ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدون سكوت يونغ (Scott H Young)، يُحدِّثنا فيه عن التفكير النقدي ويقدم لنا بعض الاستراتيجيات لتحسينه.
لكنَّ التفكيرَ النقديَّ لا يقتصر على اكتشاف الكلام المزيف فحسب؛ بل أنت أيضاً بحاجة إليه لاتخاذ قرارات دقيقة، على سبيل المثال: أنت تحتاج إلى هذا التفكير في المواقف الحياتيَّة العامة، سواء عند اتخاذ قرار لشراء أو استئجار منزل، أم تغيير الحمية التي تتبعها، أم متابعة الدراسة، أم تركها من أجل العمل، فكل من هذه القرارات هي قرارات صعبة وهامة؛ لذا فإنَّ القدرة على التفكير النقدي بشأن هذه الأمور يمكن أن يُحدِث فرقاً كبيراً في حياتك.
الطريقة الخاطئة لتحسين التفكير النقدي:
سأبدأ بما أعتقد أنَّها الطريقة الخاطئة لتحسين التفكير النقدي، والتي هي للأسف ما نتعلَّمه في المدارس غالباً؛ إذ يبدأ هذا النهج بتعليمك إحدى القواعد الأساسيَّة للاستنتاج المنطقي، وطريقة بونينز (ponens)، وبعض الأمثلة على المغالطات ومجموعة من المصطلحات الفلسفية، وبعدها يقدمون لك بضع مشكلات والتي يجب أن تعمل على حلِّها، وبعد ذلك، من المفترض أن تكون قادراً على التفكير النقدي من أجل حل مشكلات العالم الحقيقية.
في حين أنَّه لا حرج في دراسة المنطق والعقلانيَّة في حد ذاتها، لكن لا أعتقد أنَّ هذه الأساليب مفيدة في الحياة الواقعيَّة، وعلى وجه الخصوص، هناك بعض الحقائق عن طريقة تفكيرنا، والتي تجعل طريقنا لتحسين العقلانية غامضاً. توجد بعض المشكلات التي يجب أن نكون على علم بها، والمتعلِّقة بالتفكير النقدي:
المشكلة الأولى: التفكير النقدي ليس قدرة
حلَّ عالمَي النفس إدوارد ثورندايك (Edward Thorndike) وروبرت وودوورث (Robert Woodworth) هذه المشكلة منذ أكثر من مئة عام؛ إذ كانت النظرة الشائعة للتعلُّم في أيامهما هي فكرة أنَّ دماغ الإنسان يحتوي على "قدرات" كبيرة ومتميزة مثل المنطق، والذاكرة، والحكم، والتي من خلال تدريبها على الموضوعات بصرف النظر عن صلتها بالعالم الواقعي، من شأنها أن تعزز هذه القدرات تماماً كما يعزز رفع الأثقال في صالة الألعاب الرياضية عضلاتك.
المشكلة هي أنَّ نظرية العقل هذه لا تُجدي نفعاً بالنسبة إلى الدماغ، فالدماغ ليس كالعضلات، وبدلاً من وجود قدرات عامَّة ومجردة يمكن تحسينها من خلال تمرينات غير محددة، تكون التحسينات بالنسبة إلى العقل محددة للغاية، وأمَّا التحسينات العامة، فتنتج عن تجمُّع عدد من التحسينات المحددة، وليس عن التحسينات العامة وغير المترابطة.
على سبيل المثال: ضع في حسبانك تعلُّم لغةٍ ما؛ إذ تقول إحدى النظريات: "إنَّ التفكير النقدي في القدرة على تعلُّم اللغة الإنجليزية سيحسن من قدراتك اللغوية تحسيناً عاماً، وعلى الرَّغم من فائدة ذلك إلَّا أنَّ معظم الجهد المبذول لتعلم أيَّ لغة، يتطلب تعلُّم مفردات محددة، ومن ثمَّ إذا كنت ترغب في تعلُّم اللغة اليابانية على سبيل المثال: فمن الأفضل أن تتعلَّمَ المفردات اليابانية؛ إذ إنَّ إتقان اللغة الإنجليزية أولاً لن يساعدك كثيراً على تعلُّمِ اللغة اليابانية.
بالمثل: إنَّ التفكير النقدي ليس مجرد قدرة متجانسة منفردة تضم أشكالاً منطقية مجردة؛ بل إنَّه عبارة عن عدد من الحقائق، والاستنتاجات، والاستدلالات، والقدرات السياقية المحددة، والذي يجب تعزيزه من خلال التعرض لكثير من المواقف الحقيقية.
المشكلة الثانية: التفكير هو عقلانية إلى حدٍّ كبير
تشيرُ النظريَّة الجدلِّية للعقل إلى أنَّ الفشل الظاهري لمعظم أنواع العقل البشري يساء تفسيره لأنَّ البشر لا يدركون وظيفة العقل الحقيقية، فبدلاً من أن تكون وسيلة عامة لاتخاذ قرارات أفضل، فإنَّ العقل هو القدرة على توليد التفسيرات وتقييم تفسيرات الآخرين.
