الأزمة الوجودية: ما هي؟ وكيف تتعامل معها؟

لقد كانت الحياة قبل بضع سنوات أقل إرهاقاً بكثير، إذ لم يكن هناك إنترنت ويوتيوب (YouTube) وفيسبوك (Facebook) وإنستغرام (Instagram)، وكان كل شيء أبسط، وكانت تُعقَد أكثر لقاءات الناس وجهاً لوجه، وكان الضغط الذي يُمارَس على الناس لأداء العديد من المهمات واتخاذ توجهات وقرارات متنوعة أقل؛ لكن في المقابل، أصبحت الحياة اليوم أكثر تطوراً وتعقيداً، فقد أضحى لدينا مزيد من الأشياء التي تجعلها أكثر راحة، لكنَّنا وفي الوقت عينه؛ نتعامل مع فيض من المعلومات، لذا بات من الصعب أحياناً مواكبة كل شيء.



في المحصلة، للحياة "الأفضل" التي نعيشها ثمن، فقد أضحت محاولة إبقاء كل شيء متوازناً أكثر مشقة وإرهاقاً؛ وإضافة إلى هذه العوامل التي أثرت في الناس في مختلف أرجاء العالم، عانى جميع الناس من تغيرات طرأت على حياتهم، إذ أصبح لدينا جميعاً معارك يجب علينا أن نخوضها، ومخاوف يجب علينا أن نتصدى لها، وتقلبات يجب علينا أن نتجاوزها.

لقد خضنا جميعاً مراحل في حياتنا واجهنا فيها حدثاً مؤلماً كفقدان شخص عزيز على قلوبنا، أو مرض، أو طلاق، أو أي مصاعب أخرى؛ إذ تجعل هذه التجارب الحفاظ على التماسك صعباً جداً، وربَّما مستحيلاً في بعض الأحيان.

كما ترى، هذه ليست لحظات مشرقة في حياتنا، لكنَّها لحظات اكتشاف وإعادة ابتكار هامة للغاية؛ وقد عبرت المغنية الأميركية "توري أموس" (Tori Amos) عن هذه الفكرة بطريقة جميلة، حيث قالت: "يخشى بعض الناس ممَّا قد يكتشفونه إذا حاولوا المبالغة في تحليل نفسياتهم، لكن يجب عليك الدخول إلى جراحك حتى تكتشف أين تكمن مخاوفك؛ فحينما يبدأ النزيف، يبدأ التعقيم".

يُطلِق علماء النفس على مثل هذه الحالات اسم "القلق"، أو "الاكتئاب الوجودي"، أو "الأزمة الوجودية" ببساطة؛ فما هي الأزمة الوجودية تحديداً؟

سنسعى من خلال هذه المقال إلى تعريف معنى الأزمة الوجودية، ونساعدك في تعلم طريقة التعامل معها.

ما هي الأزمة الوجودية؟

للأزمة الوجودية علاقة بوجودنا؛ فحينما ننظر إلى تعريف الأزمة الوجودية، نرى أنَّها فترة من الزمن يعيد فيها الشخص البحث عن معنى الحياة، أو الغاية منها، أو القيم السائدة فيها.

يثير هذا السؤال "الكبير" عادة تجربة صادمة خضناها غيرت رأينا في العالم؛ فحينما نواجه حقيقة التغيير في الحياة، ندرك ألَّا سلطة لنا على العديد من الأحداث التي تصيبنا، ويتراكم إحساسنا بالقلق، ونتوه في عالم الوهم.

إنَّه لمن الهام أن تعرف أنَّ نقاط التحول في الحياة لا تؤدي جميعها إلى أزمة وجودية، إذ يعدُّ الإحساس بالضغط جزءاً اعتيادياً غالباً من حياتنا اليومية، وهو في كثير من الأحيان إحساس مؤقت زائل؛ لكنَّه حينما يستمر طويلاً، ويجعلنا نحس بأنَّ كل شيء بلا معنى، ونبدأ التشكيك في حياتنا وسبب وجودنا، نستطيع بكل تأكيد أن نقول أنَّ لعنة الكآبة الذهنية والجسدية قد أصابتنا، وهذا هو فحوى الأزمة الوجودية.

