لم يكن لدى الأسرة أي شيء تقريباً: لا موقد ولا ثلاجة، وكان البالغون ينامون على السجادة، والطفل الذي عاد إلى المنزل وهو على جهاز التنفس الصناعي، كان في سلة غسيل، ملفوفاً بقطعة قماش. وبعد أن رأت حياة الأسرة، قامت بازي بالعمل على مساعدتهم؛ إذ جمعت الأجهزة والأدوات المنزلية الإضافية من أقربائها وقدمتها لهم في اليوم نفسه؛ ولكنَّ تأثير هذه التجربة بقي ملازماً لها لفترة طويلة.
لاحظت بازي الفقر المنتشر في مدينتها، ووعدت نفسها بأنَّها ستعمل على مساعدة العائلات الأخرى على تخطي مثل هذا الألم. نميل إلى التفكير في التعاطف كرد فعل تلقائي؛ ولكنَّ دراسة جديدة تشير إلى أنَّه في حين أنَّ معظمنا لديه القدرة على الشعور بألم الآخرين، فإنَّنا نميل أكثر إلى التعاطف عندما تكون لدينا الرغبة في القيام بذلك، كما حدث مع بازي؛ وهذا يعني التركيز على هذه الرغبة. دافعنا لفهم مشاعر الآخرين ووجهات نظرهم، يمكن أن يكون وسيلة هامة لإيقاظ تعاطفنا وتنمية مجتمع أكثر تعاطفاً.
تأثير التعاطف:
يبدو التعاطف أحياناً غريزياً وفورياً مثل سحب يدك عن شيء ساخن. كتب الفيلسوف آدم سميث (Adam Smith) في عام 1790: "عندما نرى شخصاً آخر يتعرض لسكتة دماغية ويسقط على ساقه أو ذراعه، فإنَّنا نسحب ساقنا أو ذراعنا إلى الخلف تلقائياً".
قد يبدو هذا وكأنَّه ظاهرة بدائية للغاية، ولكن عندما يبدأ الطفل بالبكاء، قد يبكي مثله أطفال آخرين لا تتجاوز أعمارهم سنة أو سنتين، ولكن في حين أنَّ التعاطف يمكن أن ينشط بسرعة، فإنَّ هذا التنشيط ليس مضموناً.
إنَّ استجابتك لرؤية شخص جائع يجلس على الرصيف أو لعائلة لاجئة تكافح، يعتمد على عدد من العوامل، كماضيك ووجهة نظرك عن الشخص المحتاج، بالإضافة إلى تأثير الآخرين في وجهة نظرك. وخلال محاولة مساعدة الناس على تنمية تعاطفهم، تميل برامج التدريب على التعاطف السابقة إلى إخفاء مثل هذه العوامل الظرفية.
بدلاً من ذلك، فقد ركزوا على تقوية الفطنة العاطفية لدى الناس من خلال تدريس مهارات مثل "تبنِّي المنظور؛ وهو تدريب الطلاب على رؤية الأشياء من وجهة نظر شخص آخر" أو كيفية فهم مشاعر الآخرين. ومع ذلك، تظهر دراسات المتابعة لهذه البرامج أحياناً أنَّ تأثيرها يتلاشى مع مرور الوقت.
تقول إريكا وايز (Erika Weisz)، عالمة النفس في جامعة هارفارد (Harvard University): "إنَّ الفكرة القائلة إنَّ جميع تدخلات التعاطف بحاجة إلى تعزيز المهارات هي فكرة خاطئة؛ فمعظم الناس لديهم هذه المهارات بالفعل"؛ ولكنَّها لاحظت أنَّ الناس يختارون عدم استعمالها في مواقف معينة.
وفي دراستهم الجديدة، ركزت وايز وزملاؤها على غرس التعاطف من خلال تعزيز الحافز لدى الناس للتعاطف مع الآخرين. وكانت النتائج مذهلة، عندما عزز الباحثون رغبة الطلاب في التعاطف، كان الطلاب أكثر دقة في تحديد ما يشعر به الآخرون بعد شهرين. وكما أفاد بعضهم منهم بتكوين صداقات أكثر حميمية.
تضخيم الدافع:
قامت وايز وفريقها، ومعهم عالم النفس في جامعة ستانفورد (Stanford University) جميل زكي (Jamil Zaki)، بإشراك طلاب جامعيين جدد، الذين بطبيعة الحال لديهم قدرات على فهم المشاعر الخاصة بهم والتي تتناسب مع الفروق الاجتماعية الدقيقة في بيئتهم.
