عند الاطِّلاع على تاريخ علم الشخصية وأحدث الأبحاث والمراجع، وإجراء مقابلات مع محترفين في هذا المجال، يمكن القول إنَّ الانطوائيين يحملون ثلاث صفات رئيسة:
- ينشئون عالماً عميقاً وغنياً في ذهنهم ويعيشون فيه.
- يفضِّلون العزلة على البيئات المزدحمة.
- يستمتعون بالعلاقات مع الناس، لكن يفضِّلون تكوين علاقات عميقة مع عدد محدود.
لكنَّ اختزال نمط الشخصية هذا بالكامل إلى ثلاث نقاط فقط لا يكفي لشرح كل السِمات المعقَّدة والرائعة للانطوائيين؛ لذا سنقدِّم في هذا المقال نظرةً عميقةً شاملةً عمَّا يعنيه أن تكون انطوائياً، وكيف يؤثر ذلك في حياتك اليومية.
لمحة عن تاريخ الانطوائية:
تصنيفات "كارل يونغ" (Carl Jung) لأنماط الشخصية:
ربما تكون الخطوة الأولى للإجابة عن سؤال "من هو الانطوائي؟" هي أن نفهم جذور الكلمة ومفهومها، وكيف أصبحت ما هي عليه اليوم؛ فعند النظر إلى تاريخ العلم، ستجد أنَّ نظرية الانطواء هي نظرية حديثة العهد، لم يمضِ عليها أكثر من قرن تقريباً؛ إذ طرحها عالم النفس السويسري "كارل يونغ" (Carl Jung)، الذي درس خصائص الأفراد وكيفية تفاعلهم مع العالم، ويظنُّ "يونغ" أنَّ نمط الشخصية يستند إلى تفضيلات الفرد في أربع نواحٍ:
- العالم (داخليَّاً كان أم خارجيَّاً).
- معالجة المعلومات.
- اتخاذ القرار.
- الهيكل.
إذ يُنظَر إلى الانطوائية غالباً على أنَّها تفضيل لنوع البيئة الاجتماعية، لكنَّ "يونغ" عرَّفها على أنَّها ميل الفرد الطبيعي لتركيز طاقته على عالمه الداخلي؛ وهذا يعني أنَّ الانطوائيين يميلون إلى قضاء كثير من الوقت في التفكير، والقيام بنشاطات فردية؛ وذلك لأنَّ هذا هو ما ينشِّطهم.
لقد نشر "يونغ" في عام 1921 كتابه "الأنواع النفسية" (Psychological Types)، الذي يحتوي على وصف تفصيلي لنظرية الشخصية التي طرحها، والتي أصبحت الأساس لعديد من اختبارات الشخصية التي تجدها على الإنترنت اليوم.
ملاحظة: في الستينيات، ابتكر عالم النفس "هانز آيسنك" (Hans Eysenck) نظرية مماثلة عن الشخصية الانطوائية والاجتماعية، تقوم على أساس الاعتقاد بأنَّ البيئة التي تحفِّز الانطوائيين جداً لا تحفِّز الاجتماعيين بما يكفي، وتشرح هذه النظرية لماذا يميل الانطوائيون إلى الشعور بالارتباك بسهولة في بيئة مزدحمة، في حين يشعر الاجتماعيون بالملل في بيئة هادئة.
اختبار "مايرز بريجز" (The Myers-Briggs Test):
بعد اكتشاف الأنواع النفسية، تأثرت "إيزابيل مايرز" (Isabel Myers) بنظرية الشخصية لـ "يونغ"، وقررت متابعة عمله، وبعد سنوات من الدراسة وأخذ الملاحظات طوَّرت "مؤشر مايرز بريجز لنوع الشخصية" (Myers-Briggs Personality Type Indicator)، لكي يتمكن الناس من فهم خصائصهم الشخصية، ومن ذلك الانطوائية والاجتماعية، وتحديداً للنساء اللواتي دخلن سوق العمل لأول مرة خلال الحرب العالمية الثانية.
