مفهوم المناعة النفسية وطرق تقويتها

بينما ينهار شخص ما جسدياً ونفسياً في أثناء اختباره تجربة انفصال عاطفية قاسية، يقضي شخص آخر حزنه بطريقة مختلفة وأكثر قوة بكثير؛ إذ يسمح لنفسه باختبار المشاعر السلبية، ولكن من دون استرسال شديد، فيحاول جاهداً تقبُّل الأمر، وسؤال نفسه عن الدروس التي تعلَّمها من تلك التجربة القاسية في حياته؛ حيث تختلف ردود أفعال الأشخاص تجاه التجارب التي يعيشونها، بناءً على مناعتهم النفسية، وهنا تأتي أهمية العمل على تقوية مناعتنا الذاتية، من أجل تخطِّي كل تحديات الحياة وعراقِيلها.



لم تُخلق الحياة لتكون مثالية أو وردية؛ بل خُلِقت لتكون مضمار تجارب إيجابية وسلبية، ويبدو أنَّ كل الكون مبرمج على مسألة المراحل والأطوار؛ لذلك عليك بالتطور والارتقاء في كل مرحلة من حياتك، لكي تصل إلى النسخة الأفضل منك، وإلى المناعة النفسية العالية التي تريدها.

لا يجوز في حال من الأحوال العيش في دائرة التوقعات العالية، كأن تتوقع حياة رائعة، وأشخاصاً محيطين تثق بهم ثقة عمياء، وفُرصاً ذهبية في كل مكان؛ إذ تجعلك دائرة التوقعات العالية، شخصاً ذا مناعة نفسية ضعيفة؛ الأمر الذي يُفقِدك الراحة والمتعة.

كم عدد المرات التي استيقظت فيها باكراً من دون أن تمتلك الرغبة في النهوض، وكأنَّ هناك حالة من التبلُّد والكسل مسيطرة عليك، تقول بينك وبين نفسك: "لا أملك المناعة النفسية الكافية لكي أحيا يومي، لقد مللت كل شيء، وطاقتي قد نفدت كلياً"، "أشعر أنَّ دموعي ستنهار من جرَّاء أصغر موقف قد أتعرَّض له"، كم عدد المرات التي شعرت فيها أنَّ الحياة قاسية جداً، وعوضاً عن السعي إلى العثور على حل لتعزيز مناعتك الذاتية، تُفضِّل الغوص في مشاعر الضعف تلك؛ الأمر الذي يجعلك ضعيفاً وهشاً وغير قابل للتطور.

تُرى هل تستحق الحياة أن نعيشها بكآبة وملل، وضيق دائم وتذمر، وتدقيق على أصغر الأشياء وأكثرها سخفاً، أم تستحق مِنَّا السعي إلى ابتكار حلول إبداعية لجعلنا أكثر سعادة ومتعة ورضا.

ما المناعة النفسية، وما طرائق تعزيزها؟ مدار حديثنا خلال هذا المقال.

ما هي المناعة النفسية؟

هي الحل الإبداعي القادر على تخليصك من القلق الدائم، ومشاعر الكآبة المُبالغ فيها، ومن عادة التدقيق والتذمر والشكوى، وتنسف المناعة النفسية الطريقة التقليدية في إدارة المشاعر السلبية؛ إذ يميل معظم البشر إلى البكاء والنحيب والعزلة، في حالة حدوث ظرف سلبي معهم، ويستمرون في هذه الحالة فترات زمنية طويلة، وقد يؤدي استمرارهم هذا إلى تغيير كبير في أفكارهم وقناعاتهم، بحيث يتبنون معتقدات سلبية عن الحياة والناس.

تمنحك المناعة النفسية قدرة أكبر على التحكم بمعدلات القلق والتوتر لديك، كما تشفيك من إحساس الضيق، ومن اضطرابات النوم والجهاز الهضمي، وتضعك أمام أساليب جديدة للتعامل مع حالات ضعفِك وهشاشتك؛ حيث تستطيع معالجة المواقف السلبية في حياتك من دون أن تزيد الوضع سوءاً.

أهمية المناعة النفسية:

تختلف ردود أفعال الأشخاص عند تعرِّضهم لحادث سلبي ما، بناءً على الجهاز المناعي النفسي لكل شخص منهم على حدة؛ إذ إنَّك قد تجد مَن ينهار ويختل توازنه عند إصابته بحادث سلبي ما، وبالمقابل، قد تجد مَن يتصالح مع الأمر، ويعود لتوازنه بأسرع وقت ممكن.

