اللغة والكلام، ويوجد أربعةُ أنواعٍ فرعيّةٍ من اضطرابات التواصل وهي اضطراب اللغة، واضطراب صوت الكلام، واضطراب الطلاقة في بداية الطفولة (التأتأة) واضطراب التواصل الاجتماعي.
  • اضطراب طيف التوحد: يتميّز اضطراب طيف التوحد بالعجز المستمرّ في التفاعل الاجتماعي والتواصل في مجالاتٍ هامّةٍ في الحياة، وكذلك أنماط مقيّدة ومتكررة من السلوكات.
إقرأ أيضاً: حالات تأخر النمو لدى الأطفال (3-5 سنوات): أنواعها، وأسبابها، وعلاجها

نلاحظ من هذه الاضطرابات أنّ كلّاً منها حالةٌ مستقّلةٌ عن الأخرى، لذلك يجب أخذ الوقت للتعرّف على الأعراض الخاصة بك والحصول على تشخيصٍ دقيقٍ يساعدك على الوصول إلى العلاج المناسب.

دعونا نؤكّد أنّ الصحة النفسيّة أساس كلّ نجاحٍ على كلّ صعيد، وعلينا تغيير مفهومنا فيما يخصّ العيادة النفسيّة، فزيارتها يجب أن تتحوّل إلى أسلوب حياةٍ وإلى عادةٍ صحيّةٍ يعتاد الأفراد عليها.




مقالات مرتبطة