ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتبة كات نيلجان (Cat Neligan) والذي تحدثنا فيه عن الإبداع وكيف نكتسبه من خلال عدة طرائق.
على أي حال، الخبر السارُّ هو أنَّ الإبداع لا يأتي بالفطرة، وإنَّما يُكتسب؛ وكل واحد مِنَّا لديه القدرة على ابتكار أفكار رائعة وأن يكون أكثر إبداعاً.
وكما يقول أخصَّائي علم النفس ميهالي سيكسينتميهالي (Mihaly Csikszentmihalyi): "الإبداع هو أي عمل أو فكرة أو مُنتَج يغيِّر مجالاً موجوداً أو يحوِّله إلى مجال جديد".
إنَّ تعريف الإبداع واسع، ويذكِّرنا بأنَّه لا يقتصر على الفنانين أو الموسيقيين؛ ومع ذلك، فإنَّه يتطلب مِنَّا التأثير في المجال الذي نبدع فيه. كما يؤكد الإبداع أيضاً على القيم، حيث يقول المؤلف كين روبنسون (Ken Robinson): "الإبداع هو عملية الحصول على أفكار أصلية ذات قيمة"
وهذا التعريف يعوِّض ما افتقدته مقولة "سيكسينتميهالي"، فعلى سبيل المثال، يمكننا إجراء تغيير في العالم دون إضافة قيمة كبيرة؛ فأي عمل مدمر -مثل تحطيم النافذة- يحقق تغييراً، لكنَّه لا يؤدي بالضرورة إلى إحداث تغيير ذي قيمة.
باختصار، لا يوجد تعريف واحد للإبداع، فالأمر متروك لنا لإيجاد تعريف حقيقي ومفيد؛ فعندما تعرف ما هو معيارك، يكون من الأسهل بكثير تقبُّل الإبداع والبدء بتنميته.
وفي هذا المقال، ستتعلم كيف تكون أكثر إبداعاً، وتلقي نظرة فاحصة على مكونات المهارة الإبداعية:
1. تنمية التركيز:
يجب أن تركز على إبداع شيء ما لكي تبدع، سواء كان ذلك أغنية أم نظرية أم منتجاً أم منحوتة.
يمكنك أيضاً تسميته "الدافع"؛ وهو الشرارة الأولية التي تدفع باتجاه حل مشكلة ما، أو تعزز الرغبة في استخدام كمبيوتر محمول والبدء في الكتابة على سبيل المثال. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى مراحل مختلفة للعملية الإبداعية: المرحلة المتباعدة والمرحلة المتقاربة.
في المرحلة المتباعدة: نريد تركيزاً واسعاً بحيث نكون مستعدين للسماح بدخول كثير من المدخلات والأفكار والرؤى المختلفة؛ فهذا هو وقت العصف الذهني لجميع الأفكار والحلول الممكنة.
وفي المرحلة المتقاربة: نبدأ تقليص تركيزنا مثل عدسة الكاميرا، بحيث نركز على مجموعة من الأفكار أو الحلول، مع التمييز بينها خلال العملية.
شاهد بالفديو: 10 قواعد في الحياة للمحافظة على الدافع
كيف تنمِّي التركيز؟
اذهب في نزهة سيراً على الأقدام مدة 20 دقيقة: يعَدُّ السير على الأقدام ورفع معدل ضربات القلب أفضل أداة مجانية لاستعادة تركيزك.
أنا أعلم أنَّه قد يبدو من غير المنطقي أن تنال قسطاً من الراحة عندما تكون مشغولاً، وخاصة عندما تكون منهمكاً في تنفيذ بنود قائمة مهامك الضخمة، لكنَّ التأثيرات التي ستحدثها في صفاء ذهنك وقدرتك على التركيز لا يمكن إنكارها.
لقد تبيَّن فيزيولوجياً أنَّ المشي يخفف التوتر ويساعد على الصفاء الذهني؛ لذا إن جربت هذه التقنية، فستجد أنَّك أكثر إنتاجية ممَّا كنت عليه قبل أن تنال قسطاً من الراحة.
وبمرور الوقت، إذا كنت تمشي يومياً، ستجد سريعاً أنَّ قائمة مهامك أصبحت أقل أهمية بكثير، وأكثر قابلية للتنفيذ؛ إذ يتعلق الأمر كله بالحفاظ على تركيز شديد، وهذا ما ستهديك إياه النزهات اليومية القصيرة.
