قبل الاستخفاف بفكرة الاسترخاء ووضعها ضمن قائمة الأفكار المُكررة والمُستهلَكة دعنا نكتشف ما الاسترخاء فعلاً، وكيف يُمارَس بشكلٍ صحيح، والطرق العديدة التي يمكن أن يؤثِّر من خلالها في صحتَيْك البدنية والذهنية.
ما هو الاسترخاء؟
لقد نجا أجدادنا الذين عاشوا في عصور ما قبل التاريخ من الأخطار الطبيعية التي كانت تهددهم عبر تفعيل "النظام العصبي الودي"، إذ حينما كانوا يرون أنَّ ثمَّة تهديداً ما كانت تتشكل لديهم سلسلة روابط عصبية تدفع الجسم إلى تعزيز دوران الدم، ورفع معدل نبضات القلب، وإفراز مزيد من الغلوكوز، وإعاقة الهضم، وإضعاف الاستجابة المناعية، والتفكير بطريقةٍ أقل منطقية. أتاحت هذه التغيرات الجسدية قصيرة المدى لأسلافنا اكتساب جرعة مؤقتة من القوة، والجَلَد، والقدرة على التركيز - ومن ثمَّ النجاة من الخطر الذي يداهمهم. لقد عاش الأشخاص الذين يمتلكون جهازاً عصبياً وديَّاً قوياً وتكاثروا فجعلوا غريزة البقاء جزءاً من الحمض النووي للبشر.
تُعَدُّ غريزة البقاء ضروريةً جداً عندما يكون ثمَّة خطر حقيقي، لكن بالنسبة إلى معظم الناس الذين يعيشون في العصر الحديث ليست التهديدات المادية هي التي تُفَعِّل عمل الجهاز العصبي الودي - بل التهديدات النفسية. إذ عندما يكون ثمَّة مواعيد نهائية يجب الوفاء بها في العمل، وزحمة مواصلات، وأزمة علاقات، وأعباء مالية، وقوائم مهام لا تنتهي يتوقف الجسم عن التعافي وحده ويمتنع عن التواصل، وتنعدم القدرة على التفكير الإبداعي.
يمكن تعريف الاسترخاء بأنه العملية التي يُفعَّلُ من خلالها الجهاز العصبي نظير الودي ويتوقف الجهاز العصبي الودي عن العمل مما ينقل الجسم من وضعية التعامل مع التهديدات بمنطق غريزة البقاء إلى وضعية التعامل معها بهدوء وتروِّي. لا يتنشط الجهاز العصبي نظير الودي إلَّا حينما يشعر الدماغ أنَّ البيئة آمنة، والاسترخاء يرسل رسالةً للدماغ مفادها أنَّه خارج دائرة الخطر ولا بأس في أن يتخلى عن أقصى درجات اليقظة.
كيف تسترخي؟
إنَّ تعلُّم كيفية إعادة الاسترخاء للعقل ليس أمراً معقداً، إذ إنَّ كل شيءٍ يحقق لك المتعة، ويجلب لك الهدوء، ويساعدك في تركيز الانتباه سَيَفِي فعلاً بالغرض. في المرة القادمة التي تشعر فيها بالرغبة في الاسترخاء جرب اتباع الطرق الآتية:
1- تمارين التنفس:
خذ نفساً عميقاً، واحبس أنفاسك مدة 3 ثواني، ثمَّ أطلقها، أتشعر باسترخاءٍ أكبر؟ يعزز التنفس ببطءٍ ورويَّة شعور الجسم بالاسترخاء، وتُعَدُّ اليوغا كنزاً حقيقياً فيه العديد من تمارين التنفس التي تستطيع جميعها إعادة الهدوء للعقل والاسترخاء للجسم.
2- التأمُّل:
هدف التأمل هو أن تعيش في اللحظة التي تعيشها وأنت بكامل وعيك، ومن خلال مراقبة الأنفاس، والفواصل التي بينها، والأفكار بعناية كما لو كنت شخصاً محايداً سيتوجه تركيز انتباهك نحو اللحظات التي تعيشها، وحينما تتخلى عن التفكير في الماضي أو المستقبل ستعثر على الحاضر الذي يُعَدُّ المكان الوحيد الذي تستطيع الاسترخاء فيه.
