لم يترك الطب النفسي نوعاً من الأعراض والظواهر إلا ووجد لها تفسيراً وتعليلاً، وإنَّ أكثر ما يخيف في هذا الأمر، هو الكمُّ الهائل من ارتباط الطفولة المبكرة وأحداثها بأسباب ما يحياه الإنسان من اضطرابات وظواهر في شبابه؛ إذ تُعَدُّ متلازمة المحتال واحدة من الظواهر المرتبطة بالطفولة، وهذا الأمر يتطلب منَّا أن نكون واعين ومتصالحين مع ما مرَّ بنا من مواقف، ويحتِّم علينا مسؤولية كبيرة في الانتباه لما نقترفه أو سوف نقترفه في حق أطفالنا.
بتعريف أعمق وأكثر دقة لمتلازمة المحتال أو متلازمة الدجال أو متلازمة المنتحل، يمكننا القول إنَّها شعور الشخص بعدم الاستحقاق لما هو عليه من مكانة وتحصيل، سواءً أكان تحصيلاً دراسياً أم مهنياً أم حياتياً؛ وبمعنى آخر، هو أن يستكثر الفرد ما يحصل عليه، فيشعر بأنَّه لا يستحقه، وأنَّه لم يبذل جهداً كافياً لتحصيله، وأنَّه ما بلغه إلا بسبب صدفة أو ضربة حظ، وهذا الأمر غير صحيح.
يشعر المصاب بهذه المتلازمة أنَّه شخص محتال، استطاع خداع هؤلاء الناس بأنَّه يمتلك كفاءة عالية؛ الأمر الذي يدفعه إلى بذل الكثير من الجهد، والعمل بشكل مفرط، كي يجد نفسه يستحق ما ينسب إليه من الثناء والمديح، وليشعر أنَّه يستحق المكان الذي يوجد فيه، فيتخلص من شعوره بالذنب.
يُصنَّف الأشخاص الذين يصابون بهذه المتلازمة في خمس مجموعات، تضم المجموعة الأولى الأشخاص الساعين نحو المثالية والكمال، الذين يبذلون جهوداً كبيرة لأجل تنفيذ مهامهم على أكمل وجه وبصورة مثالية، ولأنَّ الكمال الدائم أمر غير موجود، يجلد هؤلاء الأشخاص ذواتهم عند أبسط هفوة أو تقصير وينتقدون أنفسهم.
أمَّا المجموعة الثانية فتضم الأشخاص العباقرة الأذكياء، الذين يجدون ضرورة في إتقان جميع المهارات بسهولة بالغة، أُسوة بالصورة التي رسموها في مخيلتهم عن منافسيهم، وعند مواجهة أدنى صعوبة في تعلُّم مهارة جديدة، يشعرون بأنَّهم مخادعون، وليسوا بمستوى الذكاء الذي يجعلهم أنداداً في هذه المنافسة، ومن ثمَّ فهم لا يستحقون هذا المكان الذي هم فيه.
وتتضمن المجموعة الثالثة الأشخاص المتفردين المستقلين، الذي يتجهون نحو تنفيذ كل شيء بأنفسهم من دون أن يطلبوا المعونة من أحد؛ حيث يعاني هؤلاء الأشخاص عندما يواجهون قدرتهم البشرية المحدودة أمام كل تلك المهام؛ إذ يسيطر عليهم شعور بالفشل والادعاء وعدم استحقاق المكانة.
وأمَّا المجموعة الرابعة فينتمي إليها الأشخاص الخبراء، الذين يهتمون بمعرفة التفاصيل والجزئيات الدقيقة في تنفيذ مهماتهم، فينشغلون بذلك عن تنفيذ مهمتهم الرئيسة.
والمجموعة الأخيرة هم فئة الأبطال الخارقين، الذي يحمِّلون أنفسهم أوزاراً لا طاقة لهم بحملها، وينتظرون من أنفسهم النجاح التام في جميع أدوارهم الحياتية بشكل مثالي وتام؛ لذا فإنَّ أيَّ فشل في مهمة من هذه المهمات، سيشعر الشخص بأنَّه غير مؤهل وغير كفء وفاشل.
ولسوء الحظ مرة أخرى، إنَّ النساء هنَّ الأكثر عرضة للإصابة بهذه المتلازمة، وخاصة في المجتمعات الذكورية، وهذا ما يجعلهن يرضين بأجور أقل من استحقاقهن، ولا يطالبن بحقوقهن، ظناً منهن أنَّهن لسن مؤهلات بما فيه الكفاية، ولا يسلم الرجال بدورهم من الإصابة بها، بسبب سقف التوقعات العالي الذي يفرضه المجتمع على جنسهم الذكوري.