تقول وايز: "عندما يصل الطلاب إلى الحرم الجامعي، يكون لديهم هذا الاندفاع الكبير في الانفتاح على التجربة؛ إذ كنا في وضع جيد لمعرفة كيف يعمل التحفيز في هذه البيئة".
اختبر الفريق ثلاث طرائق مختلفة لزيادة دافع الطلاب للتعاطف مع الآخرين. وفي إحدى الدراسات، قرأ المشاركون رسالة افتراضية من طالب جديد يواجه صعوبة في التكيف مع المدرسة الثانوية، ومن ثم طُلِب منهم الرد عليه برسالة وإخباره أنَّه يجب عليه العمل على تعاطفه كما فعلوا هم، وأنَّ القيام بذلك سيساعده على التواصل مع زملائه في الفصل.
شجع هذا الإعداد الطلاب الذين كتبوا الرسائل على تبنِّي مفهوم أنَّ التعاطف يمكن تعزيزه، كما توضح وايز: "عندما نطلب من أحد المشاركين المصادقة على بيان لشخص آخر، فإنَّهم يميلون إلى تأييد هذه المعتقدات بأنفسهم"؛ وهذا بدوره يمكن أن يعزز دافعهم لصقل تعاطفهم؛ لأنَّهم يعتقدون أنَّ جهودهم ستؤتي ثمارها.
وفي دراسة أخرى، قدم الباحثون للطلاب نصوصاً عززت لديهم التعاطف كقاعدة اجتماعية، بما في ذلك شهادات من طلاب آخرين حول أهمية التعاطف في حياتهم، وبعد ذلك، كتب المشاركون رسائل إلى طلاب المرحلة الثانوية أكدوا فيها كيف أنَّ التعاطف أمر طبيعي وسائد ومتوقع في مجتمعهم.
وشاركت مجموعة ثالثة من الطلاب، المجموعة المشتركة بين المجموعتين، في نشاط مزج عناصر من التمرينين الأولين، وكتبت مجموعة التحكم بسهولة رسائل تتناول التحديات الأكاديمية للطلاب؛ إذ دعمت النتائج حدس وايز بأنَّ تصعيد حافز الناس من شأنه أن يعزز تعاطفهم؛ إذ أظهر المشاركون في كل دراسة دقة أعلى عندما طُلِب منهم وصف ما يشعر به الأشخاص الذين تحدثوا في مقطع فيديو، مقارنةً بالمجموعة الأخرى.
كانت هذه التأثيرات ثابتة، على حد تعبير وايز، واستمرت لمدة ثمانية أسابيع على الأقل بعد انتهاء الدراسات؛ إذ أفاد أعضاء المجموعة المشتركة أيضاً بتكوين صداقات أكثر حميمية في الجامعة، ربما بسبب تحسن تعاطفهم؛ وهو أمر تقول وايز إنَّه قد يهيئهم للنجاح في وقت لاحق في الحياة، كما قالت: "الحصول على هذا المستوى من التكامل الاجتماعي هام حقاً؛ إذ إنَّها تتوقع جميع أنواع النتائج الصحية الإيجابية".
كيف تشجع الرغبة على التعاطف؟
التحفيز للشعور بألم شخص ما لا يعني بالضرورة أن تقول في نفسك: "يفهم أصدقائي ما يشعر به هذا الشخص؛ لذلك سأحاول مساعدته"، أو "يمكنني تقوية تعاطفي الشخصي؛ لذلك يجب عليَّ مساعدته".
ومثل أنواع التأثير الأخرى، غالباً ما يعمل الدافع على مستوى اللاوعي، ومن خلاله تتكون أولوياتنا بطرائق عميقة مع مرور الوقت. ويوضح مسار حياة الممرضة بازي كيفية العيش بتعاطف؛ حيث كانت مسقط رأسها مدينة ديربورن، بالقرب من مدينة ديترويت (Detroit)، وكانت مليئة باللاجئين من مختلف البلدان الذين كانوا دائماً على استعداد لمساعدة بعضهم بعضاً.
كان الجيران يجلسون على الشرفة الأمامية يتقاسمون الطعام، وقالت بازي للمخرجة كاثلين تونر (Kathleen Toner) في قناة "سي إن إن" (CNN): "كان الأطفال ينتقلون من منزل إلى منزل بكل أريحية، وكان مقدار الاهتمام الذي يكنه الناس لبعضهم بعضاً رائعاً جداً؛ هذا هو المكان الذي تعلمت فيه أن أحب جاري".
