العدوى العاطفية: القوة الاجتماعية للعواطف

لنفترض أنَّك عدتَ إلى المنزل متعباً ومُحبَطاً بعد يوم عمل شاق، وبمجرَّد أن فتحتَ الباب وجدتَ حفلاً عائليَّاً وأصواتاً ورائحة طعامٍ شهي، ورأيتَ العائلة والأصدقاء يبتسمون ويضحكون ويتشاركون القصص والطعام، فتحسَّن مزاجك على الفور، ونسيتَ مشكلاتك، وسرعان ما ابتسمتَ وضحكتَ مع الآخرين، فيُعَدُّ هذا السلوك شكلاً من أشكال العدوى العاطفية.



تحدث العدوى العاطفية عندما تؤدي مشاعر وسلوكات شخص ما إلى المشاعر والسلوكات نفسها لدى الآخرين، ويُعَدُّ الوعي بالعدوى العاطفية أمراً هامَّاً لإدارة عواطفنا والأفعال المتعلقة بها، وضمان سلامتنا وسلامة الآخرين؛ لذا نقدِّم لك في هذا المقال المسارات التي تتخذها العدوى العاطفية، وكيف يمكن توجيه هذه الظاهرة الشائعة والقوية توجيهاً إيجابياً.

ما هي العدوى العاطفية؟

إذا ابتسمَ لنا أحدهم، فسوف نجد أنفسنا نبتسم تلقائياً، وإذا عبس في وجهنا شخص ما، فسوف نتجهَّم أيضاً.

تحدث محاكاة الابتسامات أو العبوس أو غيرهما من التعبيرات العاطفية في غضون أجزاء من الثانية عادةً، ودون أن نكون مدركين لها؛ لذا من خلال محاكاة تعبيرات وجوه الآخرين، يمكننا إدراك شعورهم وتجربة المشاعر نفسها، وعندئذٍ تكون تصرفاتنا عُرضةً للتأثُّر بهذه المشاعر.

في الواقع، قد تكون هذه العدوى العاطفية سلبية أو إيجابية؛ فعندما يُحرَّض الناس على الغضب وأعمال العنف، سيكون ذلك مثالاً على العدوى العاطفية السلبية، ومن ناحية أخرى، عندما يبتسم قائد الشركة دائماً، ويكون لطيفاً وإيجابياً تجاه الموظفين عموماً، ويثير المشاعر الإيجابية لدى جميع الموظفين، سيكون هذا مثالاً على العدوى العاطفية الإيجابية.

بعيداً عن الكلام النظري، 6 نتائج توصَّلَت إليها الأبحاث:

لقد أكَّدَت الأبحاث الأولى التي أُجرِيَت حول العدوى العاطفية اعتمادها على التواصل والمحاكاة الشخصية، بما في ذلك الإشارات غير اللفظية للآخرين مثل نبرة الصوت والإيماءات وتعبيرات الوجه، كما وجدت الأبحاث أنَّ مثل هذا التقليد يحدث تلقائياً لدى البشر والمخلوقات الاجتماعية الأخرى بفضل وجود الخلايا العصبية المرآتية في القشرة المخية.

لقد اكتُشِفَت الخلايا العصبية المرآتية لأول مرة في التسعينيات، عندما أظهر علماء الأعصاب الإيطاليون أنَّ الخلايا العصبية نفسها في أدمغة القرود تنشط عندما يمسك قرد غرضاً في الوقت الذي يمسك فيه قردٌ آخر الغرض نفسه، وتحدث عمليات مماثلة بين البشر؛ فعندما تجلس بمفردك وتبتسم عندما تتذكَّر بعض التجارب الممتعة، يؤجج هذا بعض الخلايا العصبية في دماغك، وعندما يبتسم لك شخص آخر، يثير هذا العديد من الخلايا العصبية نفسها التي أُثِيرَت عندما ابتسمتَ بمفردك؛ لذا تساعد هذه الخلايا العصبية المتخصصة وشبكاتها على تفسير كيف يمكن أن تنعكس عواطف البشر على غيرهم.

بالإضافة إلى ذلك، تقوى هذه الخلايا العصبية المرآتية ومساراتها كلما نُشِّطَت أكثر، وتُعرَف هذه العملية بـ"نظرية هيب"، والتي تَذكُر أنَّ الخلايا العصبية التي تثار معاً تتشابك معاً.