بعد ذلك، أصبح اختبار "مايرز بريجز" متاحاً على نطاق أوسع للجمهور، ومنذ ذلك الحين أجراه الملايين لفهم شخصياتهم بطريقة أفضل.
كتاب "هدوء" (Quiet):
على الرَّغم من كون اختبار "مايرز بريجز" متاحاً للعامة، كان الناس يسيئون فهم الانطوائية إلى حد كبير، ونادراً ما تطرَّقوا إلى بعض جوانب هذه الشخصية لعقود من الزمن؛ أي كانت المفاهيم الخاطئة عن الانطوائيين شائعة، وتفاقم ذلك بسبب كون المجتمع الأمريكي اجتماعياً جداً.
إلى أن بدأ مفهوم الانطوائيين يتغيَّر يعد أن نشرت "سوزان كاين" (Susan Cain) - في سعيها إلى نشر الوعي بالانطوائية - كتابها "هدوء" (Quiet)، الذي حقق ثورة في تقبُّل وفهم الانطوائية؛ إذ يُعَدُّ الكتاب وموقعه الإلكتروني "ثورة هادئة" (Quiet Revolution) من بين عديدٍ من الأعمال عن الانطوائية في السنوات الأخيرة التي ساعدت المجتمع على فهم نمط الشخصية الذي لطالما كان محطَّ سوء فهم هذا.
شاهد بالفديو: صفات الشخصية الانطوائية وكيفية التعامل معها
أهم المفاهيم الخاطئة عن الانطوائيين:
أصبح المجتمع اليوم أكثر وعياً بالانطوائية من أي وقت مضى، ولكنَّنا نستمر في إساءة فهم الانطوائيين بسبب الاعتقادات الخاطئة عنهم، مثل: أنَّهم خجولون، أو غير اجتماعيين إلى حدٍّ ما
إليك أهم اعتقادين خاطئين عن الانطوائيين:
1. الانطوائيون خجولون:
عندما يفكِّر الناس في الانطوائيين، غالباً ما يتخيَّلون أفراداً خجولين جداً؛ إذ إنَّهم يخشون مقابلة أشخاص جدد، ويواجهون صعوبة في إجراء المحادثات، ولكنَّ هذا المفهوم الخاطئ هو أحد الأسباب الرئيسة التي تؤدي إلى النظر إلى الانطواء أحياناً على أنَّه عيب في الشخصية، وليس نمطاً طبيعياً للشخصية، فلا أحد يريد أن يوصف بأنَّه خجول أو غير اجتماعي.
وأساس الاعتقاد هو أنَّ احتمال كون الانطوائيون خجولين أكبر من احتمال كون الاجتماعيون كذلك، ولكنَّ هذان الأمران ليسا مترابطين، فالخجل نوع من الرهاب الاجتماعي.
وَفقاً لـ "سوزان كاين": "الخجل هو الخوف من أن يحكم عليك الناس حكماً سلبياً، في حين الانطواء هو بسهولة تفضيل التعرض لمحفزات أقل"؛ بمعنى آخر، الخجل هو السِمة السلبية التي تجعل الناس يخافون من التفاعل مع الآخرين، وليس الانطواء.
لكن ماذا يعني "تفضيل التعرض لمحفزات أقل"؟ لفهم هذه العبارة، تخيَّل أنَّك تعمل مبكِّراً وأنت جالس وحدك في مكتبك، الجو هادئ ولا شيء يشتِّت انتباهك، فهذه بيئة منخفضة التحفيز، وعلى العكس من ذلك، تخيَّل أنَّك وصلت للتو إلى مؤتمر يضم مئات الأشخاص، وأنت محاط بالعشرات من المحادثات، وثمَّة مَن يتكلَّم عبر مكبر الصوت، ويلقي عليك شخص ما معلومات عن المؤتمر، وتحاول العثور على زميل من العمل، فهذه بيئة عالية التحفيز؛ وذلك لأنَّ عديداً من الأشياء المختلفة تسترعي انتباهك، ويجب عليك أن تستثمر كثيراً من الطاقة الذهنية للتركيز.