ما علامات الأزمة الوجودية؟

الأزمة الوجودية فترة كئيبة يمكن أن يكون لها آثار خطيرة على الصعيدين الذهني والجسدي، حيث يمكن للشخص الذي يشعر في قرارة نفسه أنَّه يسير في طريق الاكتئاب أن يحس بـ:

  • اهتمام ملح أو شديد بالمعنى الأكبر للحياة والموت.
  • حزن وقلق وتعاسة بسبب المجتمع الذي يعيش فيه، أو وضع العالم عموماً.
  • الاعتقاد بأنَّ التغيير في أي شيء مستحيل وعقيم.
  • الميل المتزايد إلى الانفصال عن الواقع، والعزلة، والابتعاد عن الآخرين.
  • قطع العلاقات مع الآخرين بسبب الإحساس بأنَّ العلاقات معهم عديمة المعنى أو سطحية.
  • انخفاض مستويات الرغبة في القيام بأي نشاط كان يمارسه عادة، وكذلك انخفاض الطاقة اللازمة لذلك.
  • التشكيك بمعنى الحياة أو الغاية منها.
  • التفكير في الانتحار والرغبة فيه.

إنَّه لمن الواضح أنَّ الأمر خطير تماماً، وأنَّه يجب علينا ألَّا نستخف به؛ لذا لا يمكنك الاكتفاء "بالجلوس" وانتظار انقضاء العاصفة؛ ذلك لأنَّها لن تنقضي وحدها في معظم الأحيان.

إقرأ أيضاً: 3 أمور تجعل لحياتك قيمة ومعنى

ما أسباب الأزمة الوجودية؟

إنَّ سبب الأزمة الوجودية ليس تجارب عادية قد تؤدي إلى ارتفاع مستويات الإحساس بالضغط والقلق عن المستوى الطبيعي أو انخفاضها؛ كبدء عمل جديد، أو الزواج، أو إنجاب الأطفال، أو تقديم محاضرة في العمل، أو الدراسة استعداداً لاختبار هام.

يزداد إحساسنا بالحزن عمقاً وقتامة حينما نعاني صدمة أو خسارة أو محنة كبيرة، وقد يكون أحد الأمور الآتية من الأسباب التي من المحتمل أن تؤدي إلى الأزمة الوجودية:

  • الإحساس بالذنب.
  • موت شخص عزيز، أو مواجهة الشخص حقيقة الموت.
  • الإحساس بانعدام الرضا على المستوى الاجتماعي.
  • عدم الرضا عن الذات.
  • كبت العواطف زمناً طويلاً، لا سيما العواطف السلبية.

حدد الدكتور إرفين يالوم (Irvin Yalom) -الطبيب النفسي المختص بمعالجة الأزمات الوجودية والأستاذ في جامعة ستانفورد- في كتابه الذي يحمل عنوان "العلاج النفسي الوجودي" (Existential Psychotherapy) أربعة أسباب أساسية قد تؤدي إلى إصابة الناس بالاكتئاب الوجودي، وهي: الموت، والحرية، والعزلة، وانعدام المغزى من الحياة.

يمكن أن يكون الخوف من الموت والعجز عن التحكم به مصدراً للقلق بلا شك، فقد تُولِّد الحرية إحساساً بالضيق أيضاً؛ ذلك لأنَّ الحرية المطلقة في التصرف والتفكير والتحدث كيفما نشاء تعني أيضاً أن نتحمل مسؤولية تصرفاتنا وقراراتنا تحملاً كاملاً، ويمكن أن يكون هذا مخيفاً بالنسبة إلى بعض الناس.

رغم أنَّنا مخلوقات اجتماعية، إلَّا أنَّ الفكرة التي تتمحور حول أنَّه "لا يمكننا أبداً التعرف تعرفاً كاملاً إلى شخصية أحدهم، أو أنَّ الآخرين قد لا يفهمون شخصياتنا فهماً كاملاً" يمكن أن تجعلنا نحس بالوحدة والانعزال عن العالم، وهو الأمر الذي يؤدي إلى الإحساس بأزمة وجودية.

أخيراً، ربَّما يكون أحد أكثر أسباب إحساس بعض الناس بالاكتئاب الوجودي هو أنَّهم يعانون باستمرار من الإحباط بسبب حياتهم، ومن الإحساس بانعدام معنى الحياة؛ فقد فقدوا إحساسهم بالانتماء أو الغاية، ولم يعودوا قادرين على أن يبصروا أمامهم أي طريق.