لا يعني امتلاكك المناعة النفسية، أنَّك لن تختبر أي شعور سلبي؛ بل يعني تعاملك السليم مع المشاعر السلبية، وقدرتك على إبقائها ضمن الحدود الطبيعية، وتعافيك المبكر من التجارب القاسية في حياتك؛ لذلك كان لزاماً على كل شخص فينا، العمل على تقوية مناعته النفسية.

نفسك هي عدوٌّ لك:

من أهم أسباب نقص المناعة النفسية هي نفسك، التي تتألف من العقل الواعي ومن العقل اللاواعي؛ حيث يقوم العقل اللاواعي المشاكس باستحضار الكم الهائل من الأفكار السلبية خلال يومك، وتحديداً في اللحظات الأولى من الاستيقاظ، وفي لحظات ما قبل النوم، وقد تتعلق الأفكار بالماضي أو المستقبل، كأن تقلق على مستقبلك، وتندم على ماضيك، ممَّا يُفقِدك متعة اللحظة الحاضرة ورونقها، أو تكون أفكاراً لها علاقة بنظرتك المهزوزة تجاه نفسك، والتي تعززها تجارب ماضية قاسية.

إقرأ أيضاً: تعرّف على آلية مواجهة الأفكار السلبية لعيش حياة إيجابية وسعيدة

كيف أقوِّي مناعتي النفسية؟

1. التمسك باللحظة:

عليك أن تكون واعياً لكل محاولات عقلك الباطن الخبيثة، لجعلك أضعف وأكثر هشاشة؛ حيث خُلِق الماضي لكي نتعلَّم منه ونكتسب الخبرة والمعرفة، لا لكي نبكي عليه ونندب حظَّنا، ونندم على ما فقدناه من فرص، وما خسرناه من علاقات وأشخاص.

والمستقبل موجود لكي يكون لدينا أهداف ورؤى نعمل عليها الآن لبلوغها، ولم يوجد من أجل تعطيل مرحلة السعادة والهناء الحالية، والتعويل على لحظة واحدة لا تتجاوز دقائق عدة، فعلى سبيل المثال، قد تقف على قمة جبل "إيفرست" دقائق عدة فقط، فإن كنت ممَّن حرموا أنفسهم اللذة والمتعة والسعادة خلال طريق رحلتك إلى "إيفرست"، وأجلَّت اختبار المشاعر الإيجابية إلى لحظة بلوغك القمة؛ أستطيع أن أقول لك إنَّك ظالم لنفسك وبشدة، فالسعادة تكمن في الطريق، وليس في النتيجة وحسب.

2. الانتباه للنِعم:

عندما تركز على ما بين يديك، يخفُّ لديك الميل إلى المقارنة بينك وبين الآخرين، كما تختبر مشاعر الامتنان والحب لكل تفصيل من تفاصيل حياتك، فتقوى لديك المناعة النفسية تلقائياً، وتتبادر إلى ذهنك الأفكار الإبداعية مبادرة متدفقة وغزيرة؛ لذا خصِّص كرَّاساً خاصاً بإحصاء النِّعم التي لديك، لكي تتذكر يومياً هذه النِّعم وتشعر بالأمان والامتنان.

3. الحياد:

كن حيادياً مع الأشخاص المحيطين بك، ولا تتوقع أنَّك المسؤول عن إصلاحهم؛ حيث يملك كثيرٌ من الأشخاص قدرة هائلة على امتصاص طاقتك الإيجابية، كأن يقولوا لك: "كيف لك أن تبتسم في وسط كل هذا الخراب الذي نعيشه؟"، "أما زلتَ مؤمناً بالشغف والحلم، على الرغم من كل العراقيل المحيطة بك؟"؛ حيث يقوم بعض الأشخاص بتصدير الطاقة السلبية، كأن يجيبوا عن كامل أسئلتك بالشكوى والتذمر والرفض والسلبية؛ لذلك اعمل على إحاطة نفسك بأشخاص إيجابيين ومنطلقين ومحبين للحياة.

4. التجاهل:

لا تبالغ في تضخيم الأمور، وضع الأمور في نصابها الصحيح، فحياتك ثمينة، ولا تستحق أن تُرهِق أعصابك في التدقيق على صغائر الأمور وتوافهها، فلن تتحطم الحياة إن تأخرت زوجتك قليلاً في تحضير موعد الغداء، ولن ينتهي العالم إن قام ابنك بتصرُّف مغاير لما قلت له.

فكِّر في النتائج، واسأل نفسك: "هل يستحق التصرف الذي قام به ابني كل ذلك الانفعال والسخط؟"، "أيهما أهم؛ علاقتي مع ابني، أم كلمتي التي لا يجوز كسرها وتجاوزها؟ وهل يستحق الأمر تعريض علاقتي معه إلى الشرخ والانكسار؟"؛ حيث يساعد التجاهل على تقوية مناعتك النفسية، ويزيد قدرتك على تقبُّل المواقف في حياتك، علاوة على أنَّه يوفر طاقتك بحيث توضع في المكان المناسب لها.