يأتي الذكاء من أنحاء الدماغ جميعها، من خلال وحدات بديهية تكون محددة ومدربة من خلال الممارسة، بدلاً من أن تكون قدرة باطنية تقوم بالتفكير النقدي؛ فإذا كانت هذه النظرية صحيحة، فإنَّ السبب الآخر لصعوبة تحسين التفكير النقدي هو أنَّنا في أغلب الأحيان لا نتوصل إلى قرارات أكثر ذكاءً عندما نفكر تفكيراً نقدياً؛ لكنَّنا نحاول ابتكار حجج أكثر جاذبية لمواقفنا أو هجمات أكثر حدَّة على حجج الآخرين.
في حين أنَّ هذا النوع من "التفكير النقدي من خلال الجدال" له فوائد كبيرة لتعزيز معارفنا بصفتنا جماعة، إلَّا أنَّه لا يساعد كثيراً على مساعداتٍ فردية؛ بل عندما نستخدم التفكير النقدي، يكون عبارة عن أداة لتبرير أفكارنا بدلاً من تقييمها منهجياً؛ وذلك لاتخاذ قرارات أفضل.
الطريقة الصحيحة لتحسين التفكير النقدي:
إذا كانت النظرة التقليدية للتفكير النقدي خاطئة، فما هي الطريقة الصحيحة للقيام بذلك؟ توجد طريقتان ستساعدنا على اتخاذ قرارات أفضل:
- إنشاء سياق يؤدي إلى اتخاذ قرارات أفضل، بالنظر إلى ما نعرفه عن التفكير البشري.
- اكتساب كثير من المعلومات من حول العالم ودمجها في حياتك من خلال ممارسة اتخاذ القرارات، بمعنى آخر يأتي التفكير النقدي عندما يكون الشخص ذكياً.
إليك استراتيجيتان لتحسين التفكير النقدي:
1. إنشاء سياقات تمكِّن من اتخاذ قرارات ذكية:
تتمثل هذه الاستراتيجية في تحديد ما تقوم به في الواقع عندما تفكر في الأشياء وتستخدم هذه المعرفة لمحاولة تجنب ارتكاب الأخطاء الشائعة، وبالنظر إلى ما نعرفه عن الطريقة التي يعمل بها العقل، فيوجد بعض الأشياء التي يمكنك القيام بها:
فحص القرار الذي تتخذه عدة مرات وفي عدة أماكن وحالات مزاجيَّة مختلفة:
نظراً لأنَّ العقل يميل إلى التبرير أكثر من إصدار الحكم الصحيح، فإنَّ إحدى الطرائق لتجنب ارتكاب الأخطاء هي التفكير في نفس المشكلة التي تواجهها في عدد من السياقات المختلفة.
تقول النظرية النمطية للعقل: إنَّه بدلاً من أن تكون وظيفة الدماغ عبارة عن وظيفة واحدة ومنسقة؛ فإنَّ الدماغ يتكون من كثير من الوحدات شبه المستقلة التي تختار جميعها الإجراء الأفضل وترسله إلى الدماغ، واعتماداً على الوحدة التي تفعلُّها بقوة أكبر من خلال السياق المحيط بك؛ فإنَّ اختيارها سيكتسب أهمية أكبر؛ لذلك إذا كنت جائعاً أو خائفاً أو غاضباً أو تشعر بالنعاس أو سعيداً أو حتى حزيناً، فقد تحصل على وجهات نظر مختلفة بشأن القرار الصحيح.
ومن ثمَّ، فإنَّ التفكير في اتخاذ قرار ما في حالات مزاجية وأماكن متعددة سيمنحك مجموعة متنوعة من الظروف للتفكير في الأمور، وإذا كان القرار الذي تتخذه هو نفسه في كل مرة، فستكون أكثر ثقة بأنَّ لديك التقييم الصحيح.
شاهد بالفديو: 10 عادات مميّزة يتبعها الأشخاص الناجحون في التفكير
التحدث عن مزيد من الناس وإجراء مزيد من المناقشات:
تشير النظرية الجدليَّة للعقل إلى أنَّ العقل لا يعمل جيداً وحده؛ بل عندما يُدمَج في المناقشات العامة، ومعظم المشكلات المعروفة للتفكير البشري تختفي بعد أن تجمع مجموعة من الأشخاص معاً ويتحدثون عن المشكلة الموجودة.
تعدُّ مناقشة قرارك أو أحكامك مع الآخرين، طريقة جيدة إمَّا لكي تُنفى أفكارك أو للسماح للأفكار الأقوى بالظهور، وعلى الرَّغم من وجود خطر الامتثال للتفكير الجماعي، إذا كنت تجتمع مع مجموعات كبيرة ومتنوعة بدرجة كافية من الأشخاص، فمن المرجح أنَّك ستفكِّر بأفكار أفضل، وهذا الأمر سيؤدي إلى كسب رأي أغلبية الأشخاص.
