فتجده تارةً عالي الطاقة والحماس والانطلاق والإيجابية، وتسيطر عليه تارةً أخرى مشاعر سلبية في منتهى القوة، وتؤثِّر في تعاطيه مع مختلف تفاصيل الحياة؛ فيتسرَّع في اتخاذ القرارات دون منحها الوقت الكافي من التفكير والدراسة، ويميل إلى خسارة الكثير من الفرص والأشخاص نتيجة طيشه وعدم تحكُّمه بمشاعره؛ فهو يعشق ثقافة "النَّسف" في حياته، ويلهث إلى محو أيِّ شخصٍ عندما يكون في حالته غير الطبيعية، ليندم بعدها ويتأسَّف على فعلته.
يغيب المنطق عنه في لحظات معينة، ولا يعترف به؛ لذا لا تُحاججه بالمنطق، ولا تنتقده على قراراته اللامنطقية؛ فهو يعيش صراعاً بين مشاعره المتضاربة، ولا يشعر بالاستقرار والراحة.
لا تنصدم إن شاهدته يعذِّب نفسه ويؤذي جسده؛ فهو لا يقدِّر ذاته، ويملك نظرة غير سوية عنها، ويأخذ من الشراسة والغضب ستاراً يُخفِي خلفه إحساسه بانعدام الأمان، ويَنتقده المجتمع على استعجاله وقراراته المتهورة، ومزاجيته المفرطة، وضياع هويته، دون أن يعلموا أنَّ وراء كلِّ هذا إنسانٌ بحاجة إلى الاحتواء والحب الحقيقي، فكلُّ تصرُّفاته ناتجة عن مخاوفه الشديدة وقلة ثقته بنفسه؛ فكم من مرة قال لشريك حياته "لا أريدك في حياتي"، ولكنَّه يقول في داخله: "أريدك، ولكنِّي أخاف من أن تغدر بي؛ لذلك سأتركك قبل أن تهجرني".
يتأرجح الشخص ذو الشخصية الحدية بين أقصى اليمين وأقصى الشمال، ويبقى تائهاً وضائعاً بينهما، دون أن يُتقِن التموضع في الوسط.
الشخصية الحدية: تعريفها، وأسبابها، وأعراضها، والتعامل معها؛ هذا ما سنناقشه خلال هذا المقال.
تعريف الشخصية الحدية:
وهي الشخصية المزاجية التي تتسم بتقلُّبٍ شديد في المزاج، حيث تتأرجح بين فترات من الإيجابية والانطلاق والسعادة والإنتاجية، لتعقبها فترات من الحزن والكآبة والفتور والكسل والشكوى والغضب؛ فيؤثِّر تقلُّب المزاج هذا في مفاصل الحياة الأساسية للإنسان، مثل الجانب الوظيفي والدراسي والاجتماعي والعائلي؛ ويميل الشخص عندما يكون في وضع المزاج المنخفض إلى اقتراف العديد من الحماقات والقرارات الخاطئة، ويتأثَّر أداؤه وإنتاجيَّته سلباً، وينفضُّ الناس من حوله وينفروا منه.
أعراض اضطراب الشخصية الحدية:
1. النظرة الدونية للذات:
تشعر الشخصية الحدية أنَّها أقل من غيرها، ولا تقدِّر قيمة نفسها؛ فتجدها دائمة التشتت والضياع، ولا تثق بما لديها من أفكار، وتستمد قيمتها من آراء الآخرين عنها.
2. ضياع الهوية:
لا تملك الشخصية الحدية مبادئ ثابتة ولا قيماً ولا رؤية واضحة عن أهدافها، حيث يخضع كلُّ شيء في حياتها إلى التغيُّر والتبدل؛ فهي لا تدري ما الذي تريده تماماً، ولا تتجمَّل بالصبر لتحقيق هدفها في حال تحديدها له، بل ترغب في ظهور النتائج مباشرة.