أعراض الإصابة بمتلازمة المحتال:
لا تُصنَّف متلازمة المحتال على أنَّها اضطراب نفسي؛ بل هي ظاهرة؛ حيث تتشابه الأعراض بين المصابين بهذه المتلازمة، لكنَّها عموماً تأتي على هيئة عدم احترام للذات، وشعور مستمر بالإحباط والقلق، والتوتر والتشكيك في جميع الإنجازات التي حققها الفرد بنفسه وبمجهوده الشخصي.
وإذا أردنا أخذ مثال سهل عن هذه المتلازمة، يمكننا أن نفترض أنَّ شخصاً ما نجح في اختبار القبول في جامعة عريقة مثل "جامعة هارفارد" مثلاً، فبدأ أهله وأصدقاؤه بالثناء عليه ومدحه والتعبير عن فخرهم الكبير به بانتسابه إلى هذا الصرح العلمي العظيم؛ هنا، فإنَّ المصاب بمتلازمة المحتال، بدل أن يشعر بالفخر بنفسه هو الآخر ويتذكر اجتهاده وعمله حتى نال هذا الإنجاز، تسيطر على ذهنه أفكار من قبيل "لقد كانت ضربة حظ، وكانت أسئلة الاختبار سهلة هذه المرة.
لو كانت الأسئلة غير هذه لما عرفتُ الإجابة عنها، وكنت سأفشل في الاختبار، فكيف لي أن أنافس الطلاب الأذكياء الحقيقيين فيها وأنا الذي نجحتُ مصادفة، أنا لا أستحق القبول في هذه الجامعة"؛ إذاً، فإنَّ التفكير بهذه العقلية يعتمد على تقليل الفرد من شأن نفسه، وتسخيف إنجازه، ولو أنَّه رأى شخصاً غيره قد حقق ما حققه، لصفق له بحرارة ورفع له القبعة.
أسباب الإصابة بمتلازمة المحتال:
كنَّا قد أشرنا في بداية هذا المقال إلى دور الطفولة المبكرة وأحداثها في التأثير في شخصية الإنسان؛ لهذا السبب، فإنَّنا نعزو هذه المرة أيضاً السبب الرئيس للإصابة بمتلازمة المحتال إلى أحداث مرَّ بها المصاب في طفولته، فالمصابون بهذه المتلازمة يشتركون في ممارسة الضغوط عليهم من قِبل أحد الأبوين أو كليهما من أجل تحقيق التفوق الدراسي للطفل في صفه، ومقارنته بشكل مستمر مع زملائه في التحصيل العلمي والسلوكات الجيدة حسب مقاييسهم.
ناهيك عن المحاولات المستمرة من قِبل الأهل للتحكم في الطفل، والإفراط في حمايته؛ إذاً، فإنَّ هذه التصرفات هي دوافع موجبة لإصابة الطفل بمتلازمة المحتال عندما يكبر، وهذا يفسر دور التربية ومعاملة الوالدين في البناء النفسي للأبناء.
ثم إنَّ هناك مجموعة من الأسباب الأخرى التي تؤدي بدورها إلى تنشئة فرد مصاب بمتلازمة المحتال، نذكر منها الإصابة بالقلق المَرَضي أو الاكتئاب؛ إذ إنَّ المصابين عادة بهذه الأمراض النفسية، يكون تقدير الذات عندهم منخفضاً، ويعانون دوماً من قلة الثقة بالنفس، وعدم الإيمان بالذات.
وقد تكون صفات الشخصية نفسها من أسباب الإصابة بهذه المتلازمة؛ إذ إنَّ بعض الأشخاص لديهم ميل فطري نحو تحقيق الكمال، ومع عجزهم عن بلوغه في جميع مجالات الحياة بالصورة التي يريدونها، يُعرِّضون أنفسهم للإصابة بهذه المتلازمة، التي غالباً ما تصيب الأشخاص ضعيفي الثقة بأنفسهم.
بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما تُشعِر المهام الجديدة والمسؤوليات الطارئة الفرد بعدم استحقاقه المنصب الجديد، سواءً كان المنصب مهنياً أم دراسياً أم اجتماعياً؛ حيث إنَّ بعض الموظفين يشعرون أنَّهم قد خدعوا الإدارات عند حصولهم على ترقية، وبعض الطلبة يشعرون أنَّهم محتالون إذا ما نجحوا في اختبار صعب ندر الناجحون فيه، وبعض النساء يشعرن أنَّهن غير مؤهلات لتأدية دور الأمومة بشكل مثالي، على الرغم من النتائج الإيجابية المثمرة في تربيتهن لأطفالهن.