فعندما نقول إنَّ الانطوائيين "يفضلون قدراً أقل من التحفيز"، فهذا يعني أنَّهم يشعرون في مكتبٍ هادئ براحةٍ أكبر من التي يشعرون بها في مؤتمر مزدحم، ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ الانطوائيين يكرهون بطبيعتهم البيئات المزدحمة، مثل الفعَّاليات الكبيرة؛ إذ يستمتع كثيرون بها، ولكنَّها متعبة بالنسبة إليهم؛ وذلك لأنَّها لا تتوافق مع تفضيلهم الطبيعي.
2. الانطوائيون معادون للمجتمع:
للانطوائيين سمعة مؤسفة أُخرى بأنَّهم معادون للمجتمع، وفي بعض الأحيان يكون التصور عنهم أكثر سلبية؛ إذ يَعُدُّهم بعض الناس وقحين أو متعجرفين، لعدم رغبتهم في المشاركة في النشاطات الاجتماعية، وهذا يدفع الاجتماعيين والانطوائيين أنفسهم إلى الاعتقاد أنَّه يوجد خَطْب ما في الانطوائيين بسبب رغبتهم في قضاء الوقت وحدهم.
تقدِّم الممثلة "إيما واتسون" (Emma Watson) مثالاً قوياً عن هذا الاعتقاد الخاطئ، بصفتها ممثِّلة ومُتحدِّثة باسم الأمم المتحدة، وتتلقَّى الدعوات باستمرار إلى الحفلات والمناسبات الاجتماعية، ولكنَّها في مقابلة لها، وضَّحت لمجلة "روكي" (Rookie) أنَّها تفهم معنى الانطوائية كالآتي: "لا بدَّ من أنَّ لدي خطباً ما؛ لأنَّني لا أريد الخروج والقيام بما يريد جميع أصدقائي القيام به".
فإذا كنت انطوائياً، فمن المحتمل أنَّك عانيت من نفس تلك الأفكار والشكوك عند مقارنة نفسك بأصدقائك وزملائك الاجتماعيين، والحقيقة هي أنَّ الانطوائيين ليسوا معادين للمجتمع، والرغبة في الوحدة ليست شيئاً يستدعي الخجل، فحاجة الانطوائيين إلى أن ينفردوا بأنفسهم ليس لأنَّهم لا يحبون الناس، لكن لأنَّ المواقف الاجتماعية تستهلك طاقتهم، ويحتاجون بعدها إلى استعادة طاقتهم
لفهم قدرة الانطوائيين على خوض التفاعلات الاجتماعية بشكل أفضل، فكِّر في الطاقة الاجتماعية المحدودة للانطوائيين، مثل الطاقة البدنية، فإذا كنت تعمل في وظيفة تتطلَّب جهداً بدنياً، فمن المحتمل أن تكون متعباً بحلول نهاية اليوم، وستكون منهكاً بحلول نهاية الأسبوع، وعندما تفقد الطاقة، لن تشعر بالحافز لممارسة الرياضة أو العمل على المشاريع الشخصية.
يعاني الانطوائيون من خسارة مشابهة للطاقة عند خوض التفاعلات الاجتماعية، وبعد قضاء اليوم كله محاطين بزملاء العمل ورؤية الأصدقاء في المناسبات الاجتماعية على مدار الأسبوع، لن يكون لديهم الطاقة للخروج مع مجموعة من الأشخاص في عطلة نهاية الأسبوع؛ بل يحتاجون إلى قضاء بعض الوقت وحدهم لإعادة شحن مخزون طاقتهم الاجتماعية.
علم الانطواء:
أصبح لدينا فكرة عمَّا لا يعنيه الانطواء، لنستكشف ما يعنيه الآن؛ إذ تُظهِر عقود من البحث أنَّ الانطواء هو أكثر من مجرد تفضيل اجتماعي أو سِمة شخصية؛ فتوجد اختلافات جسدية بين العقول والأنظمة العصبية للأشخاص الانطوائيين والاجتماعيين، تفسِّر سبب تفضيل الانطوائيين قضاء الوقت في قراءة كتاب، أو مشاهدة فيلم في العطلة، في حين يرغب الاجتماعيون في حضور حفلة.