3- ممارسة التمارين الرياضية:
بينما يساعد التأمل في الدخول إلى لحظات الحاضر من باب العقل تتيح لك ممارسة التمارين الرياضية دخولها من باب الجسم، إذ تزيل التمارين الرياضية التوتر العضلي، وتخفف الشعور بالقلق، وتحرق هرمونات التوتر. وتقوم اليوغا بشكلٍ خاص بالجمع بين تمارين التنفس والتواصل مع البيئة المحيطة مما يعيد الاسترخاء إلى الجسم والعقل بشكلٍ متزامن.
4- أفكار أخرى:
من ضمن الأفكار الأخرى التي تمنح الإنسان شعوراً بالاسترخاء:
- الاستماع إلى ألحانٍ موسيقيَّةٍ هادئة.
- الجلوس في أحضان الطبيعة.
- المشي على الشاطئ.
- إجراء جلسات تدليك.
- قراءة الكتب.
- الاستحمام بالماء الدافئ.
ما فوائد الاسترخاء؟
تخفيف الشعور بالضغط والإحساس بالاسترخاء لهما فوائد كبيرة على مستويَيْ الصحة الذهنية والبدنية من تمتّعٍ بالصحة، وتحلٍّ بالإبداع، والكثير من الأمور الأخرى:
1- التفاؤل:
أظهر أحد الأبحاث أنَّ الآثار التي يُحْدِثُها الاسترخاء تقي من الإصابة بالاكتئاب والقلق، وقد ذكَرَتْ التقارير أنَّ هذه الآثار تكون أكثر وضوحاً لدى البالغين كلما كانوا أكبر سنَّاً، وفي دراسةٍ أخرى قلَّت الأعراض التي تعكس الشعور بالقلق والكآبة لدى مجموعة من الناس عند التدرب معاً على مهارات الاسترخاء. ومع ارتفاع معدلات الاكتئاب حسبما تذكر التقارير ألَن يكون من الجميل أن تعرف أن تعلّم الاسترخاء يمكن أن يقيك وحده مما يدعوه الباحثون "مرض العصر"؟
2- تحسين الذاكرة:
وجد الباحثون في مركز (Cedars-Sinai) الصحي ومعهد كاليفورنيا التقني أنَّ أقوى الذكريات وأكثرها دواماً هي تلك التي يحتفظ بها الدماغ حينما يتأثر بأشعة "ثيتا"، التي هي موجات دماغية ترتبط بممارسة الإنسان للاسترخاء. ويقول "آدم ماميلاك" جراح الأعصاب الذي يعمل في مركز (Cedars-Sinai) الطبي في لوس أنجلس: "يُظْهِر البحث الذي أجريناه أنَّ الذكريات تكون أقوى حينما تكون الخلايا العصبية متناسقةً تناسقاً جيداً مع موجات ثيتا خلال عملية التعلم".
3- تعزيز قوة الجهاز المناعي:
توصل الباحثون المختصون بمجال المناعة العصبية النفسية إلى أنَّ الحالة الذهنية تستطيع إمَّا أن تعزز قوة الجهاز المناعي وإمَّا أن تدمِّره. وأظهر بحثٌ شمل حوالي 300 دراسة أنَّ الشعور المزمن بالضغط أدى إلى تدهور المناعة من جميع الجوانب، حيث يصبح الجسد غير قادرٍ على التصدي لنزلات البرد المعروفة ولا درء خطر الإصابة بالسرطان عن الإنسان. لكن ممارسة الاسترخاء تحافظ على عمل الجهاز المناعي بأقصى طاقته.
4- تقليل خطر الإصابة بأمراض القلب:
وفقاً لبحثٍ نُشِرَ في مجلة (Journal of the American Heart Association) قد يؤدي الشعور بالاسترخاء من خلال ممارسة التأمل دوراً مهماً في الوقاية من أمراض القلب أو التخفيف من آثارها، وقد أظهرَتْ عشرات الدراسات التي أُجريَت خلال العقدين الماضيَيْن أنَّ الاسترخاء يقلل العوامل المسببة لأمراض القلب كالضغط، والقلق، والاكتئاب، وارتفاع ضغط الدم، وعدم النوم جيداً.