2. اتِّباع نظام محدد:
عندما أستيقظ في الصباح، أبدأ اليوم بوضع هيكلية معيَّنة في الاعتبار؛ إذ أعلم أنَّني سأخصِّص 15 دقيقة للتأمل، و30 دقيقة لتناول القهوة والقراءة، و20 دقيقة لليوغا وما إلى ذلك.
قد يكون النظام المُتَّبَع في هذا البرنامج الصباحي مملَّاً، ولكن يعَدُّ تنفيذ كل مهمة بحد ذاته أمراً مبدعاً على مستوى ما.
الهدف من الهيكلية أنَّها تمنحك المجال لتخصيص وقت لشيء تريد القيام به، وتساعدك على توفير الوقت للقيام بعملك الإبداعي، وبمجرد أن تبدأ هذا الشيء في حد ذاته، فأنت حر في القيام به كيفما تشاء.
قد نفقد التركيز دون هيكلية ونغرق في كثرة الاحتمالات؛ فما مدى سهولة الأمر عندما تُعطى بعض الإرشادات أو موعداً نهائياً؟
الحيلة تكمن في العثور على المقدار المناسب من الهيكلية لك ولاحتياجاتك الإبداعية؛ إذ نشعر بالإرهاق باستخدام هيكلية صغيرة جداً، ونشعر بالتقييد والكبت باستخدام هيكلية كبيرة جداً.
مرة أخرى، يجدر التفكير في الإبداع في هاتين المرحلتين: متباعدة (هيكلية أقل) ومتقاربة (هيكلية أكثر).
كيف تبني هيكلية؟
أنشئ روتيناً صباحياً: لا يجب أن يكون روتينك الصباحي صارماً أو شاقاً لدرجة أن تخشى الاستيقاظ، ففي الواقع، يجب أن تشعر على النقيض من ذلك؛ فعندما تحصل على روتين يناسبك، سوف تتطلع إلى بدء اليوم.
لدينا جميعاً احتياجات وتفضيلات مختلفة يمكنها تشكيل روتيننا المثالي؛ فمن خلال كتاب المؤلف ماسون كيري (Mason Currey) "الطقوس اليومية: كيف يعمل الفنانون" (Daily Rituals: How Artists Work) يمكنك أن تستلهم أكثر من 160 روتيناً يومياً مختلفاً للمبدعين، من تشارلز داروين (Charles Darwin) إلى بابلو بيكاسو (Pablo Picasso).
جرِّب أي شيء قد يروق لك، وانظر كيف يكون شعورك مع قليل من الهيكلية تبدأ يومك بها.
3. البحث عن الدافع:
تَذكُر إحدى النظريات أنَّ الناس يكونون أكثر إبداعاً عندما يشعرون بالدافع، وذلك من خلال الاهتمام بالعمل نفسه ومشاعر الرضا والتحدي التي يثيرها فيهم، وليس من خلال الضغوط الخارجية؛ هذا ما يُعرف باسم الدافع الجوهري، وهو دافع يأتي من الداخل.
فكِّر في وقت أنجزت فيه أفضل أعمالك؛ لابدَّ من أنَّك كنت مستغرقاً تماماً فيما كنت تفعله، دون الاكتراث بأي شيء آخر، فقد كان تركيزك على العمل نفسه، وبالكاد لاحظت الوقت يمضي.
فكِّر الآن في وقت شعرت فيه بالضغط من أجل الأداء؛ ربما كان امتحاناً، أو تلبية طلب لعميل مهم، أو ربما أخبرك رئيسك في العمل: "يتوقف الكثير على هذا الأمر".
هل لاحظت الفرق؟ لقد كنت في الموقف الأول مدفوعاً بدافع جوهري، مما جعل تحليك بكثير من الإبداع أمراً سهلاً نسبياً، وحتى ممتعاً.
لكن في الموقف الثاني، كان الدافع الخارجي -غير الجوهري- هو المسيطر عليك والمشتت لانتباهك عن طريق همسه لك حول مكافآت النجاح وعواقب الفشل الوخيمة؛ مما جعل التركيز في المهمة التي تقوم بها أكثر صعوبة.