ثمَّة آثار مترتبة على انعكاس العواطف الإيجابية أو السلبية ونشرها، على سبيل المثال: لقد وجدَت دراسة جديدة أنَّ العدوى العاطفية السلبية مثل الغضب في مكان العمل تؤدي إلى المزيد من الأخطاء الإدراكية وحوادث العمل، بينما تؤدي العدوى العاطفية الإيجابية إلى عدد أقل من الأخطاء الإدراكية والحوادث، كما أنَّ هناك أدلة على أنَّ أخذ فترات راحة من وسائل التواصل الاجتماعي قد يعزِّز التأثير الإيجابي من خلال تقليل المقارنة الاجتماعية والتعرُّض للسلبية، فضلاً عن زيادة التركيز على النشاط البدني بدلاً من الخمول.

على سبيل المثال، وجد علماء النفس أنَّ الطلاب الذين قلَّلوا من استخدامهم لـ "فيسبوك" (Facebook) و"إنستغرام" (Instagram) و"سناب شات" (Snapchat) لمدة 30 دقيقة يومياً لمدة ثلاثة أسابيع، قد شهدوا انخفاضاً كبيراً في الشعور بالوحدة وأعراض الاكتئاب، مقارنةً بالطلاب الذين استخدموا وسائل التواصل الاجتماعي مثل المعتاد خلال تلك الفترة، وخلصوا إلى أنَّ اقتصار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على 30 دقيقة يومياً قد يساهم في زيادة السلامة العاطفية.

شاهد بالفديو: 8 طرق لاستثمار الذكاء العاطفي في كسب محبة الناس

3 أمثلة واقعية على العدوى العاطفية:

ثمَّة العديد من الأمثلة على العدوى العاطفية السلبية عبر التاريخ، لا سيَّما بين الحشود، ويسلِّط "علم نفس الحشود" (Psychology of Crowds) الذي ظهر بناءً على أبحاث "جوستاف لوبون" (Gustav Le Bon) الضوء على العدوى العاطفية، وقد استوحاه "لوبون" جزئياً من "كومونة باريس" (Paris Commune)، وهي حركة ثورية عنيفة لم تدُم طويلاً، وحرَّضَت الباريسيين ضد الفرنسيين في المناطق الريفية، ومن وجهة نظر "لوبون"، كانت الكومونة في الأساس مثالاً على حكم الغوغاء الذي تميَّزَت به الحشود؛ حيث أدت عدوى الأفكار والمشاعر العنيفة إلى أعمال شغب وسفك دماء وحرق معالم معمارية.

بحلول الوقت الذي كتب فيه "لوبون" كتاب "علم نفس الحشود" (Psychology of Crowds)، كان وجود الميكروبات وإمكان انتشارها المعدي راسخاً في الأوساط العلمية، وأكَّد "لوبون" بثقة أنَّ انتشار العواطف أو العدوى العاطفية قد يكون بالقوة والنتائج نفسها المترتبة على أيَّة عدوى جرثومية.

لاحظَ المفكرون في وقت لاحق أنَّ العدوى الميكروبية تختلف عن العدوى العاطفية لأنَّها "خطية"؛ إذ يتلقاها المرء على نحو سلبي، بينما يُقال إنَّ العدوى العاطفية "حوارية"؛ وذلك لأنَّها تتضمن موضوعاً نشِطاً يتشارك فيه الآخرون من خلال الحوار والإيماءات المشتركة أو تعبيرات الوجه أو الرموز أو الكلام، ومن ثمَّ يشارك الأفراد في تكوين التجربة أو العدوى العاطفية.

هناك مثال آخر شهير على العدوى العاطفية، وهو عندما أسفرَت الاتهامات الكاذبة ضد رجال أمريكيين من أصل إفريقي في سيرك يقع في "دولوث" (Duluth) بولاية "مينيسوتا" (Minnesota) في عام 1920 عن حشد غاضب من الآلاف ضرَب وشنَق ثلاثة من المتهمين، وقد سُرِدَت هذه الحادثة في وقت لاحق في أغنية "بوب ديلن" (Bob Dylan) الملحمية بعنوان "ديزوليشن رو" (Desolation Row)، والتي أوضحَت القوة الرهيبة للعدوى عندما تكون المشاعر سلبيةً وعنيفة.