الاجتماعيون والدوبامين:
نستمتع نحن البشر بالمكافآت، سواء كانت على شكل طعام أم مال أم كأس في مسابقة، ونتحمَّس لمجرد توقُّع مكافأة خارجية، ويسبِّب هذه المشاعر ناقلٌ عصبي يسمى "الدوبامين"، وهو الذي يشجِّعك على الخروج والاحتفال كل عطلة، ثمَّ يكافئك بفيض من المشاعر المُمتعة، فكل شخص لديه نفس الكمية تقريباً من الدوبامين، ولكنَّنا لا نستجيب له جميعاً بنفس الطريقة.
وَفقاً للدكتور "سكوت باري كوفمان" (Scott Barry Kaufman) المدير العلمي في "معهد إماجينيشن" (Imagination Institute)، يستجيب الاجتماعيون استجابةً أقوى للدوبامين من الانطوائيين، فعندما تتاح للاجتماعيين فرصة الحصول على مكافأة، مثل: الخروج مع الأصدقاء أو تنظيم حدث، تتنشَّط لديهم أجزاء الدماغ التي تحتوي على الدوبامين، وترتفع طاقتهم، فيتحمَّسون على أمل الحصول على تلك المكافأة.
ومن ناحية أُخرى، يُبدي الانطوائيون استجابة أقل إيجابية للدوبامين؛ وذلك لأنَّهم أكثر حساسية، ويمكن أن يسبِّب القليل منه بفرط في التحفيز، وهذه إحدى أسباب شعور الانطوائيين بالقلق في المواقف الاجتماعية التي يجد الاجتماعيون فيها متعة.
ملاحظة: أجرى الباحثون دراسة أظهرت أنَّ اللوزة والنواة المتَّكئة في أدمغة الاجتماعيين تنشط أكثر عندما يراهنون، وتشير هذه النتيجة إلى أنَّ احتمال متابعة الاجتماعيين في تحديات محفوفة بالمخاطر أكبر؛ وذلك لأنَّ أدمغتهم تستجيب للنجاح بإيجابية أكبر من الانطوائيين في نفس التجربة.
الانطوائيون والأسيتيل كولين:
نعلم أنَّ أدمغة الانطوائيين عند تعرُّضهم للتحفيز العالي تفرز الدوبامين، وهو أمر لا يناسبهم، ولكنَّ المادة الكيميائية التي تناسبهم هي الأسيتيل كولين.
على عكس الدوبامين الذي يسبِّب الحماسة تجاه المكافآت الخارجية؛ إذ يمنحك الأسيتيل كولين شعوراً ممتعاً عند التركيز على الداخل، وهو ما يفضِّله الانطوائيون؛ ولهذا، يستمتع الانطوائيون بأحلام اليقظة، فالسعادة التي يشعرون بها من التفكير تشبه السعادة التي يشعر بها الاجتماعيون في غرفة مزدحمة؛ إذ تشرح هذه الاستجابات الكيميائية كثيراً من أسباب تفضيل أنماط الشخصيات المختلفة للنشاطات المختلفة.
فقد ينشط دماغ الاجتماعيين استجابةً للدوبامين؛ لذلك، يتحمَّسون للمواقف الاجتماعية المحفِّزة جداً، مثل الحفلات، فالمكافأة التي تحفِّز الدوبامين هي مقابلة أشخاص جدد، وكلما زاد عدد الاجتماعيين، زادت قوة الاستجابة الممتعة في أدمغتهم، وهذا يدفعهم إلى أن يختلطوا بالآخرين أكثر، ولكنَّ استجابة الانطوائيين تنشط عندما يحفِّزها الأسيتيل كولين، الذي يحصل حين يركِّزون أفكارهم على النفس.