3. المبالغة في المشاعر وضياع التوازن:
لا تعترف الشخصية الحدية بالحلول الوسطى في حياتها؛ فعندما تفرح، تعبِّر عن فرحها بطريقة هيستيرية، كأن تضحك بجنون، وترقص بطريقة غريبة؛ لكن عندما تحزن، تتبنَّى أسوأ المشاعر السلبية، وتعيش جوَّاً من الاستياء المفرط، ويكون تفسيرها لكلِّ الأمور تفسيراً سلبياً مهما صغرت؛ فيتحول القلق لديها إلى فزع ورعب، والإحراج البسيط إلى خزي وإهانة.
غالباً ما يعرِّضها سوء إدارتها لمشاعرها إلى الكثير من نوبات الغضب والكآبة؛ فهي تتسم بتقلِّب مزاج حاد، إذ إنَّها تمر بفترات من السعادة والطاقة التي قد تستمر لساعات أو أيام، ثمَّ تعقبها فترات من التعاسة والكسل والشكوى.
4. السلوك غير المسؤول:
عندما تختبر الشخصية الحدية فترات المزاج المنخفض، تعيش المشاعر السلبية بكامل قوتها، الأمر الذي يجعلها تميل إلى القيام بسلوكات مندفعة وطائشة وغير مسؤولة، كأن تقرِّر تعاطي المخدرات أو الخمر، وغيرها؛ وذلك بهدف التخفيف والهروب من وضعها النفسي المُزري؛ ولكنَّها تشعر بالندم بعد ذلك، وتعود إلى دائرة المشاعر السلبية من جديد.
5. إيذاء الجسد:
بسبب عدم قدرتها على التعامل مع مشاعرها السلبية القاسية ونوبات غضبها وجنونها؛ تميل الشخصية الحدية إلى إيذاء جسدها كنوع من جلد الذات، وكأسلوب للتعبير عن البركان الداخلي الذي يعتمل في نفسها.
6. النسف وعدم المرونة:
تتبنَّى الشخصية الحدية ثقافة التطرف في تعاطيها مع أمور الحياة وأشخاصها، فمثلاً: في حال قام شخص ما بتصرف سلبي معها، فإنَّها تنسفه تماماً، ولا تسامحه البتة؛ الأمر الذي يعرِّضها إلى خسارة الكثير من الأشخاص الإيجابيين في حياتها؛ فهي لا تعترف بمقولة "الكمال للَّه وحده".
كما يسيطر الخوف من الهجر على علاقاتها العاطفية؛ وذلك لأنَّها شخصية مهزوزة الثقة بنفسها، فتُهيمن عليها فكرة أنَّ الطرف الآخر سيهجرها في أيِّ لحظة.
شاهد بالفيديو: 8 طرق لتحسين حالتك المزاجية في 5 دقائق
أسباب تشكّل الشخصية الحدية:
1. العامل الوراثي:
تزيد احتمالية إصابة الطفل باضطراب الشخصية الحدية في حال كان أحد والديه أو أقربائه من الدرجة الأولى مصاباً به.
2. عوامل أخرى تُضاف إلى العامل الوراثي:
يُعزِّز وجود عوامل أخرى في بيئة الطفل إصابته باضطراب الشخصية الحدية؛ مثل:
- العصبية: عندما يكون أحد الوالدين عصبياً، والآخر مصاب باضطراب الشخصية الحدية؛ سيُعزِّز ذلك من احتمال إصابة الطفل بهذا الاضطراب
- العنف الجسدي والجنسي: يؤدِّي تعرُّض الطفل إلى اعتداءات جسدية أو جنسية في مراحل طفولته إلى زيادة احتمال إصابته باضطراب الشخصية الحدية، وذلك مع وجود العامل الوراثي في العائلة.
- الإهمال الشديد: يكون الطفل المُهمَل نفسياً من قبل والديه أكثر تعرُّضاً إلى الإصابة باضطراب الشخصية الحدية، وذلك مع وجود الاستعداد الوراثي في العائلة.
- فقدان أحد الوالدين: يؤدي فقدان أحد الوالدين -سواء بالطلاق أم الوفاة- إلى زيادة احتمال إصابة الطفل باضطراب الشخصية الحدية، وذلك مع وجود الاستعداد الوراثي في العائلة.