5- تقوية العلاقات:
يقول الخبراء إنَّ تأثير الشعور بالضغط في علاقات الحب التي نعيشها أكبر مما نتوقع أو ندرك، إذ يشبِّهون الشعور بالضغط بلعبة "تنس الطاولة" (البينغ بونغ) حيث يعتبر التوتر بمنزلة الكرة التي يتقاذفها الشريكان فيَكْثُر بينهما الشِجار والخلاف، ويبتعد أحدهما عن الآخر، ويشعران بانعدام التواصل، والحزن، والإحباط، والغضب. لكنَّ الاسترخاء يُعَدُّ الترياق المضاد للشعور بالضغط ومن خلال المشاركة في أنشطة تخفف حدة ردود الفعل غير المحسوبة ستكون أكثر قدرةً على التواصل بشكلٍ أفضل مع الشريك. عند الشعور بالاسترخاء ستكون قادراً أيضاً على منح الحب وتلقيه.
6- النوم جيداً:
لا يستطيع الجسم النوم إذا كانت غريزة البقاء هي التي تسيطر عليه، لكنَّ الاسترخاء يعيد الهدوء إلى العقول المشغولة بالتفكير من خلال مساعدتها في مراجعة الأحداث التي شهدَتْها خلال اليوم قبل النوم. ثمَّة تصرفات معينة تعيد الشعور بالاسترخاء يمكن المواظبة على القيام بها قبل النوم للحصول على قسطٍ وافرٍ من الراحة. ويذْكُر الباحثون أنَّ الاسترخاء يمكن أن يساعد الإنسان في التعافي من الأرق والنوم بشكلٍ أفضل ليلاً.
7- زيادة مستويات الطاقة:
من الطبيعي أن يستهلك الإحساس بالضغط كميةً من الطاقة أكبر من التي يستهلكها الاسترخاء، لكن حينما تتحكم بمشاعر الضغط وتستريح دائماً لتستعيد الشعور بالاسترخاء يمكنك الاحتفاظ بالطاقة على مدار اليوم. وعوضاً عن مغادرة العمل وأنت تشعر بالتعب الشديد والإرهاق يتيح لك الشعور بالاسترخاء في أثناء العمل مغادرته وأنت مفعم بما يكفي من الطاقة لممارسة الأنشطة الترفيهية، وقضاء الوقت مع العائلة، والتمرن. إنَّ أخذ قسطٍ من الراحة من أجل الاسترخاء يمكن أن يؤثر بشكلٍ إيجابيٍّ في عملك أيضاً لأنَّه يتيح لك الاستفادة من قدرة الاسترخاء على تعزيز القدرات العقلية واستعادة الهدوء والتركيز الذهني.
8- تعزيز الإبداع:
لقد كان الأشخاص الحالمون دائماً أشخاصاً مبدعين وقد عرفنا الآن سبب ذلك، إذ وفقاً لبحثٍ أُجري في مجال علم الأعصاب يحدث الإبداع في اللحظات التي يشعر فيها الإنسان بالراحة أكثر ممَّا يحدث في لحظات العمل أو التفكير، هذا يعني أنَّ الأشخاص الذي لا يمنحون عقولهم قسطاً من الراحة بين الفينة والأخرى يدمرون في الواقع قدرتهم على الإبداع. وتشير نتائج بحثٍ أُجري مؤخراً إلى أنَّ التأمل، الذي يجتمع فيه استرخاء العقل مع استرخاء الجسد، يعزز التفكير الإبداعي.
9- تخفيف الشعور بالألم:
يشعر جميع الناس بنوعٍ من أنواع الألم بين الحين والآخر لكن قبل الاستعانة بعلبة الحبوب المسكِّنة للألم جرب أن تلجأ إلى الصيدلية الموجودة في داخلك، إذ تبيَّن أنَّ الاسترخاء من خلال ممارسة التأمل يُعَدُّ مسكِّناً فعالاً وقوياً للآلام.
10- زيادة التحفيز:
أشعرْتَ من قبل أنَّك متحمسٌ لتحقيق أهدافك الشخصية أو أحلامك حينما كنت تشعر بالضغط بسبب العمل، أو المال، أو العلاقات؟ على الأرجح لا. التحفيز مصدره الإلهام، والإلهام بدوره يأتي من الاسترخاء، فإذا كنت تريد تحفيز نفسك بشكلٍ أكبر ابدأ تخصيص بعض الوقت لإعادة الاسترخاء إلى عقلك والاستمتاع بالحياة. حينما تكون هادءاً ومتماسكاً ستشعر أنَّك متحمسٌ لتحقيق جميع الأهداف الجديرة بالاهتمام.
فوائد الاسترخاء واضحة وكل شخصٍ يستفيد من نوعٍ محددٍ من أنواع الاسترخاء فابحث عن الأنواع التي تجد أنَّها تحقق لك الفائدة.
أضف تعليقاً