لهذا السبب، إنَّ الدافع الجوهري -إن أمكنك العثور عليه- هو ما يميز العمل الجيد من العمل الإبداعي العظيم.
ولكن هذا لا يعني مطلقاً أنَّ الدوافع الداخلية هي التي تساعد فحسب؛ فأنا شخصياً أحصل على حافز بتناول القهوة في المقهى المفضل لدي لإغراء نفسي بالعمل؛ فهذا سيجعلني مستعداً للكتابة أو التنقيح أو أي شيء كنت أتجنبه.
كيف تجد الدافع؟
كن على تماس مباشر مع الغاية.
الغاية هي وقودك: الشيء الذي يدفعك إلى الأمام، ويثير فيك الرغبة في أداء عملك.
وكما يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzche): "من لديه غاية للعيش يمكنه تحمُّل أي شيء تقريباً".
عندما يكون لديك رغبة في فعل شيء ما أو غاية أو هدف يهمك، يمكنك ربط أفعالك اليومية به. بعد ذلك، يصبح كل فعل مشبعاً بالمعنى، وتجد أنَّ الدافع الداخلي يأتي بشكل طبيعي.
الحيلة هي أن تتذكر غايتك وتتواصل معها بانتظام.
فكِّر فيما تريد أن تشعر به يومياً، وما الذي ترغب في تحقيقه العام القادم؟ وماذا تريد لنفسك في السنوات الخمس المقبلة؟ وماذا تريد في حياتك؟
في نهاية المطاف، سوف ترتبط المهام -أو بعضها على الأقل- التي تواجهها يومياً بهدف أكبر إذا اتَّبعت هذا المسار، وستجد أنَّك أكثر تحفزاً للإبداع، وستواجه مقاومة أقل.
4. اكتساب الخبرة في مجال معين:
أظهرت الأبحاث أنَّ الخبرة في مجال ما لا تعني الخبرة في مجالات أخرى مختلفة؛ وأنَّ الإبداع في مجال ما لا يعني كذلك الإبداع في مجالات أخرى غير ذات صلة.
فالقدرة على رسم صورة جميلة، لا تعني أنَّ في إمكانك حل مشكلة رياضية بإبداع.
إذا كنت قد أجريت أحد اختبارات التفكير الإبداع، مثل اختبارات تورانس (Torrance) التي تطلب إليك التفكير في عدد هائل من استخدامات قلم الرصاص- وحصلت على درجات جيدة؛ فهذا لسوء الحظ مجرد مؤشر على مهارات التفكير المتباعدة، وليس مؤشراً شاملاً للإبداع.
الخبر السارُّ أنَّه يمكنك تدريب إبداعك في المجال الذي تختاره، تماماً كما يحدث عندما تريد تقوية عضلة معينة، فإنَّك تختار تمريناً معيَّناً دون باقي التمارين.
بالطبع لا يزال بإمكانك أداء تمرين كامل للجسم، أو "تمرين إبداعي كامل"، ولكن هذا يعني أنَّ تمارين التدريب على الإبداع يجب أن تأتي من مجموعة متنوعة من المجالات، وليس مجرد التفكير في استخدامات قلم رصاص.
كيف تصبح خبيراً؟
ضع خطة تدريب تُعينك على الإتقان: يُمكن تشبيه الإبداع بالتمرين البدني، إذ من الجدير تطبيق عادات الرياضيين العظماء في المجال الإبداعي الذي اخترته؛ فمثلاً:
- حدِّد المجال/ المجالات التي تريد العمل عليها: تماماً مثل لاعب التنس الذي يقرر أنَّه بحاجة إلى تحسين أسلوبه في الإرسال، يمكنك تحديد المنطقة التي تريد تحسينها ضمن مجالك الإبداعي؛ لذا كن محدداً.
-
حدِّد مقدار الوقت الذي يمكنك تخصيصه: لا يملك معظمنا كامل اليوم للتدرب مثل لاعب التنس المحترف، ولكن يمكنك أن تضغط على نفسك وتخصِّص من 20 إلى 30 دقيقة في اليوم، إذا أردت ذلك؛ ومهما كان الوقت الذي يمكنك تخصيصه، قرِّر أن تكرِّس نفسك فيه للنشاط الذي تقوم به.
