فالاكتئاب يختلف عن التقلُّبات المزاجيّة العاديّة والانفعالات العاطفيّة التي تكون مؤقَّتة وتنتج عن ضغوط وتحدّيات الحياة اليوميّة، أمَّا الاكتئاب فقد يُمسي حالة صحيّة خطيرة في حال دام لفترةٍ طويلة. فينتج عن ذلك معاناة الشخص المكتئب وانعكاس ذلك على جميع نواحي حياته بما فيها أسرته. فإذا كنت أباً أو أمّاً وتعاني من الاكتئاب فلا تستغرب من تعرُّض أولادك بدورهم للاكتئاب، وتطوُّر مشاكل نفسيّة أو سلوكيّة أو اجتماعيّة عديدة لديهم، ففي كل عام يموت ما يقارب 800,000 شخص من جراء الانتحار الذي يمثّل ثاني سبب رئيسي للوفيات بين الفئة العمرية 15-29 عاماً.
المراهقون يتأثرون باكتئاب الأب:
أجريت دراسة علميّة من قِبَل جامعة "يونيفرسيتي كوليدج لندن"، وخلصت الدراسة إلى أنّه وعلى الرغم من ربط الاكتئاب لدى المراهقين لفترة طويلة وبشكلٍ خاص باكتئاب الأمهات عند العلاج، إلّا أنّ النتيجة كانت بتأثير الاكتئاب عند كل من الآباء والأمهات على الأطفال.
وقد شملت الدراسة حالة 14 ألف عائلة في بريطانيا وأيرلندا، 6 آلاف أسرة في أيرلندا، وقرابة 8 آلاف أسرة في بريطانيا. وبيّنت أنَّ كِلَا الوالدين يقع عليهما عاتق حماية أبنائهم المراهقين من الإصابة بالاكتئاب. ووفقاً للدراسة فقد طُلِب من الآباء والأمهات والأطفال، في سن سبع وتسع سنوات وما بين 13 و14 عاماً، ملئ استبيانات عن مشاعرهم. وتمَّ سؤال الأطفال عن الأعراض العاطفيّة، بينما أجاب الآباء على أسئلة عن مشاعرهم، والتي تمَّ قياسها وفقاً لمقياس للاكتئاب. وأثبتت النتائج وجود رابط بين أعراض الاكتئاب عند الآباء وأعراض مشابهة عند الأبناء في سن المراهقة. وتساوى الرابط في درجته مع أثر اكتئاب الأمهات على أبنائهن. وأشار الباحثون إلى أنَّه غالباً ما تبدأ العديد من مشاكل الصحّة النفسيّة والتي تتضمّن الاكتئاب في سن الـ 13 عاماً.
وعلى الرغم من دور الصحة النفسيّة والعقليّة للأم عند تشخيص الاكتئاب عند الابن المراهق، إلّا أنّه غالباً ما يُلقى اللوم عليها عند ظهور أي مشاكل نفسيّة لدى الأبناء، ويتم إهمال دور الأب، لذلك يجب أن يتم تسليط الضوء على دور الأب أيضاً في ذلك.
وحثَّ الباحثون الآباء على ضرورة طلب المساعدة واستشارة طبيب مختص في حال ظهور أعراض الاكتئاب، لأنَّه في حال عدم تلقيك للعلاج من الاكتئاب الذي تعاني منه، فقد ينعكس ذلك بشكل سلبي وخطير على ابنك. فقد توصّلت دراسة أخرى إلى أنَّ المراهق الذي كان والده مصاباً بالاكتئاب يكون أكثر بسبع مرّات عرضةً للتفكير بالانتحار من المراهق المصاب بالاكتئاب لأب سليم. كما قد يتعرَّض المراهقون المصابون بالاكتئاب لنوبات اكتئاب شديدة ومتواترة في حال كان آباؤهم مصابين بالاكتئاب، وذلك مقارنةً بآباء يتمتَّعون بصحّة عقليّة سليمة.