كيفية التعامل مع متلازمة المحتال:
قد يجتهد كثير من المصابين بهذه المتلازمة في بذل الجهود الإضافية، والعمل على نحو أكثر من أجل إثبات أنَّهم ليسوا محتالين، سواءً أكان لأنفسهم أم للآخرين، وأنَّهم يستحقون ما وصلوا إليه من قيمة ومكانة، غير أنَّ هذا السلوك لا يؤدي إلى حل؛ بل هو أشبه بالدوران في حلقة مفرغة، والدخول في دوامة لا نهائية من العمل؛ حيث إنَّ العمل الحثيث ينتج عنه إنجازات جديدة، والإنجازات الجديدة تستقطب امتداح الآخرين وثناءهم؛ ممَّا يولد في نفس الفرد شعوراً إضافياً بالاحتيال والخداع، فيعود إلى الغرق في دوامة العمل؛ لذا فإنَّ هذه الطريقة ليست طريقة مناسبة للتعامل مع متلازمة المحتال؛ بل إنَّ الخطوات الواجب اتباعها هي كما الآتي:
- التفريغ الصحيح لهذه المشاعر والأفكار أمام صديق يتفهمها، والذي قد يكشف بدوره عن امتلاكه أفكاراً مشابهة؛ ممَّا يطمئن الفرد المصاب بهذه المتلازمة أنَّه ليس وحيداً في هذا المأزق؛ بل يشاركه الكثيرون معاناته هذه، ومن شأن هذا الأمر أن يخفف التأثير السلبي لهذه الملازمة في حياته، ويفتح أمامه أبواب تقبُّلها بِعَدِّها طريقة مغلوطة في التفكير يجب العمل على تصحيحها، فالتقبُّل هو أول خطوات التغيير والحل.
- تطوير مهارات العمل ضمن الفريق، وبذل الجهود الجادة والمحاولات المستمرة للتخفيف من الشعور بضرورة تنفيذ كل مهمة على نحو فردي وبطريقة مثالية؛ حيث إنَّ تعزيز قيمة الاندماج مع الزملاء، وبناء علاقات قوية معهم، يُحفِّز لدى الفرد شعور القيام بالعمل الجماعي.
- عدم مقارنة الشخص نفسه بغيره؛ إذ إنَّ المقارنة الوحيدة التي يجب على الإنسان أن يقوم بها، هي مقارنة نفسه اليوم بنفسه في الأمس؛ أي المقارنة بين حاضر الفرد وماضيه، وفيما إذا كان الفرد قد أصبح نسخة أفضل من نفسه في السابق؛ فهذا ما يمكن تسميته بالتفوق والتميُّز الحقيقي.
- تمحيص الأفكار وتدقيقها قبل الاستسلام إلى المشاعر التي تحرضها، فعند مراودة أفكار محبطة للذهن، يتوجب على الفرد تدقيق هذه الأفكار بشكل منطقي؛ هل هي حقاً صحيحة؟ وهل حقاً وصل الفرد إلى ما عليه بطريقة الحظ والصدفة؟ في معظم الحالات فإنَّ الإجابة هي "لا"؛ لأنَّ الحظ والصدف قد تقف إلى جانب الإنسان مرة واحدة وليس ألف مرة؛ لذا لا يحق حتى للإنسان نفسه التشكيك في نجاحاته المتتالية وتميزه المستمر.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذه الخطوات لن تستطيع تغيير نظرة الفرد نحو نفسه إلا عن طريق تكرار تطبيقها وممارستها، لتتعزَّز في سلوك الفرد وتصبح نمط تفكيره الجديد والمسيطر.
ملاحظة هامة:
يُعَدُّ تشكيك الفرد في الإنجازات التي يصنعها، حالة صحية إذا كانت ضمن حدها الطبيعي، ويمكن تصنيفه تحت خانة "التواضع الواثق"، وهو سبب يشجع الفرد على العمل الدؤوب المستمر لمتابعة طريق النجاح والتفوق، على عكس الأشخاص الذين يمتدحون أنفسهم إلى درجة المبالغة، ويعظِّمون إنجازاتهم العادية المتواضعة على حد كبير، ويحيطون أنفسهم بفقاعة من الإكبار، وهالة وهمية من التميز؛ وذلك بسبب ثقتهم المفرطة والفارغة بأنفسهم؛ لذا فإنَّ تقدير الذات مطلوب بشكل منطقي ومتزن، والتشكيك في قدراتها واجب بطريقة واعية من شأنها قدح شرارة الاستمرار في التفوق والتميز.
في الختام:
نجد أنَّ متلازمة المحتال ظاهرة شائعة بين الناس، قلَّ من يجرؤ على الاعتراف بها، وتظهر على شكل تواضع مبالغ فيه للفرد أمام نفسه يصل إلى مرحلة التشكيك في قدراتها، ونَسْب نجاحها إلى الحظ والصدفة، وهي ظاهرة يمكن التعامل معها والتخفيف منها عن طريق إدراك وجودها بملاحظة أعراضها، وفهم الأسباب التي أودت إليها، والعمل على تطبيق الخطوات التي من شأنها وضع حد لسيطرتها على تفكير الإنسان.
أضف تعليقاً