لا تعدُّ هذه أفضل حالة يمكن أن تعيشها، لكن ثمة أمور تستطيع القيام بها حتى تساعد نفسك على الخروج منها.

إقرأ أيضاً: هل مللت من حياتك؟ إليك كيفية جعلها مثيرة من جديد

كيف تتعامل مع الأزمة الوجودية؟

إذا أردنا ألَّا نبالغ، فيمكننا القول أنَّ الإحساس بالتعاسة الدائمة يمكن أن يكون مرهقاً، وهو أمر يسرق منَّا الإحساس بالسعادة؛ فكيف تنقذ نفسك إذاً من الكآبة التي تحس بها؟

لحسن الحظ، يقول علماء النفس أنَّ انعدام الخيارات ليس وارداً في هذه الحالة؛ إذ في الحقيقة، ثمة أمور عدة بمقدورنا فعلها لنساعد أنفسنا حينما نشكك في الغاية من وجودنا ومعنى حياتنا كلها.

إحدى الأمور التي تستحق الذكر أيضاً هي أنَّ الأشخاص المؤمنين بالفلسفة الوجودية يقولون أنَّ علينا أن نتعايش مع القلق ونتعامل معه بدل التخلص منه، ويرى هؤلاء أيضاً أنَّ هذا الإحساس العميق بالتعاسة يعدُّ جزءاً طبيعياً من الحياة؛ أي تسعى استراتيجياتهم إلى الاعتراف بالأفكار والمشاعر السوداوية، والسيطرة عليها عوضاً عن محاولة تحويلها إلى أفكار ومشاعر إيجابية.

شاهد بالفديو: 5 طرق لمحاربة التفكير السلبي في الحياة

هذه بعض النصائح الإضافية التي نستطيع من خلالها مساعدة أنفسنا على تجاوز مثل هذه الفترات الكئيبة:

1. أعد منح حياتك بعض المعنى:

يعدُّ اكتشاف معنى الحياة هدفاً يسعى كل الناس إلى بلوغه؛ إذ إنَّنا جميعاً نريد أن تكون حياتنا هامة، وأن نترك أثراً فيها بعد رحيلنا.

يستطيع كل واحد منَّا أن يجعل لحياته معنى من خلال الاهتمام بالسعادة، والتواصل مع العالم، وتقديم إسهامات مفيدة للآخرين وللعالم أجمع.

2. احتفظ بدفتر يوميات تدون فيه النعم التي تملأ حياتك:

رغم أنَّ هذا ليس ابتكاراً جديداً، إلَّا أنَّ هذه الفكرة لها عدة فوائد مؤكدة؛ إذ يمكن لتذكر الأمور التي كنَّا محظوظين بما يكفي لينعم الله بها علينا أن يفعل مفعول السحر في صحتنا الذهنية، وأن يخفف مشاعر القلق التي تراودنا.

3. توقف عن انتظار إجابات جميع الأسئلة التي تراودك:

حينما نفكر في الأسئلة الكبيرة المتعلقة بوجودنا والغاية منه، نضع أنفسنا تحت ضغط الرغبة في العثور فوراً على الإجابات؛ إذ يدفعنا هذا إلى الإحساس بالقلق والإحباط، وربَّما النظر نظرة ملؤها الحسد إلى أولئك الذين عثروا على إجابات كل الأسئلة التي تراودهم.

لكن تذكر أنَّك لست مضطراً إلى العثور على حلول لكل شيء، ويكفي أن تعيد اكتشاف الأمور التي تهمك حتى تحس بالسعادة.

إقرأ أيضاً: مرض القلق النفسي: أسبابه، أنواعه، أعراضه، علاجه

4. تواصل مع الآخرين:

تعدُّ اللمسات إحدى الطرائق الموصوفة لتجاوز مشاعر العزلة التي تسببها الأزمة الوجودية؛ فعلى سبيل المثال: يمكن أن يخفف تبادل العناق يومياً الإحساس بالقلق، ويعزز الإحساس بالانتماء.