نصيحة: من الطرائق التي يمكن للانطوائيين من خلالها تحفيز إفراز الأسيتيل كولين في أدمغتهم في الفعاليات الاجتماعية، هي الانخراط في محادثات هادفة مع شخص واحد أو شخصين فقط؛ إذ تحثهم المناقشات العميقة والحميمة مع الناس على التركيز على أفكارهم والتوصل إلى ردود ذكية.
ملاحظة: الأسيتيل كولين مسؤول أيضاً عن تنشيط الجهاز العصبي السمبتاوي الذي يؤدي إلى دخول الجسم في حالة من الهدوء، وحفظ الطاقة في المواقف العصيبة، وقد يكون هذا هو السبب في ميل الانطوائيين إلى التعامل مع النزاعات بهدوء أكثر.
الاختلافات الجسدية:
الناقلات العصبية ليست وحدها التي تفسِّر الاختلافات بين الانطوائيين والاجتماعيين؛ إذ اكتشف العلماء اختلافات في بنية الدماغ، قد تكون مسؤولة عن بعض الصفات الرئيسة للانطوائيين.
لقد حاولت مجموعة من الباحثين اكتشاف سبب كون بعض الأشخاص اجتماعيين أكثر من غيرهم من خلال قياس استجابة دماغهم لصور الوجوه البشرية والزهور، ووجدوا أنَّ الاجتماعيين أظهروا استجابات أقوى بكثير لصور الوجه من صور الزهور.
لكنَّ الانطوائيين كان لديهم استجابة متماثلة القوة لكل من الزهور والوجوه البشرية، وهذا يشير إلى أنَّ الوجوه البشرية ليست مثيرة للاهتمام إثارةً خاصةً للانطوائيين مقارنة بالاجتماعيين؛ وهذا قد يفسِّر سبب عدم تحمُّس الانطوائيين لمقابلة وقضاء الوقت مع الناس مثل الاجتماعيين.
ملاحظة: وجد الباحثون اختلافاً جسدياً آخر في الانطوائيين، وهو أنَّ كمية المادة الرمادية في قشرة الفص الجبهي المسؤول عن اتخاذ القرار لديهم أكبر؛ وهذا قد يفسِّر سبب تفكير الانطوائيين أكثر عند اتخاذ القرارات والمُتعة التي يجدونها في التفكير.
شاهد بالفديو: 8 أمور يقوم بها الأشخاص الاجتماعيون على نحو مختلف
صفات الانطوائيين:
بعد أن فهمت الانطوائية، إليك بعض الخصائص الأساسية التي يجب البحث عنها، لتحديد ما إذا كنت أنت أو أي شخص تعرفه انطوائياً:
1. الاستمتاع بالعمل الفردي:
لأنَّ الوجود حول الناس يستنزف طاقة الانطوائيين، فلا عجب أنَّهم يستمتعون بالعمل وحدهم، فالعمل وحدهم ضرورة بالنسبة إليهم، ليكونوا منتجين، وليس مجرد تفضيل؛ ففي مقابلة مع "جينيفر كانوايلر" (Jennifer Kahnweiler) مؤلِّفة ثلاثة كتب عن الانطوائيين، والحاصلة على دكتوراه في علم النفس الإرشادي عن الانطوائيين في مكان العمل، قالت: من أعظم نقاط قوة الانطوائيين في العمل هي قدرتهم على قضاء وقت هادئ.
عندما تفكِّر في مقدار تركيز معظم المدارس والشركات على العصف الذهني والتعاون، فقد لا يبدو العمل الفردي نقطة قوة، لكن لا ينبغي الاستهانة به؛ إذ تقول "كانوايلر" إنَّ القدرة على الإبداع تحدث عندما نتأمَّل جيداً ونقضي وقتاً في ذهننا.