كيفية التعامل مع الشخصية الحدية:
- على الأهل أن يَعُوا أنَّ الشخص الحدي شخصٌ يُخفِي في داخله الكثير من الضغوطات النفسية التي تظهر بشكل تقلبات مزاجية حادة، وسلوكات طائشة، ونوبات من الغضب والجنون، وسيلٍ من القرارات الخاطئة؛ لذلك عليهم أن يحتووا ابنهم ويتقبَّلوه ويحبُّوه كما هو، فهو يعيش صراعاً كبيراً بين صدٍّ ورد، وحالة من عدم الاستقرار والأمان.
- على الأهل اللجوء إلى مختصٍّ نفسي لمساعدتهم في التعامل مع هذا الاضطراب، وتقديم المعونة للشخص المريض.
- استثمار فترات المزاج المرتفع لدى الشخص الحدي، مثل: مدح الأهل له على كلِّ تصرف يقوم به، وتقديم الحب والاهتمام له.
- على الأهل احتواء الموقف في حالات غضب المريض، وعدم التعامل مع المريض بمشاعر حادة وانتقادات؛ بل العمل على تقبُّل الوضع، وعدم التطرق إلى الحديث بأشياء منطقية وعقلانية معه، مثل: الكلام عن اللَّه، وعن الصواب والخطأ؛ فهو لا يفهم لغة العقل في أثناء نوبات غضبه؛ أمَّا في حال تماديه في الحالة واستخدامه العنف، فعلى الأهل هنا الانسحاب ريثما يهدأ ويعود إلى رشده.
- في حال وجود تهديدات في أثناء نوبات الغضب، كأن يُهدد المريض بالانتحار أو إيذاء نفسه؛ على الأهل محاولة تركه يعبِّر عن مشاعره السلبية ويُخرِجها خارج قلبه، كأن يسألوه عن الأمور التي تشعره بالضيق النفسي، بدلاً من انتقاده ورفض تصرفاته.
- على الأهل مراقبة ابنهم باستمرار، والتعامل مع الاضطراب من بدايته قبل أن يستفحل؛ وذلك من خلال الانتباه إلى الإشارات التي تُنذِر بوجود خطب ما في ابنهم، مثل وجود حروق أو خدوش في جسده، وتهديده المستمر بالانتحار في أثناء غضبه، وغيرها.
- على الأهل الإنصات إلى الابن المريض باهتمام وتركيز مهما كان ما يقوله، فهو بأمس الحاجة إلى الإصغاء والرعاية.
- بناء جسر تواصل دائم مع الابن المريض، بحيث لا يكون هناك لوم أو انتقاد أو توبيخ، بل تقبُّل واحتواء ومشاركة، حيث يفقد الأهل ابنهم باعتمادهم أسلوب الجدال المستمر والتدقيق المزعج والنصائح الجامدة؛ كما عليهم تبنِّي نظام الأسئلة المفيدة في العلاقة مع الابن، كأن يسألوه: كيف كان يومك؟ ولماذا تبدو أنَّك لست على ما يرام؟ أنا جاهز لكي أسمعك، فأخبرني ما الذي يزعجك.
- على الطرف المرتبط عاطفياً بشخص ذي شخصية حدية استيعاب الصراع الداخلي الذي يعيشه، وإحساسه المستمر بانعدام الأمان، حيث يريد الشخص الحدي بقاء شريك حياته معه؛ ولكن تجعله ثقته الضعيفة بنفسه يخاف من غدر الطرف الآخر به وهجره له؛ لذلك تجده يميل إلى الابتعاد وترك شريك حياته كخطوة استباقية تقيه ألم الغدر.
الخلاصة:
الوصول إلى التوازن هدف كلِّ إنسان في الحياة، ولن ينال أولئك الذين يعشقون القمة أو القاع السلام في حياتهم البتة؛ لذلك اسعَ إلى التوازن، وابذل الجهد في سبيله، واعلم أنَّه يبدأ من الحب والاحتواء؛ فلن تكون شخصاً متوازناً نفسياً إن لم تُتقن عشق نفسك وتقديرها أولاً، ومن ثمَّ الآخرين.
أضف تعليقاً