أتت الفكرة من الأبحاث التي أُجرِيت على العلاقة بين الأمهات وأطفالهن، وكيف يحس الصغار بالانتعاش حينما يحسون بالدفء الجسدي الذي تقدمه لهم أمهاتهم.

ثمة العديد من الطرائق الأخرى للتعامل مع الإحساس الشديد بالحزن والاكتئاب الذي يرافق التغيرات الهامة التي تشهدها حياتنا، والأزمات الوجودية التي نحس بها؛ حيث يعدُّ كلٌّ من إشغال النفس، والمشاركة في تقديم يد العون إلى الآخرين، وتعلم فن التغاضي، وتركيز الاهتمام على لحظات الحاضر تقنيات رائعة تساعدك على الخروج من الكآبة التي ربَّما تحس بأنَّك حبيسها.

الفكرة الأساسية التي تقف خلف جميع هذه التقنيات هي العثور مرة أخرى على الأسباب التي تفسر وجودنا وإعادة التأكيد على النمو.

الجانب المشرق في الأزمة الوجودية:

طوَّر الطبيب النفسي البولندي المؤثر "كازيميرز دابروفسكي" (Kazimierez Dabrowski) في منتصف ستينات القرن العشرين نظرية أطلق عليها اسم "اللاتكامل الإيجابي" (Positive Disintegration)، حيث تعتمد هذه النظرية على فكرة أنَّ مشاعر القلق والحزن تعدُّ ضرورية للنمو والتطور.

ترتبط الجوانب الأخرى للنظرية بالأفراد الموهوبين، إذ يعتقد دابروفسكي أنَّ هؤلاء مختلفون ومميزون لأنَّهم حساسون وعاطفيون ومثقفون وحالمون وفضوليون ومعرضون إلى الإحساس بالقلق؛ ونتيجة لذلك، يعدُّ هؤلاء أكثر عرضة إلى المعاناة من الأزمات الوجودية والاكتئاب.

يؤكد دابروفسكي على أنَّ إمكانيات التطور لدى هؤلاء أكبر من غيرهم، ويعني هذا أنَّهم ينظرون إلى العالم من منظور مختلف؛ أي يفهمون أنفسهم والآخرين بصورة أفضل، ويحاولون فهم كل ما يحيط بهم؛ لكن في المقابل، يكون هؤلاء غالباً أشخاصاً وحيدين ومنعزلين، ولا تعرف أرواحهم الراحة.

لقد عانى العديد من الكتَّاب العظيمين من اضطرابات وجودية، ومنهم: إرنست هيمينغواي (Earnest Hemingway)، وفيرجينيا وولف (Virginia Wolfe)، وتشارلز ديكينس (Charles Dickens).

إنَّه لمن الواضح إذاً أنَّ هناك جانباً مشرقاً للمشاعر القاتمة التي ترافق الأزمات الوجودية، وأحد هذه الجوانب هو أنَّ التعرض إلى أزمة وجودية يعني أنَّك على الأرجح شخص موهوب وعقلاني وحساس جداً؛ لكنَّ الأهم من ذلك أنَّ هذه الحالة قابلة للعلاج، إذ ثمة طرائق عدة تستطيع اتباعها للتخلص من الكآبة التي تحس بها.

إقرأ أيضاً: 4 طرائق لتقضي مع أصدقائك أروع الأوقات

الخلاصة:

لا يعدُّ البحث الدائم عن معنى لكل ما نفعل عملاً هيناً، ومن الطبيعي أن تحس بالحزن حينما تضيِّع الطريق أو تُصاب بصدمة كبيرة أو تعاني خسارة فادحة، وأن تتمهل وتعيد تقييم حياتك حينما تواجه مثل هذه العواطف الدفينة والكئيبة؛ ذلك لأنَّ الألم هو الذي يزيدنا قوة ومرونة في أغلب الأحيان.

أيَّاً كانت التحديات التي قُدِّر لك أن تواجهها، فثمة دائماً سبب يدفعك إلى الاستمرار في المضي قدماً إلى الأمام؛ فكما يقول ألبرت آينشتاين (Albert Einstein): "ثمة سبب يفسر وجود الفضول في حياتنا".

في الحقيقة، لا يمكنك أبداً أن تعرف ما الأشياء المثيرة التي تنتظرك مستقبلاً، وهذا هو مكمن الجمال.

المصدر




مقالات مرتبطة