فالتفكير بتمعُّن سهل بالنسبة إلى الانطوائيين؛ وذلك لأنَّهم يقضون كثيراً من الوقت في التفكير، ويسمح لهم تفضيلهم للعمل وحدهم بالوصول إلى حلول إبداعية، وإنتاج أعلى مستويات الجودة؛ وهذا قد يفسِّر سبب كون العديد من المبدعين انطوائيين أيضاً.
لقد كتب "ستيف وزنياك" (Steve Wozniak) المؤسِّس المشارك لشركة "آبل" (Apple) في سيرته الذاتية "آيووز" (iWoz): "معظم المخترعين والمهندسين الذين قابلتهم يشبهونني؛ خجولون ويعيشون في عوالمهم الداخلية، ويعملون عملاً أفضل عندما يكونون وحدهم".
مع أنَّ "وزنياك" ليس خبيراً في الانطوائية مثل "كانفايلر"، ولكنَّه أدرك أنَّ الانطوائيين قادرون على تقديم أفضل النتائج عندما يعملون في بيئات هادئة وخالية من التحفيز المُشتت وبعيداً عن ضغط الأقران في المجموعات.
تؤكد "كانفايلر" أنَّك إذا كنت تفكِّر في الأشخاص على أنَّهم بطاريات، فإنَّ الانطوائيين يشحنون طاقتهم عند جلوسهم وحدهم، وينسحبون إلى عالمهم الداخلي في جوٍّ من الهدوء؛ أي يفضِّل الانطوائيون قضاء الوقت وحدهم في العمل؛ لأنَّ ذلك ينشطهم.
لا يعني تفضيلهم العمل وحدهم أنَّهم لا ينجحون في بيئات المجموعات، مثل: الاجتماعات، أو الفعاليات الاجتماعية، لكن حين يميل الاجتماعيون إلى التحدث كثيراً وبصوت مرتفع، يفكر الانطوائيون بعناية في أفكارهم قبل مشاركتها، ويمكن أن يكون ذلك أعظم نقاط قوَّتهم.
تقول "كانفايلر": "سيكون لك تأثير أكبر عندما تكون هادئاً وتطرح وجهات نظرك بطريقة مختلفة"، وقد تظنُّ أنَّ مفتاح التحدث بفاعلية هو التحضير، فإذا أعدَّ الانطوائيون أجزاءً ممَّا يتعيَّن عليهم قوله مسبقاً، فسيشعرون بأنَّهم جاهزون عندما يحين وقت التحدث، وسيثيرون إعجاب الآخرين بأفكارهم.
2. التركيز على الأفكار:
هل تساءلت يوماً لماذا يواجه الانطوائيون صعوبة في الدردشات، لكن ليس لديهم مشكلة في خوض نقاش عن القضايا العميقة أو المثيرة للجدل؟ أو لماذا يفضِّلون الانخراط في نشاطات فردية، بدلاً من النشاطات الاجتماعية؟ ذلك لأنَّ الانطوائيين يهتمون أكثر بالأفكار.
تذكَّر: تستجيب أدمغة الانطوائيين للوجوه البشرية، كما تستجيب للزهور أو الأشياء الأخرى، مثل: الفطائر أو القطط أو غيرها؛ أي لا يشد الناس انتباههم.
يقرِّر الانطوائيون وَفق كل حالة، موضوع المحادثة أو النشاط المثير للاهتمام، وبالنسبة إلى معظمهم، لا تُعَدُّ الدردشات كذلك، فقبل أن تقول إنَّهم قساة القلب، فكِّر في فائدة ميلهم ذلك على الاتصال البشري، فحين يبحثون عن المحادثات والنشاطات التي تركِّز على موضوعات أعمق، مثل: الأهداف، والأفكار، والمشاعر المعقدة، سيشكلون روابط وعلاقات أعمق أيضاً.
رائد الأعمال "إيلون ماسك" (Elon Musk) هو مثال عن الانطوائي الذي يستثمر دائماً في الأفكار العميقة؛ إذ يُدير "ماسك"، الذي يصف نفسه بأنَّه "مهندس انطوائي"، شركتَي "سبيس إكس" (SpaceX) و"تسلا موتورز" (Tesla Motors)، وهما شركتان ثوريتان أنشأهما بعد مشاركته في تأسيس "بايبال" (PayPal) وهو أول نظام دفع من نظير إلى نظير ناجح في العالم.
