خلال هذا اللقاء، اشتكى الخريجون إلى أستاذهم من صعوبة الحياة بعيداً عن الدراسة؛ فقد اشتكوا من ساعات العمل الطويلة، ورؤساء العمل المُتطلبين، وسوق العمل التنافسي، وكيف أنَّ الأمر الوحيد الذي يشغل بال الجميع هو المال.
بعد قليل، أعد الأستاذ القهوة، وأخرج ستة فناجين، فنجان واحد لكل طالب، حيث كان ثلاثة منهم عبارة عن فناجين رخيصة للاستعمال مرة واحدة، بينما الثلاثة الأخرى مصنوعة من أجود أنواع الخزف، ثم دعا الجميع إلى النهوض وخدمة نفسه بنفسه.
في غضون ثوان كانت المساومة قد بدأت بالفعل؛ "انتظر، لماذا أخذت هذا الفنجان؟"، "لا، دعني أحصل عليه، لقد أمسكت به قبلك"، "مستحيل، لقد وصلت إلى الطاولة أولاً، خذ فنجاناً آخر"؛ كانت هذه العبارات المتداولة.
ضحك الطلاب ووبخوا بعضهم بعضاً بلطف على من يشرب في هذا الفنجان أو ذاك؛ أي جرت منافسة صامتة بين الأصدقاء، وعندما جلس الطلاب أخيراً، ابتسم الأستاذ وأخبرهم: "أرأيتم؟ تلك مشكلتكم، كنتم جميعاً تتجادلون حول من سيشرب القهوة في الفناجين الرائعة بينما كل ما يهم فعلياً هو القهوة".
شاهد بالفيديو: كيف يمكن الوصول إلى الحرية المالية؟
يُشكل المال موضوعاً حساساً؛ وذلك لأنَّ معظمنا يربط قيمته الذاتية وهويته بالوظيفة التي يعمل بها ومقدار الأموال التي يجنيها؛ أي وبالمعنى الحرفي للكلمة، نحن نُخضِع مهاراتنا وكفاءتنا كأشخاص لتقييم سوقي، وبالتالي نشعر جميعاً بالانزعاج وعدم الراحة في أثناء السعي لجمع المال.
لكنَّ المال مجرد مخزن عشوائي للقيمة، وليس قيمةً بحد ذاته؛ حيث هنالك العديد من المخازن ذات القيمة في الحياة، فالوقت هو شكل من أشكال القيمة، والمعرفة شكل من أشكال القيمة، والسعادة والمشاعر الإيجابية الأخرى كذلك، وغالباً ما يكون المال مجرد وسيلة لتبادل هذه الأشكال المختلفة للقيمة مع بعضها بعضاً.
ليس المال سبب الثروة في حياة الإنسان، وإنَّما تأثيره؛ وبشكل مشابه عندما يفترض الناس أنَّ المال هو سبب مشكلاتهم، فهم في الواقع مخطئون، فعادة ما يؤثر المال بوضوح في مشكلاتهم.
المال ذو قيمة متغيرة، ولا تتحقق قيمته ما لم يوضع في موضع التنفيذ؛ لذلك يعد المال انعكاساً لقيم المالك ونواياه؛ حيث يخطئ معظم الناس في اعتبار أنفسهم أغنياء لمجرد امتلاكهم الكثير من الأشياء أو تحقيق نوع من الشهرة أو المكانة الاجتماعية؛ فيمكنك أن تمتلك بطاقة ائتمان تحتوي الكثير من الأموال أو تحصل على أفضل طاولة في أفضل المطاعم أو تلتقط بعض الصور مع الشخصيات المشهورة، ولكن هذا لا يجعلك ثرياً؛ بل سيجعلك شخصاً متعجرفاً في نظر الكثيرين.
هناك قول مأثور من فيلم نادي القتال (Fight Club): "الأشياء التي تمتلكها ستمتلكك في النهاية". تعد تلك الفلسفة المادية عموماً بمثابة فخ نفسي؛ فبغض النظر عن مقدار المال الذي تملكه، والمال الذي تكسبه، والأشياء التي تشتريها لن تزول رغبتك العمياء في الحصول على المزيد من كل شيء أبداً؛ ففي الوقت نفسه، أنت تعمل لساعات طويلة، وتتحمل الكثير من المخاطر في حياتك لقاء ذلك.
المال محايد بطبيعته، فهو مجرد طريقة لتبادل الخبرات بين شخصين؛ أنت تجني أموالك من خلال منح التجارب للآخرين، ثم تقدم أموالك للآخرين لتلقي الخبرات في المقابل. وحتى عندما تشتري بعض البضائع الثمينة، مثل سيارة رياضية أو عقد ألماس، فأنت لا تشتري السلع المادية فحسب، وإنَّما تشتري تجربة قيادة تلك السيارة أو ارتداء تلك القلادة، وتستفيد من تجربة القوة أو السرعة أو الحالة الاجتماعية المرتبطة بذلك؛ وبهذه الحالة أنت تحصل على المعرفة التي يمدك بها امتلاك تلك الأشياء واستخدامها وفيما إذا كانت تجعلك سعيداً أم لا.