كما توجد بعض حالات العدوى العاطفية الإيجابية عبر التاريخ، على الرغم من أنَّها قد تحظى باهتمام أقل، على سبيل المثال: لقد تميَّز "صيف الحب" عام 1967 في الولايات المتحدة بتجمعات كبيرة من الشباب في "سان فرانسيسكو" (San Francisco) ومناطق حضَرية أخرى، وعُرِفت هذه التجمعات بنشر مشاعر الكرم والسلام والمحبة والرعاية العامة، وتفيد التقارير بأنَّ قادة المجموعة قد شكَّلوا هذه المشاعر والمواقف وعملوا بها، مثل الفنان "مايكل بوين" (Michael Bowen) وعالم النفس "تيموثي ليري" (Timothy Leary).

إقرأ أيضاً: 15 دقيقة للتحكم في عواطفك السلبية

العدوى العاطفية والتعاطف:

تدفعنا العدوى العاطفية إلى التواصل والاندماج مع الآخرين بطرائق قد تتسبَّب في الانصياع للآخرين والانجرار خلف حالاتهم العاطفية، بينما يتضمن التعاطف مع ظروف الآخرين أو مزاجهم ما قد يسميه عالم النفس "إريك فروم" (Erich Fromm) التفرد أو الاستقلالية، ووفقاً لـ "فروم"، لكي يكون المرء متعاطفاً، ينبغي عليه وضع نفسه في مكان الآخرين، والشعور بمشكلاتهم أو أوضاعهم دون التخلي عن الاستقلالية اللازمة للتواصل مع هذا الشخص الآخر أو مساعدته، ومن ثمَّ تتطلب الحالات العاطفية مثل التعاطف بعض المسافة النفسية من جانب الشخص المتعاطف لحماية نفسه من العدوى العاطفية؛ وذلك لأنَّه ثمَّة خط رفيع بين التعاطف والعدوى العاطفية، على سبيل المثال: هناك حالات من المعالجين أو غيرهم من المهنيين المساعدين يشعرون بآلام مرضاهم بشدة لدرجة تجعلهم أنفسهم مضطربين عاطفياً ولا يعود في إمكانهم العمل كمساعدين.

ملاحظة حول العدوى العاطفية في مكان العمل:

لقد ناقش "براندون سميث" (Brandon Smith) العدوى العاطفية السلبية والإيجابية في مكان العمل في حديث مُلهم على منصة "تيد" (TED) في عام 2016، وتحدَّث عن التقليد كأساس للعدوى العاطفية اللاواعية في كثير من الأحيان مؤكِّداً أنَّ القادة في المنظمات ينشرون العواطف بقوة أكبر من أولئك الذين يعملون تحت إمرتهم، ويقول إنَّ العواطف السلبية هي الأكثر عدوىً، وأنَّ نشر الحالات العاطفية الإيجابية ضروري لصحة المنظمات والعاملين فيها، وقد نصح بتطبيق ما يلي من أجل الحفاظ على الصحة الشخصية والتنظيمية:

  • راقِب مشاعرك تجاه مكان عملك ورئيسك وزملائك في العمل؛ إذ سيسمح لك هذا بإجراء تعديلات سلوكية قد تؤدي إلى تجنُّب العمل مع أشخاص معيَّنين إن أمكن، أو إجراء تغييرات كبيرة مثل الاستقالة للبحث عن بيئة عمل أفضل.
  • قدِّم دعماً عاطفياً إيجابياً للآخرين في العمل؛ ويعني هذا تقديم ما لا يقل عن ثلاثة سلوكات إيجابية، مثل الابتسامات، وردود الفعل الإيجابية، والتهنئة، وما إلى ذلك،مقابل كل سلوك سلبي تقوم به - سواء كان نقداً أم عبوساً أم غير ذلك - كما أظهر البحث أنَّ هذه الإيجابية قد تكون مُعدية؛ ممَّا يؤدي إلى جعل مكان عملك أفضل وأكثر أماناً للجميع.
  • وأخيراً، يقترح "سميث" أن تكون إيجابياً حتى خارج مكان العمل، على سبيل المثال: عندما تخرج لتناول العشاء في المرة القادمة، ابتسِم للنادل واشكره، فمن المحتمل أن يكون هذا الشخص قد مرَّ بيومٍ عصيب.