5. التسامح:

إنَّ طاقة الكره خطيرة جداً على صحة الإنسان، فهي تورث كثيراً من المشكلات العضوية، وتمنعه من العيش بسلام وهدوء؛ لذلك على الإنسان السعي لتعلُّم مهارة التسامح؛ حيث تنبع كل تصرفات الإنسان من القيم؛ لذلك كل شخص قام بإيذائك في الحياة، هو شخص يحمل قيماً سلبية في حياته، ويستحق الشفقة والمساعدة، وليس الكره والاحتقار؛ وهذا لا يعني الاستكانة أمام التعدِّي على الحقوق؛ بل على الإنسان الدفاع عن حقوقه وبقوة، ولكن من دون تبنِّي طاقة الكره البغيضة.

شاهد بالفديو: أهمية التسامح للفرد والمجتمع

6. السعادة:

تعطيك مشاعر السعادة درجةً عاليةً من الحماسة والمناعة النفسية، وهنا عليك تحديد الحالات والنشاطات والمواقف التي تُسعدك، ومن ثمَّ العمل على صنعها وتنفيذها في حياتك.

7. مخالفة هواك:

لا تستمتع لنفسك التي تجعلك تميل إلى الكسل والراحة الدائمة، وتسعى إلى إبقائك مركزاً على الماضي والمستقبل، فتنسيك عيش اللحظة، وتمنعك من تجاهل الأمور التافهة، وتُبعدك عن التسامح والعفو، وتُعظِّم مستوى غضبك وسخطك على الآخر بدلاً من التماس العذر له.

8. التفسير:

اخلق قصة إيجابية لكل تجربة حدثت معك، فلعلَّ خسارتك لوظيفتك كانت أكبر نعمة في حياتك؛ إذ إنَّها حرَّكت مواهبك وطاقاتك، وجعلتك تطوِّر من نفسك، لتحصل على وظيفة أرقى وأفضل، ولعلَّ فقدانك لذلك الشخص العزيز في حياتك، كان أكبر درس لتعلُّم المسؤولية والبعد عن الاتكالية قد تعلَّمته في حياتك، ولعلَّ الوعكة الصحية التي اختبرتها، كانت أكبر معلِّم لك، لكي تضع الصحة في قمة أولوياتك.

9. الاسترخاء:

يساعد الاسترخاء على طرد الأفكار السلبية من حياتك، والتأمل في كل تفصيل إيجابي من تفاصيل الحياة؛ الأمر الذي يقوِّي من مناعتك النفسية، وتصل إلى مرحلة الاسترخاء من خلال عملية التنفس الصحيحة، كأن تتنفس من الأنف بعمق، ومن ثم تخرج الزفير ببطء شديد.

10. الأهداف:

تُعدُّ الأهداف من أكثر معززات المناعة النفسية التي تجعلك تنهض بعد كل تحدٍّ من تحديات الحياة، بكامل القوة والعزيمة؛ لذا ضع لنفسك هدفاً لكي تنعم بالسعادة والحماسة.

11. الثقة بالله:

لا تقلق على نتائج أعمالك؛ إذ ما عليك إلا السعي وفقاً لإمكاناتك المتاحة، ومن ثمَّ التوكل على الله؛ لذا سلِّم كل مخاوفك وقلقك لله عزَّ وجلَّ، فهو القوة الأكثر احتواءً لها، والأكثر قدرة على معالجتها، وإن رغبت في الشعور بالأمان والاطمئنان، ابقِ علاقتك قوية مع الله تعالى.

إقرأ أيضاً: 7 نصائح لتقوِّي صلتك بالله سبحانه وتعالى

12. العِلم:

تعطيك حالة العِلم والبحث والسعي في المجال الذي تحبه وترغب في العمل به؛ مناعة نفسية قوية، بحيث تكون قادراً على تجاوز العقبات التي ستظهر لك في مسارك المهني.

13. الاستشارة:

استشر مَن هم أكثر منك معرفة وحكمة وتجربة، ممَّن تثق بهم؛ إذ ستعطيك هذه الاستشارة أفكاراً غنية أكثر، ورؤية أعمق عن الحياة وأساليب التعامل معها.

الخلاصة:

لا تهتم بمناعتك الجسدية فحسب، فكما أنَّ جسدك بحاجة إلى فيتامينات ومعادن، فكذلك روحك بحاجة إلى معززات ومنشطات من شأنها المحافظة على داخلك ممتلئاً وبراقاً وراقياً وقوياً.

المصادر: 1، 2، 3




مقالات مرتبطة