يمكن القول إنَّ أي عملية شراء ليست عملية نقدية فحسب، فعندما تشتري الطعام، فإنَّك تفعل ذلك بدافع الجوع والحفاظ على صحتك وسعادتك المؤقتة، وعندما تذهب في رحلة مع عائلتك فإنَّك تحصل على فرصة لتجربة شيء جديد معاً وتقوية علاقتكم مع بعضكم بعضاً، وعندما تشتري بدلة جديدة للعمل، فأنت لا تشتري القماش أو العلامة التجارية فحسب، وإنَّما تُظهِر المؤشرات الاجتماعية التي تستثمرها في نفسك، والتي تجعلك تبدو شخصاً جدياً وموثوقاً في العمل.
لا يتعلق الأمر بالأشياء، فالأشياء موجودة لتمنحك التجارب الجديدة فقط؛ وكل الأشياء التي تنفق عليها المال هي مجرد تجارب.
وكما قلنا سابقاً، المال هو وسيلة لتبادل التجارب؛ وغالباً ما يتجلى على شكل حلقة مستمرة، حيث نخوض تجربة واحدة (سلبية) لكسب المال للحصول بعد ذلك على التجربة المعاكسة (الإيجابية)، وبمجرد نفاد الأموال، سنضطر للعودة إلى التجربة السلبية وتبدأ العملية مرة أخرى، ولتوضيح هذا سنورد فيما يلي بعض حلقات كسب المال:
1. الحلقة المرتبطة بالتوتر:
يكسب بعض الأشخاص المال من خلال التعرض لقدر كبير من التوتر، فهم يعملون في وظيفة مليئة بالضغوطات أو يؤدون أدواراً يتعرضون فيها باستمرار للانتقاد أو التهديد بطريقة ما، ثم ينفقون أموالهم في المقام الأول على تخفيف التوتر للتعويض عن الإرهاق المُرتبط بوظائفهم، وينتهي الأمر بهؤلاء الأشخاص في حلقة مستمرة من التوتر وتخفيف التوتر بينما يفشلون في جني الكثير من الثروة.
2. الحلقة المرتبطة بالذات:
يعمل بعض الأشخاص في بيئات يشعرون فيها بالعجز أو عدم الأهمية والجدوى، ويتخلصون بعد ذلك من انعدام الأمان من خلال إنفاق أموالهم على أمور تعزز المكانة الاجتماعية أو الاقتصادية العالية لأصحابها؛ فهم يكسبون أموالهم من خلال انعدام الأمان، ثم ينفقونها لوضع حد لعدم الأمان لديهم، وبالتالي لا يحققون الثروة أبداً.
3. الحلقة المرتبطة بالألم:
يؤذي بعض الناس أنفسهم بالفعل لكسب لقمة عيشهم، فقد تكون تلك الأذية جسدية، مثل مصارعة المحترفين أو مبتلع السيوف، أو تكون عاطفية/ نفسية، مثل وظائف مهينة أو رؤساء أو زملاء عمل مسيئين، ثم ينفقون أموالهم على تخفيف الآلام كالقيام ببعض الأمور التي يظنون أنَّها سبيل للتعافي، مثل تعاطي المخدرات أو معاقرة الكحول.
تتحقق الثروة الحقيقية عندما لا تكون الطريقة التي ننفق بها أموالنا مجرد تعويض عن طريقة كسبنا لها، وعندما تتماشى الطريقة التي نكسب بها الأموال والطريقة التي ننفق بها الأموال مع بعضهما بعضاً، وعندما نكسب أموالنا من خلال تجربة إيجابية وننفقها على تجارب إيجابية أخرى.
سرعان ما يصبح الأشخاص الذين يقعون في تجربة هذه الحلقات عبيداً لكسب المال؛ حيث يبدؤون في رؤية المال باعتباره الهدف الوحيد لحياتهم، ويصبح هو الحافز الوحيد لهم، وبمجرد حدوث ذلك، لم تعد تملك أموالك، وإنَّما أموالك هي التي تملكك؛ فتصبح أنت مكان العملة، حيث يتحكم فيك المال، حتى تتوقف عن السعي لكسبه أكثر.
إنَّ طريقة التخلص من هذه الحلقات، والمطاردة التي لا نهاية لها للحصول على ربح آخر وتكوين ثروة حقيقية هي التوقف عن اعتبار المال مقياساً للنجاح؛ فمثلما يوجد العديد من التعريفات للقيمة، يوجد العديد من التعريفات للنجاح أيضاً، وغالباً ما يكون المال وسيلة لتحقيق النجاح، ولكنَّه نادراً ما يكون النجاح بحد ذاته.
تظهر القيمة الحقيقية للمال عندما نستفيد منها كأداة لتحقيق نجاحنا بدلاً من اعتباره غاية النجاح، وذلك عندما نوجه المال نحو التجارب والقيم التي نجدها أكثر أهمية، وعندما نستخدمه لبناء عمل مبتكر، وعندما نزيد من قدرتنا على الإبداع ونفيد مجتمعنا، وعندما ندعم عائلاتنا أو نشارك الحب مع أصدقائنا أو نحافظ على صحتنا الشخصية ورضانا.
تبدأ القيمة الحقيقية للمال عندما ننظر إلى ما هو أبعد منه، ونرى أنفسنا أفضل وأكثر قيمة مما نمتلكه، وذلك عندما لا يتعلق الأمر بمراكمة الأشياء وإنَّما بالتعامل مع التجارب الحياتية، أي عندما لا يتعلق الأمر بالفنجان وإنَّما بالقهوة الموجودة فيه.
أضف تعليقاً