وتتطلَّب تأدية هذه الأدوار التزاماً، وتضحية لا يُصدقان من ناحية "ماسك" في تحديد أولويات وقته، وقد قطعت كلتا الشركتين طريقاً طويلاً جداً لتحقيق النجاح، وتطلَّب ذلك وقتاً أطول ممَّا يمكن أن يلتزم به معظم الناس، فلم يكن حافز "ماسك" لفعل كل ذلك هو المكافآت الخارجية، مثل: الشهرة أو الثروة؛ بل ينصب تركيزه على أحلامه الأيديولوجية، وهو أمر يمتلكه الانطوائيون بوفرة.
ففي الحياة الاعتيادية، يمكنك أن تلاحظ مثالاً عن افتتان الانطوائي بالأفكار لدى الطالب الهادئ الذي يتنشط عندما يبدأ فصله المفضَّل، مثل: الفن أو العلوم، أو ربما لديك صديق على الرَّغم من معاناته مع الدردشات، فهو متحدث رائع في موضوعات أعمق، ويعمل دائماً على مشاريع شخصية.
لا يعني ذلك أنَّ الانطوائيين يتجنَّبون الاتصال تماماً، ويستطيع الاجتماعيون أن يلتزموا بأهدافهم الأيديولوجية مثل أي انطوائي، لكنَّ تفضيلاتهم تختلف، فإذا أخبرت شخصاً انطوائياً، وشخصاً منفتحاً أنَّ عليهما الدردشة مع الناس أو التفكير، فيمكنك تخمين مَن سيتطوع لكل مهمة.
3. تفضيل امتلاك أصدقاء مقربين وليس الكثير من الأصدقاء:
متى كانت آخر مرة ذهبت فيها إلى حفلة؟ الأسبوع الماضي؟ الشهر الماضي؟ منذ وقت أطول؟ ربما تعتمد إجابتك على ما إذا كنت انطوائياً أم لا؛ فبالنسبة إلى الانطوائيين الذين يفضِّلون العزلة، قد تكون إدارة التفاعلات الاجتماعية مهمة صعبة، وفي كثير من الأحيان، قد يشعرون بأنَّهم مضطرون لقضاء الوقت في مجموعات انصياعاً لرأي المجتمع في حين يخبرهم حدسهم بالبقاء في المنزل.
فقد يتعب الانطوائيون من التفاعلات الاجتماعية، وينهكون أنفسهم إذا كانت حياتهم تدور عن الناس، ولكنَّهم يُقدِّرون العلاقات، ولا يريدون أن يكونوا وحدهم طوال الوقت؛ ولهذا، يستثمر معظمهم طاقتهم الثمينة في علاقاتهم مع الأصدقاء المقربين والعائلة.
مثلما يُقدِّر الانطوائيون الوقت الذي يقضونه في عالمهم الداخلي، يستمتعون أيضاً بالتواصل مع الناس على نحو هادف؛ أي يفضِّل الانطوائيون استثمار وقتهم في بناء علاقات وثيقة وتقويتها، للتواصل الاجتماعي بطرائق تتناسب مع قوَّتهم الطبيعية المتمثلة في الإصغاء والتفكير العميق دون ضغوطات الدردشة مع مجموعة كبيرة من الناس، فهم يستمتعون في بعض الأحيان بالتفاعلات في المجموعات الكبيرة، ولكنَّهم عموماً يفضِّلون المجموعات الصغيرة.
المُتَّزنين:
تحدَّثنا حتى الآن عن الانطوائيين والاجتماعيين على أنَّهما نقيضان، إذا لم تكن أحدهما، فأنت الآخر، لكن ربما تفكِّر أنَّك لا تناسب أيَّاً منهما تماماً، وحتى "كارل يونج"، مبتكر نظرية الانطواء والانبساط، يعتقد أنَّه لا يوجد شخص انطوائي تماماً أو اجتماعي تماماً.