الدور المؤثر لوسائل التواصل الاجتماعي في العدوى العاطفية:

لقد استكشف علماء النفس ما إذا كانت العدوى العاطفية قد تحدث دون تواصل شخصي من خلال منصات وسائل التواصل الاجتماعي من خلال دراسة واسعة النطاق شملَت 689،003 شخصاً، ووجدوا أنَّ تقليل الأخبار الإيجابية ارتبط بانخفاض عدد المنشورات الإيجابية وارتفاع عدد المنشورات السلبية من قِبَل المشاركين، بينما حدث العكس تماماً عندما قلَّت الأخبار السلبية.

تُعَدُّ هذه الدراسة مثيرة للجدل نظراً لاستخدامها لبيانات الأشخاص على "فيسبوك" (Facebook) دون موافقة مُسبَقة، ومع ذلك، تبدو النتائج الأساسية سليمة تماماً، والتي تشير إلى أنَّ العدوى العاطفية قد تحدث عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي وفي الواقع أيضاً على نطاق واسع، كما تشير دراسة أخرى إلى أنَّ سعة انتشار مقاطع الفيديو التي تُشارَك عبر الإنترنت تستند إلى شدة الاستجابة العاطفية التي تثيرها، بغضِّ النظر عما إذا كانت تلك الاستجابة العاطفية إيجابية أم سلبية.

وتشير هذه النتائج كلها إلى أنَّه يجب علينا النظر في النتائج المحتملة للعدوى العاطفية السلبية أو الإيجابية في وسائل التواصل الاجتماعي، والتصرف بناءً على ذلك، وخير مثال على ذلك هو تجنُّب مشاركة المحتوى الذي قد يثير المشاعر والسلوكات السلبية أو الحدُّ منه.

وبهذه المناسبة، ثمَّة قصة تحكي كيف حوَّل الممثل الكوميدي "باتون أوسوالت" (Patton Oswalt) موضوعاً عاطفياً سلبياً على حسابه على "تويتر" (Twitter) إلى عاطفة إيجابية، لقد ردَّ رجل على قصيدة سياسية كتبها "أوسوالت" بهجوم شخصي قاسٍ، وبدلاً من أن يرد "أوسوالت" الهجوم، شاهد صفحة هذا الرجل على تويتر، ووجد أنَّه يعاني من مشكلات صحية كبيرة تتطلَّب منه الكثير من المال، فتعاطف "أوسوالت" مع الرجل، وتبرَّع له بالمال، وحثَّ متابعيه على فعل الشيء نفسه.

لقد جمع "أوسوالت" ومتابعوه أكثر من 30 ألف دولار لمصروفات الرجل، والنقطة الأهم، هي أنَّ هذا الرجل قال إنَّه ممتن لهذا العرض المفاجئ امتناناً شديداً، وإنَّه شعر بالحب والدعم، كما تعهَّد بأن يكون أكثر وعياً في المستقبل بكلماته التي سيقولها للآخرين.

إقرأ أيضاً: هل تهدد مواقع التواصل الاجتماعي صحتنا النفسية؟

في الختام:

قد تتسبَّب العدوى العاطفية السلبية في نشر السلوك الجنوني والعنيف، كما أنَّها تضخَّمَت اليوم للأسف بسبب الاضطرابات السياسية، والتوسُّع الحضري، وتطوير تقنيات التواصل، وظهور منصات وسائل التواصل الاجتماعي، والعولمة، ومع ذلك، تشير الأبحاث إلى أنَّ البشر يمكنهم إبطاء انتشار العواطف السلبية المعدية أو حتى القضاء عليها واستبدالها بعواطف أكثر إيجابيةً.

قد يبدأ هذا بخطوة بسيطة ولكنَّها فعَّالة، وهي ملاحظة عواطفنا والتساؤل عن أسبابها؛ وذلك لأنَّه من خلال زيادة الوعي بعواطفنا، يمكننا تقييمها تقييماً صحيحاً واستبدال المشاعر السلبية بردود عاطفية أكثر إيجابيةً، ويمكننا القيام بذلك من خلال بناء سلوكات لا تتوافق مع العواطف السلبية، مثل الحد من تعرُّضنا للأخبار والموضوعات السلبية على وسائل التواصل الاجتماعي، وخلق المزيد من النتائج الإيجابية بأنفسنا، كما حدث عندما حوَّل "أوسوالت" شخصاً عدائياً إلى شخص ممتن وأكثر تريُّثاً؛ ممَّا يوضِّح كم تساهم السلوكات الإيجابية واللطيفة تجاه الآخرين في العدوى العاطفية الإيجابية في العمل والمنزل.

المصدر




مقالات مرتبطة