لقد بنى الكثير من الأشخاص أمجادهم من خلال تلك السيناريوهات المتخيَّلة، حيث برعوا في تحويل أحلامهم إلى واقع، وأدركوا أنَّ بداية أي نجاح عبارة عن فكرة وصورة ذهنية، وأنَّ الباقي يتوقف على الشخص نفسه ومدى طموحه وسعيه؛ بينما غاص آخرون في أحلامهم الإيجابية المحفِّزة، وبالغوا في عيشها حتى أصبحت بديلة عن واقعهم، فقد حوَّلوها إلى مخدر يسكِّن آلامهم، ويُضعِف عزيمتهم، ويشوِّش هويَّتهم، ويُضعِف انسجامهم مع محيطهم، ويتسبب بفشلهم في تحقيق أهدافهم؛ واستمروا على هذا المنوال إلى أن غرقوا في تفاصيلها وأضاعوا مفتاح العودة إلى الواقع، وبقوا أسرى واقعهم الخاص الذي نسجوه من خيالاتهم وأمنياتهم، وتاهوا ما بين الحقيقة والوهم.
يكون الحلم متعة حقيقية عندما يُترجَم إلى مشروع على أرض الواقع، ويكون داعماً لنا من أجل عيش الواقع أكثر، والتواصل مع أشخاصه بعمق أكبر، والوصول إلى أهدافنا بقوة؛ في حين أنَّه يتحوَّل إلى نقمة عندما يجعلنا نعيش الوهم بكل أبعاده ويُبعدنا عن الحقيقة؛ لذا اسأل نفسك: هل تثريك أحلامك أم تكبِّلك؟ هل تجعلك تعيش الواقع بقوة أكبر ومرونة أكبر، أم أنَّها تبعدك عن الواقع وشخوصه تماماً؟
ما هي أحلام اليقظة؟
هي مجموعة من الأفكار والمشاعر الإيجابية التي تصرف عقل الإنسان عن الحاضر وتجعله يعيش واقعاً افتراضياً من صنع خياله، ما أنَّها سلاح ذو حدين، ففي حين تكون وسيلة رائعة لكل شخص طموح وشغوف تحفزه على العمل والإبداع للوصول إلى أهدافه، إلا أنَّها تتحول إلى نقطة ضعف لدى الشخص الذي يعتمدها وسيلة للهروب من واقعه الأليم، بحيث يدمن الخيالات الإيجابية عن ذاته ومحيطه، ويزيد الفجوة بين أحلامه وواقعه، ويضيع في هذه الفجوة ويلهث وراء الأوهام.
أسباب تكوُّن أحلام اليقظة السلبية:
1. التربية القاسية:
يعرِّض الأسلوب التربية القاسي الطفل إلى الكثير من المشكلات النفسية؛ فبدلاً من أن يكون الأبوان مصدر الأمان والثقة والحنان لابنهما، يتحولان إلى مصدر ضعف وخيبة وخوف وعدم استقرار؛ وذلك من خلال وصف ابنهما بألفاظ غير لائقة، والتقليل من قيمة أفكاره ومبادراته، والتحجيم من منطقية جدالاته وأسئلته؛ ممَّا يضغط على الطفل نفسياً، ويصيبه بتراكمات سلبية شديدة، ويجعله يستخدم خياله لصنع واقع يرغب فيه، كأن يصنع في خياله سيناريو لعائلة راقية يكون هو أحد أفرادها، ويعامله الأبوان بمنتهى الحب والاحتواء؛ فتجده دائم التخيل لهذا السيناريو خلال يومه، ويتبناه تبنياً تاماً، ويبتعد عن الواقع، ويعلن ولاءه لواقعه الخاص فحسب.
2. ضعف الشخصية وعدم القدرة على التكيُّف مع المحيط:
قد يعاني الكثير من الأشخاص من ضعف الثقة بأنفسهم نتيجة التربية القاصرة والتجارب السلبية التي خضعوا لها، وقد يتصف بعض الأشخاص بالخجل الشديد والخوف من التواصل مع الناس دون أن يُعالَج الأمر بالطريقة الصحيحة طوال السنوات الماضية؛ الأمر الذي يخلق لدى الشخص صعوبات في الانخراط مع المحيط والدفاع عن حقوقه والتعبير عن أفكاره ومكنوناته؛ فيلجأ نتيجة لذلك إلى صنع سيناريوهات في خياله تساعده على عيش الحياة التي يريدها، بحيث ينسى ضعفه الشخصي، ويهرب من ألمه وحزنه.