فإذا كانت شخصيتك مزيجاً من الاثنين، فربما تكون ما يُعرَف اليوم باسم "المُتَّزن" (Ambivert)، وهو الشخص الذي يتمتع بصفات من نمطي الشخصية؛ إذ يشعر بطريقة ما في يوم من الأيام، وبطريقة أخرى في اليوم التالي؛ على سبيل المثال، قد تحب حضور الحفلات والتواصل الاجتماعي حضوراً منتظماً، وهي من صفات الاجتماعيين، ولكنَّك تفضِّل أيضاً العمل وحدك في بيئة هادئة، وهي من صفات الانطوائيين.
هل الاتزان اختيار أم طبيعة؟
قد يكون من المريح أن تُطلِق على نفسك اسم مُتَّزن، لكنَّ في ذلك إفراطاً في التسهيل وَفقاً لموقع "16بيرسوناليتيز" (16Personalities) الشهير، مع أنَّ من الصحيح أنَّه لا يوجد شخص اجتماعي تماماً أو انطوائي تماماً، لكنَّ معظم الناس يميلون إلى التصرف وَفق نمط أو آخر في معظم المواقف، ومن الهام إدراك ذلك.
يوجد أمرٌ محيِّرٌ آخر، هو أنَّ معظم الناس، وخاصة الانطوائيين، يتعلَّمون التصرُّف بطريقة لا تتَّفق مع شخصيتهم لتحقيق أهدافهم، فمع أنَّهم يفضِّلون العزلة، فإنَّ الانطوائيين شغوفون تجاه أهدافهم، وتحقيق هذه الأهداف قد يتطلَّب الحصول على مساعدة أشخاص آخرين، وهذا يدفعهم إلى تنمية عادات تصف الاجتماعيين عادة، مثل العمل في مجموعات والذهاب إلى الفعاليات إذا كان ذلك مطلوباً لتحقيق النجاح.
قال المخرج الشهير "ستيفن سبيلبرغ" (Steven Spielberg) ذات مرة: "أبذل جهداً إضافياً لإقناع الناس بأنَّني لست خجولاً"، فعلى الرغم من كونه انطوائياً، تعلَّم "سبيلبرغ" تنمية صفات اجتماعية، كي يتمكَّن من متابعة أحلامه السينمائية، فالتصرف بصفته اجتماعياً في العمل لا يجعل "سبيلبرغ" أقل انطوائية، أو يغيِّر شخصيته الأساسية، لكنَّ النتيجة تستحق المقايضة.
اختبارات أنماط الشخصية الانطوائية:
توجد عشرات من اختبارات الشخصية لمساعدتك على تحديد نمط شخصيتك، لكنَّ الاختبارات الثلاثة الآتية هي من أفضلها للإجابة عن السؤال، "هل أنا انطوائي؟":
- إذا كنت تريد أن تعرف بسرعة ما إذا كنت انطوائياً أم لا، فسيخبرك بذلك اختبار "كويت رفلوشن" (Quiet Revolution) المكوَّن من عشرة أسئلة.
- إذا كنت تصدق "نظرية الطيف" (spectrum theory) فإنَّ اختبار "لونروولف" (LonerWolf) سيخبرك بمستواك.
- إذا كنت مهتماً في اكتشاف الذات، يقدِّم موقع "16بيرسوناليتيز" (16Personalities) اختباراً شاملاً للشخصية، يجمع بين أنواع الشخصية من "اختبار مايرز بريجز" (Myers-Briggs test) وبعض نظريات الشخصية الأكثر حداثة.
في الختام:
ربما تعرف الآن أكثر عن علم الشخصية والانطوائية ممَّا كنت تعرفه عندما بدأت القراءة، من تاريخه، والاعتقادات الخاطئة، والعلم، والاختبارات، والتقييمات، ونأمل أن يكون لديك فهم أفضل لنمط شخصيتك أيضاً.
أضف تعليقاً