كما تُفيد بعض الدراسات بأنّ الفتيات يكنَّ أكثر عرضة للإصابة بأمراض نفسيّة واضطرابات عقليّة في حال أُصيب الآباء باكتئاب بعد ولادتهن. فقد خلصت دراسة شملت أكثر من 3000 عائلة في بريطانيا، إصابة واحداً من بين 20 من الآباء بالاكتئاب بَعدَ أسابيع على ولادة طفله، وأثبتت النتائج عن وجود صلة بين الآباء الذين عانوا من الاكتئاب وبناتهم الذين عانوا منه أيضاً في سن 18عاماً. وتوضّح الدراسة أنّ المخاطر المتعلّقة بالصحّة النفسيّة في هذه الحالة تشمل الفتيات فقط، والتي يُمكن تفسيرها بأمور محدَّدة ترتبط بالعلاقة بين الأب وابنته. فقد يؤدّي اكتئاب الآباء إلى زيادة التوتّر والضغط لدى الأسرة، الأمر الذي قد يؤثّر على الأطفال أيضاً.
أثر اكتئاب الأم على أطفالها:
1- مشاكل عاطفيّة وسلوكيّة لدى الطفل:
قد تتعرَّض الأم لاكتئاب بعد الولادة، والذي قد يؤثّر على الرابطة التي تجمعها مع وليدها في حال لم يتم علاجه، كما قد ينتج عنه مشاكل عائليّة أخرى. فالأمهات اللائي أُصبن باكتئاب ما بعد الولادة ولم يُقدِمن على طلب المساعدة للعلاج، يكون أطفالهم أكثر عرضةً للمعاناة من المشاكل العاطفيّة والسلوكيّة، كصعوبات النوم والتغذية، والإفراط في البكاء، وتأخُّر نمو اللغة.
2- زيادة احتمال تعرّض الطفل للإصابات:
توصّلت دراسة إلى أنَّ إصابة الأم بأعراض اكتئابيّة أثناء الحمل أو بعده تزيد من احتمالات تعرُّض الأطفال خلال سن ما قبل المدرسة للإصابات (كالسقوط على الأرض والحروق والغرق والتسمم وحوادث السيارات) والتي تُعتَبر من الأسباب الرئيسيّة للوفاة بين الأطفال، كما تكون الفتيات بشكلٍ خاص أكثر عرضةً لهذا الخطر من الفتيان.
حيث يزيد احتمال الإصابة بمشكلات سلوكيّة لدى الأطفال الذين يكون لديهم أمّهات يعانين من الاكتئاب والتي تُمثّل أحد عوامل خطر التعرُّض لإصابات، كما أنَّ أعراض الاكتئاب التي تظهر لدى الأم قد تجعلها أقل اهتماماً بالتقيُّد بإرشادات ونصائح الأمان لحماية الطفل أو متابعته، بالإضافة إلى أنَّ استجابتها الفوريّة للأوضاع غير الآمنة تكون أقل.
3- يهدّد الصحّة النفسيّة والجسديّة للطفل:
فالأطفال الذين يكون لديهم أمّهات يعانينَّ من الاكتئاب معرَّضون للإصابة بخلل في رد الفعل المناعي في أجسامهم، وبزيادة احتمالات الإصابة باضطرابات نفسيّة، وذلك وفقاً لدراسة توصَّل الباحثون فيها إلى أنَّ اكتئاب الأم قد يكون له تأثير ملحوظ على طريقة عمل أدمغة الأطفال. فنشأة الطفل مع أم مكتئبة يؤثّر بشكلٍ سلبي على قدراته الجسديّة وعلى طريقته في التعامُل مع التوتُّر وكذلك على نظامه المناعي، وهذا التأثير الجسماني قد يؤدّي بدوره إلى حدوث مشكلات نفسيّة لدى الطفل.
وشَمَلَت الدراسة 125 رضيعاً حديثي الولادة وتابعتهم حتّى صاروا في العاشرة من عمرهم، حيث قام الباحثون بقياس معدّلات هرمون كورتيزول الذي يُشير إلى معدّلات التوتُّر ومؤشّرات عمل الجهاز المناعي، ومن بينها معدّل الجلوبولين المناعي الإفرازي في الأمهات والأطفال. كما راقبوا الطريقة التي يتفاعل بها الأطفال مع أمهاتهم لمعرفة إذا ما كانوا يعانون من أي أعراض تنم عن اضطرابات سلوكيّة، بالإضافة لإجراء مقابلات مع الأمهات وأطفالهن لتشخيص الإصابة بالاضطرابات النفسيّة.