يشكِّل الشخص أحلام اليقظة في أثناء وعيه واستيقاظه، وغالباً ما تكون غير واقعية (أي لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع)، الأمر الذي يجعل الشخص يعيش تناقضاً كبيراً عندما يعود إلى واقعه الحقيقي، ويجد الفجوة الكبيرة بينه وبين أحلام اليقظة، ممَّا يجعله يعاود الإحباط من جديد وصولاً إلى إدمان أحلام اليقظة وإعلان قطيعة واقعه تماماً.
3. الفراغ:
يؤدِّي الفراغ وعدم الانشغال بالأنشطة المفيدة إلى فسح المجال للخيال لكي ينسج ويصمِّم أحلام اليقظة؛ بينما في حال إشغال العقل بجدول أعمال غني ومفيد، فلن تجد أحلام اليقظة السلبية مكاناً لها في حياة الشخص؛ ذلك لأنَّه منشغل بحياته وواقعه، ويتطور يومياً، ولا وقت لديه لأحلام غير منطقية لا تضيف إلى مساره أي فائدة.
4. التعب والتوتر:
يؤدي عدم قدرة الشخص على التعامل مع ضغوطات الحياة والعمل وتسليم دفة التحكم بحياته للتوتر والقلق إلى إصابته بأحلام اليقظة السلبية كوسيلة للهروب من الكم الكبير من الضغط؛ فبدلاً من العمل على اكتساب المهارات للتعامل الجيد مع الضغوطات، وتعلُّم تسليم الأمور إلى رب العالمين دون القلق بشأنها؛ يأخذ الشخص من أحلام اليقظة سبيلاً لبلوغ الراحة والأمان النفسي.
شاهد بالفيديو: 8 نصائح للتخلص من التعب والإرهاق الدّائم
إيجابيات أحلام اليقظة:
تعدُّ أحلام اليقظة هامة جداً، ومصدراً للإبداع والتميز في حال جرى استخدامها على نحو سليم؛ حيث بدأ كل إنجاز عظيم في العالم بحلم يقظة، كأن يتخيل الشخص ذاته محققاً هدفه الذي يطمح إليه، أي أن يزرع رغباته في اللاوعي ويسقيها يومياً من خلال تكرار خيالاته الإيجابية، دون أن يجعل من الخيالات تلك وسيلة تبعده عن واقعه، بل ينصهر من خلالها في الواقع، ويبتكر الطرائق التي تساعده على تحقيق هدفه المتخيَّل، ويحاول مراراً وتكراراً مع الثقة والإيمان بأنَّه سينجح لا محالة.
إنَّها وسيلة تحفيزية تعزز من حماسة الشخص وترفع من طاقته لبلوغ هدفه، وتصريف الكبت الموجود في لاوعيه؛ إذ قد يتراكم في لاوعي الشخص الكثير من التجارب السلبية والأحداث الماضية الضاغطة، فيجد في أحلام اليقظة وسيلة إيجابية تريحه وتجعله قريباً من أهدافه، ولكنَّه لا يبالغ في استخدامها، ويبقى واعياً ومتيقِّظاً ومتنبِّهاً.
كما أنَّها وسيلة للوصول إلى الهدوء ولحظات السلام الداخلي؛ فعندما يستخدم الإنسان أحلام يقظة إيجابية، كأن يتخيل ذاته وهو ناجح ومشهور، ويكون هذا الهدف واقعياً ومتناسباً مع قدراته وإمكاناته ومتداخلاً مع عمل وسعي وإرادة حقيقية؛ سيمنحه ذلك سعادة وراحة ومشاعر إيجابية.