عدم المراهنة بسمعتك:
إنَّ أحد أكبر التحديات التي يجب التغلُّب عليها في التفكير النقدي هو أنَّك قد لا تقوم بتغيير معتقداتك في مواجهة الأدلَّة الجديدة، وقد تبقى معتقداتك القديمة بوضعها السابق، حتى لو تبين أنَّك مخطئ.
قد يرجع جزء من هذا الأمر إلى أنَّنا - وَفقاً لنظرية العقل الجدليَّة - نحاول تبرير معتقداتنا البديهية بدلاً من المجادلة ضدها؛ لذلك إذا كنت تبحث فقط عن سبب لتثبت أنَّك على حق، فمن الطبيعي أن تتجاهل السبب في كونك على خطأ؛ ومع ذلك قد يرجع جزءاً آخر من هذا الأمر، إلى العواقب الاجتماعية المترتبة على التقلب في آرائك، فإذا كانت سمعتك وهُويتك مرهونة بصحة فكرة ما، فمن المؤكد أنَّك لن تقوم بتغييرها عندما تتعرَّض لأسباب قد تقوض وجهات نظرك.
لقد حاولْتُ مواجهة هذا الأمر بنفسي من خلال الكتابة عندما أكون مخطئاً في أمر ما، فمن خلال مشاركة معتقداتي أحاول أن أبعد نفسي عن محتوى أفكاري، حتى أتمكن من التخلص من الأفكار التي لا تُجدي نفعاً، بدلاً من التشبث بها خشيةَ أن أبدو أحمق.
2. التمتع بالذكاء عبر معرفة المزيد:
الاستراتيجية الثانية لتحسين التفكير النقدي والتي تنجح فعلاً، هي بسهولة معرفة مزيد عن العالَم، فكُلَّما زادت معرفتك بالأشياء، فكَّرت فيها تفكيراً أفضل.
لقد مررت في الفترة الأخيرة بتجربة، عندما أخبرني أحدهم أنَّه كان قلقاً من أنَّ إشارات الواي فاي (Wifi) المنبعثة من هاتفه قد تسبب السرطان، فشرحت له أنَّ هذا الكلام ليس منطقياً؛ إذ إنَّ إشارات الواي فاي هي عبارة عن إشعاعات ذات موجات دقيقة وطاقتها منخفضة جداً، والسرطان يمكن أن يحدث عندما يُتلَف الحمض النووي، ولكي يحدث ذلك يجب أن يكون الإشعاع نشطاً بدرجة كافية لكسر الروابط الجزئية.
إنَّ الأشعة فوق البنفسجية قويَّة بما يكفي للقيام بذلك - وهذا هو السبب في ضرورة وضع واقي الشمس خارج المنزل - لكنَّ الضوء المرئي ليس كذلك - وهذا هو السبب في عدم الحاجة إلى وضع واقي الشمس داخل المنزل - وتردد الإشعاعات ذات الموجات الدقيقة أقل من ذلك بكثير؛ لذلك لا يمكن أن تسبب السرطان.
لم تكمن المشكلة في أنَّ هذا الشخص لم يملك مهارات التفكير النقدي الجيدة، ومن المعقول افتراض أنَّ التكنولوجيا الجديدة قد تكون لها عواقب غير مدروسة - ومن ذلك أنَّها قد تسبب السرطان - بل كانت المشكلة تكمن في أنَّ هذا الشخص لم يكن لديه معلومات كافية عن الكهرومغناطيسية ليرى لماذا كان ادعاؤه غير منطقي، فإذا كان لديه معلومات كافية عن هذا الأمر، كان يجب أن يكون أكثر قلقاً بشأن المصابيح التي تصدر ضوءاً مرئياً عالي التردد وبطاقة أعلى كل يوم مقارنة بالشعاع الخافت ذي الموجات الدقيقة التي يصدرها الهاتف.
في الختام:
إنَّ التفكير النقدي لا يتعزز نتيجة دراسة أحد الأشكال المنطقية المجردة والتوصل إلى استنتاجات صحيحة؛ بل عندما يكون لديك معلومات كافية عن الطريقة التي يعمل بها العالم، لاستبعاد إحدى الاحتمالات غير المحتملة أو مستحيلة الحدوث.
الجانب السلبي لهذا الأمر هو أنَّ التفكير النقدي لا يمكن اكتسابه فقط من خلال النجاح في الجامعات أو المدارس؛ وهذا يعني أنَّك بحاجة إلى التعلُّم باستمرار، عن الموضوعات جميعها، من أجل اتخاذ قرارات ذكية.
أما الجانب الإيجابي هو أنَّه من الممكن اتخاذ قرارات أكثر ذكاءً، فبعيداً عن كون التفكير النقدي مجرد قدرة مجردة إمَّا تمتلكها أو لا تمتلكها، فهو جزء من عملية معرفة الأمور، وأنَّه يمكن أن يتعزز من خلال تعلُّم مزيد طوال حياتك.
أضف تعليقاً