وخلص الباحثون إلى ارتفاع معدّلات الكورتيزول والجلوبولين المناعي الإفرازي لدى الأمّهات المكتئبات. كما أنَّ تصرفاتهن مع أطفالهن كانت سلبيّة، وظَهَرَت ذات النتيجة لدى أطفالهن.
4- يُضعف قدرات التعلّم لدى الطفل:
وفقاً لدراسة نشرتها مجلّة (العلوم النفسيّة)، حذَّر الباحثون من إمكانيّة تأثير إصابة الأم بالاكتئاب على النمو والتطوُّر العقلي لطفلها، وإضعاف قدرته على التعلّم.
ووجد الباحثون في جامعة كولورادو الأميركيّة، أنَّ الأطفال الرضع في عمر أربعة أشهر لأمّهات لا يعانينَّ من الاكتئاب، ربطوا صوت الأم بصورة وجه مبتسم، بينما لم يفعل أطفال الأمّهات الكئيبات، كما استجابوا لأنماط التكلُّم والحديث للسيّدات الغريبات غير الكئيبات أيضاً.
ويوضّح الباحثون أنّه رغم أن هؤلاء الأطفال قد أظهروا قدرات تعليميّة طبيعيّة، إلّا أنَّ انخفاض مستوى التشجيع والحماس من قبل أمّهاتهم المصابات بالاكتئاب قد أثّر بشكلٍ كبير على هذه القدرات التعليميّة. حيث أنَّ التشجيع اللفظي من قِبَل الآباء وتكلّمهم مع أطفالهم، يُعَد من أهم وسائل التعليم إلى جانب وسائل أخرى، لجذب انتباه أطفالهم وإسعادهم وتوسيع مداركهم. الأمر الذي يُفسّر سبب تردّي المستوى التعليمي، وقلّة الحماسة للمدرسة لدى أطفال الأمّهات المكتئبات.
وقد لاحظ الباحثون تكلُّم الأمّهات المصابات بالاكتئاب مع أطفالهنَّ بنبراتٍ حادّة، وذلك مقارنةً مع الأمهات غير المصابات، ممَّا أدّى للتأثير على حالتهم النفسيّة ومهاراتهم التعليميّة، مشيرين إلى أنَّ 10% من الأمّهات يصبن باكتئاب مرضي، بعد الولادة بفترةٍ قصيرة.
الأسرة والجينات وصلتها بالاكتئاب:
عَمِلَ باحثون على دراسة تشخيص الإصابة بالاكتئاب بين أكثر من 2.2 مليون شخص في السويد وآبائهم وأمّهاتهم وتوصّلوا إلى أنَّ العوامل الوراثيّة والبيئة الأسريّة تلعبان نفس الدور في مخاطر "انتقال" المرض من الوالدين إلى الأبناء، ممَّا يتعارض مع نتائج دراسات سابقة كثيرة خلصت إلى أنَّ الاستعداد الجيني يلعب الدور الأكبر في توارُث الاكتئاب. وبذلك فقد قام الباحثون ولأوَّل مرّة بالربط بين البيئة التي ينشأ فيها المرء وجيناته الوراثيّة من جهة ومخاطر إصابته بالاكتئاب الشديد من جهةٍ أُخرى.
ففي حال كان لدى الشخص استعداد وراثي للإصابة بالاكتئاب فقد يقع على عاتقه أن يعمل على تعزيز العوامل البيئيّة في تربية أطفاله لحمايتهم من انتقال الاكتئاب إليهم. كما يجب عليه مساعدتهم على النمو عاطفيّاً وإظهار مشاعرهم والتعبير عنها بطريقة صحيّة واختبارها ومعالجتها وتنظيمها بدلاً من كتمها أو إخفائها في أعماقه.
في النهاية فإنَّ كل من الأم والأب يحمل مسؤوليّة حماية طفله والعناية به وتجنيبه أي ظروف أو عوامل نفسيّة قد تؤثّر عليه وتجعله مصاباً بالاكتئاب أو أيّ مشكلة أخرى. في حال معاناتك كأب أو كأم من أي اضطراب نفسي أو اكتئاب لأيَ سببٍ كان فيجب عليك أن تفكّر بطفلك فالخطر لم يعد يقتصر عليك فقط وبادر إلى استشارة طبيب مختص والبدء بالعلاج على الفور.
أضف تعليقاً