سلبيات أحلام اليقظة:
تعدُّ وسيلة للهروب من الواقع؛ فعوضاً عن أن يواجه الشخص مشكلاته وضغوطاته، يلوذ إلى الخيال ونسج السيناريوهات التي تخدِّر آلامه، الأمر الذي يزيد من إحساس الإنسان بالانهزام النفسي وعدم القدرة على الانخراط في الواقع، ويُضاعِف عدم ثقته بذاته؛ ذلك لأنَّه يقارن بين أحلامه وواقعه الحقيقي، فيقع في فخ الإحباط من جديد، ويعود إلى هروبه مجدداً.
على سبيل المثال: يهرع مَن يعاني من خجل شديد وقلة ثقة بذاته إلى أحلام اليقظة في حال تعدَّى أحد ما على حقوقه وقلَّل من احترامه، فيتخيَّل ذاته في موقف مسيطر وقد استرد حقه من ذاك الشخص بقوة شخصية وثقة عالية بالنفس؛ إلَّا أنَّه عندما يعود إلى واقعه، سيجد أنَّه دافع عن حقه في خياله فحسب، الأمر الذي يُحبِطه ويشعره بأنَّه فاقد السيطرة على حياته كلياً، وأنَّه لا فائدة تُرتجَى منه، فيدمن بعد ذلك اللجوء إلى أحلام اليقظة لكي يستمر في هروبه من واقعه الأليم.
علاج أحلام اليقظة:
- يعود السبب الأساسي للانخراط في أحلام اليقظة والانفصال التام عن الواقع إلى الفراغ وعدم ملء الوقت بما يفيد ويثري الدماغ؛ إذ تكمن الخطوة الأولى في علاج أحلام اليقظة في العمل على الانخراط في نشاطات عديدة ومفيدة، كالرياضة، والموسيقى، والرسم، وقراءة الكتب الغنية.
- العمل على كتابة الأهداف على الورق بدلاً من الاعتماد على الخيال فحسب؛ إذ من شأن ذلك أن يدرِّب العقل على ترجمة الأفكار إلى أفعال، ففعل الكتابة له قوته في جعل الإنسان أكثر تنظيماً وترتيباً لأهدافه، وتصميماً على بلوغها، وواقعية في اختيارها.
- التدرب على الاستعانة باللَّه، وتسليم الأمور إليه، فبدلاً من اللجوء إلى أحلام اليقظة للتخفيف من حجم التحديات والمشكلات الواقعة على كاهل الإنسان، يكمن الحل البديل في طلب العون من اللَّه والتوكل عليه بعد الأخذ بالأسباب الممكنة والمتاحة.
- تستحق الحياة أن تُعاش بكامل لحظاتها، وبكل ما تحمله من إيجابيات وسلبيات؛ لا أن تُعاش في الخيال والأوهام والهروب من الواقع.
- على الإنسان أن يَعِي نقاط قوته، ويعمل على استثمارها؛ ويدرك نقاط ضعفه ويعمل على إدارتها وتعديلها ومعالجتها؛ كما يجب أن يرسم أهدافاً واقعية متناسبة مع قدراته ومهاراته.
- لا يوجد شيء أجمل من الحلم، فهو بداية كل إنجاز في الحياة؛ لذلك علينا أن نعتمد الحلم الإيجابي الذي يعقبه عمل وسعي وجهد، لا الانغماس بالأحلام المخدِّرة التي تفصلنا عن الواقع، وتدرِّبنا على الاستسلام والهروب.
الخلاصة:
للأحلام وجهان؛ إذ يعدُّ الوجه الملائكي لها نقطة قوتنا ومصدر أملنا، فهي مَن تحركنا إلى الجانب الأفضل والفرص الأرقى والخيارات الأسلم؛ في حين يكمن جانبها المظلم الشيطاني في التبنِّي المُطلَق والاستسلام لها، بحيث تتعدى على مساحة واقعنا تعدياً كاملاً، وتحوِّلنا إلى مرضى وهمٍ ومهووسي خيالات، وتشل إرادتنا عن الإتيان بأي خطوة فعلية حقيقية مهما كانت صغيرة؛ ولك أنت حرية القرار، فإمَّا أن تجعل منها شرارة تُوقِظ إبداعك، أو مخدراً ينهش واقعك.
أضف تعليقاً