-
قيِّم تقدمك: أخيراً، يمكنك للتحقق من تقدمك إجراء مراجعات دورية؛ حدِّد المقاييس التي تريد اعتمادها، وخصِّص وقتاً كل أسبوع للتحقق مع نفسك.
كم يوماً مارست نشاطك؟ ما هو مقدار تقدمك مقارنة بالأسبوع الماضي؟ قد يساعدك هذا النوع من المراجعة في البقاء على المسار الصحيح، وفي الحقيقة سيخلق مزيداً من الدوافع الجوهرية بينما ترى نفسك تتطور.
5. إيجاد بيئة مواتية:
أشار أحد علماء النفس في عام 1943 إلى أنَّ السلوك يتوقف على الفرد الذي يمارسه، والبيئة المادية التي يُمارَس فيها.
أودُّ أن أقترح أنَّ الإبداع هو سلوك، وعلى الرغم من أنَّه يبدأ كعملية داخلية، إلَّا أنَّه يتأثر تأثراً بالغاً في البيئة التي نعيش فيها، بل ويعتمد عليها.
بدأت ألاحظ كيف تؤثر البيئة فيَّ عندما أعمل في المكتب، وبمرور الوقت أدركت أنَّه كلما ازداد عدد الأشخاص المتواجدين أو الذين يتحدثون، ازداد تشتيت انتباهي، وعندما كنت أصل إلى المكتب مبكراً قبل وصول زملائي في العمل، كنت أكثر فاعلية بمعدل الضعف.
وكذلك كنت أكثر فاعلية في المنزل، والآن بما أنَّني أعمل من المنزل، أعلم أنَّني أكثر فاعلية عندما أكون في بعض المقاهي، خاصة تلك ذات الأسقف العالية والإضاءة اللطيفة وبعض الموسيقى الخلفية الهادئة، بالإضافة إلى القهوة الممتازة.
هذه الاختلافات الصغيرة في بيئتنا هي التي يمكنها حقاً تحديد شكل إنتاجنا الإبداعي.
إن كنت انطوائياً، فمن المحتمل أنَّك تقوم بأفضل أعمالك بمفردك، أمَّا إن كنت اجتماعياً، فمن المحتمل أنَّك تقوم بأفضل أعمالك بصحبة الآخرين.
هذا لا يعني أنَّه يجب عليك إيجاد طريقة واحدة للقيام بالأمور والالتزام بها؛ في الواقع، يعَدُّ تغيير بيئتك من وقت لآخر طريقة رائعة في تحفيزك على الإبداع.
كيف تخلق بيئة مواتية؟
أضف بعض المحفِّزات وتخلَّص من بعضها الآخر: لقد تبيَّن أنَّ التجديد في بيئتنا يحفِّز إفراز الدوبامين (dopamine)، وهو ناقل عصبي يزيد رغبتنا في البحث عن المكافأة.
فإذا كنت تبحث عن دافع إبداعي، أضف بعض التجديد إلى بيئتك فقد يكون ذلك ما تحتاجه تماماً.
من ناحية أخرى، إنَّ بعض الأشخاص حساسون للغاية عندما يتعلق الأمر بوجود كثير من التحفيز في بيئتهم؛ إذ يجدون صعوبة في التركيز.
جرِّب العمل في بيئات مختلفة، ولاحظ كيف تشعر، وانظر فيما إن كنت تقوم بعمل إبداعي أفضل أو لديك أفكار أكثر إثارة عندما تكون بمفردك أو مع الآخرين. وجرِّب الاستماع إلى الموسيقى، أو التحاور مع الناس، أو حاول البقاء في صمت مطبق، وجرِّب العمل في غرفة مضاءة بشكل خافت تارة، وفي ضوء الشمس الساطع تارة أخرى.
وفي كل حالة، لاحظ ما تشعر به قبل وفي أثناء وبعد ذلك؛ وقيِّم جودة عملك.
في الختام:
الإبداع ليس مهارة أو موهبة معيَّنة يمكن للمرء أن يمتلكها؛ إنَّما يأتي بأشكال متعددة ومتنوعة.
اتخذ خطوات صغيرة كل يوم لتكون أكثر إبداعاً، وتعرَّف على المكان والوقت اللذين تشعر فيهما بالإلهام والتحفيز والأصالة، وابذل مزيداً من الطاقة في تلك المجالات التي تود الإبداع فيها.
أضف تعليقاً