ومثل الأشخاص في دراسة وايز، استوعبت الممرضة بازي الأعراف الاجتماعية التي تعطي قيمة عالية للتعاطف، وحفزتها على فعل الشيء نفسه؛ إذ تشير أبحاث أخرى إلى أنَّ التأثيرات الاجتماعية يمكن أن تعزز بسلاسة هذا النوع من التأثيرات في بناء القيم. وفي دراسة أساسية عن رجال الإنقاذ في المحرقة "الهولوكوست" (Holocaust)، غالباً ما كان لدى أولئك الذين أنقذوا الناس من النازيين نماذج يحتذى بها داخل أسرهم؛ وهذا ساعدهم على تنشيط رغبتهم في خدمة الآخرين.
وعندما كان الوقت مناسباً، ألهم هذا الدافع المتجذر بازي لخدمة مجتمعها على نطاق أوسع؛ إذ أدت مساعدة الأسرة اللاجئة التي تكافح وطفلها على تذكير بازي بعدد الأشخاص الذين كانوا في الوضع نفسه، وفي عام 2004، أُنشِئَت رسمياً منظمة غير ربحية تسمى "زمان الدولية" (Zaman International) لخدمة الأسر الفقيرة في جميع أنحاء مترو ديترويت (metro Detroit)، وحتى الآن، قدمت شركة زمان الأساسيات مثل الأثاث والطعام والتدريب الوظيفي لأكثر من 250000 شخص.
كيف تقوي التعاطف؟
بعد أن أثبتنا أنَّ الرغبة يمكن أن تؤثر في التعاطف، تفكر وايز (Weisz) وزكي (Zaki) وزملاؤهما في كيفية تحسين هذه النتيجة لبرامج التدريب على التعاطف، وتقول وايز إنَّ أحد المفاتيح هو أن يأخذ مصممو البرامج الاحتياجات والرغبات الفريدة للمشاركين في الحسبان.
من المحتمل أن تبدو دورة التعاطف الفعالة في مكان العمل مختلفة تماماً عن تلك المصممة لطلاب الجامعات؛ إذ سيعتمد نجاح النتائج على دوافع الناس في كل حالة، فإذا كان الموظفون الشباب في شركة ناشئة حريصين على إرضاء رؤسائهم، فيمكن لهؤلاء الرؤساء التركيز على إرسال رسالة واضحة من خلال الأفعال وكذلك الكلمات، بأنَّهم يقدِّرون التعاطف بين العمال الذين يشرفون عليهم.
كما أنَّ المرضى الذين لديهم أطباء متعاطفون يتمتعون بصحة أفضل؛ وهذا ينعكس جيداً على الأطباء. ونظراً لأنَّ طلاب المدارس الإعدادية يتفقون مع اختيارات أصدقائهم، فقد جربت وايز عرض مقاطع فيديو لطلاب الصف السابع لأقرانهم يتحدثون عن فوائد التعاطف.
يقول زكي: "هذا النهج يبشر باستكمال بناء المهارات وإنشاء قائمة من خيارات تعزيز التعاطف المصممة لاحتياجات الناس"؛ إذ تقدم نتائج دراسة وايز نظرة ثاقبة عن كيفية تحفيز تعاطفنا في سياقات مختلفة، من التطوع إلى إنقاذ شخص ما في حالة سيئة.
فعندما تحيط نفسك بالآخرين الذين يَعُدُّون التعاطف فضيلة أساسية، فمن المرجح أن يبدأ هذا المعيار الاجتماعي في التأصل، كما حدث مع الطلاب في تجارب وايز، وعندما تعتقد أنَّه يمكنك صقل مهاراتك في التعاطف من خلال بذل الجهد واتباع نهج "عقلية النمو" في التعامل مع التعاطف، ستكون أكثر ميلاً للقيام بذلك.
تقول وايز: "الناس متحمسون ومستعدون لزيادة تعاطفهم إذا اعتقدوا أنَّهم يستطيعون ذلك؛ إذ يظن الكثير من الناس أنَّ التعاطف صفة ثابتة؛ ولكنَّ التركيز على الدوافع يؤدي إلى تغييرات دائمة".
أضف تعليقاً