كيف تكون سعيداً وفقاً للعلم؟

في عام 2014، أطلق اثنان من علماء النفس في جامعة "كاليفورنيا، بيركلي" (University of California, Berkeley)، دورة تدريب عبر الإنترنت لهدف نبيل: تعليم الطلاب كيف يكونون سعداء، من خلال العلم والممارسة، في ثمانية أسابيع فقط.



الأمر المدهش هو أنَّ دورة التدريب قد نجحَت، وشارك الآلاف من الطلاب في دورة "علم السعادة"، حيث تعلَّم الطلاب عن علم التواصل والتعاطف والامتنان واليقظة الذهنية. وربما الأهم من ذلك أنَّهم أكملوا أيضاً سلسلةً من الأنشطة البسيطة التي تشير الأبحاث إلى أنَّها تزيد السعادة.

أولئك الذين شاركوا بشكل كامل رأوا أنَّ مشاعرهم الإيجابية تزداد كل أسبوع، حيث أبلغوا عن شعورهم بحزن وتوتر ووحدة وغضب وخوف أقل، بينما كانوا في الوقت نفسه يشعرون بمزيد من التسلية والحماسة والمودة، فضلاً عن شعور أكبر بالانتماء للمجتمع. وخلال الدورة، زادت سعادة الطلاب ورضاهم عن الحياة بنحو 5%، واستمر هذا التعزيز حتى بعد أربعة أشهر من انتهاء الدورة (على الرغم من صعوبة تحليل هذه النتيجة تماماً، فقد يكون بسبب القيام بالأنشطة، أو فهم الطلاب الجديد لسيكولوجية السعادة، أو أمر مختلف تماماً)؛ إذاً كيف يتحقق هذا الأمر؟ وهل يمكِنك حقاً تغيير مدى سعادتك بهذه السهولة؟

يُؤكِّد البحث إمكانية ذلك، حتى في الأوقات الصعبة، مثل انتشار جائحة فيروس كورونا.

قابلية السعادة للتطويع:

تقول "لوري سانتوس" (Laurie Santos)، أستاذة علم النفس في "جامعة ييل" (Yale University) والتي تدرِّس دورةً مجانية في منصة "كورسيرا" (Coursera) تُدعى "علم السلامة" (The Science of Well-Being): "هناك اعتقاد خاطئ بأنَّ السعادة متأصلةٌ فينا، ولا يمكِننا تغييرها".

إحدى النظريات الشائعة التي تشير إلى أنَّه يمكِننا التأثير في مشاعرنا هي الرسم البياني للسعادة، والمقترَح في بحث نُشِر عام 2005 في مجلة "ريفيو أوف جينرال سايكولوجي" (Review of General Psychology). في ذلك الوقت، اقترح الباحثون أنَّه في حين 50% من سعادتك تحددها جيناتك و10% ظروف حياتك، فإنَّ 40% تحددها أنشطتك اليومية. وعلى الرغم من أنَّ هذه الدراسة واجهَت انتقادات (لأنَّها بسيطةٌ للغاية ولا تأخذ في الحسبان كيفية تفاعل جيناتك وبيئتك)، إلا أنَّها تطرح فكرةً مقبولة على نطاق واسع وهي: أنَّه يوجد جزء على الأقل من سعادتك تحت سيطرتك.

تقول "سانتوس": "يُظهر العلم أنَّ ظروف حياتنا - مثل كم نحن أغنياء، وما هي الوظيفة التي نعمل بها والممتلكات المادية التي نمتلكها - لا تهمنا كثيراً فيما يتعلق بالسعادة". وتُظهر الأبحاث أنَّ الأغنياء هم أسعد من الفقراء، ولكن ليس بمعدل كبير.

هناك مفهوم كبير خاطئ آخر، وفقاً لـ "إميليانا سيمون توماس" (Emiliana Simon-Thomas)، التي شاركَت في تدريس دورة "بيركلي" لعلم السعادة (The Science of Happiness)، وهو أنَّ السعادة هي ذاتها الحالة العاطفية الإيجابية المستمرة، فأن تكون سعيداً لا يعني أنَّك تشعر بالبهجة والسعادة الخالصة كل ساعة من كل يوم، حيث تواجه انتكاسات ومشكلات وفقدان أحبائك، وهذه المشاعر السلبية جزء أساسي من حياتك أيضاً.

يقول الخبراء: إنَّ السعادة تعني تقبُّل التجارب السلبية، وامتلاك المهارات اللازمة لإدارتها والتعامل معها، واستخدامها لاتخاذ قرارات أفضل لاحقاً.

تقول "إيميليانا": "نعتقد أنَّ السعادة هي سلسلة من الإجازات والإنجازات وتحقيق أهداف الحياة، ولكنَّ الأشخاص الذين يسعون وراء السعادة بهذا التفكير ينتهي بهم الأمر إلى أن يكونوا أقل سعادةً من الأشخاص الذين يعرِّفون السعادة بطريقة أكثر شموليةً وترتبط بجودة الحياة".

شاهد بالفيديو: 20 قيمة في الحياة تقودك إلى السعادة والنجاح

كيف تجعل نفسك أكثر سعادةً وفقاً للعلم؟

الأمر الرائع في أن تكون قادراً على التحكم على الأقل في جزء من سعادتك هو أنَّه يمكِنك القيام بذلك في المنزل أو في أي مكان مجاناً. فيما يلي خمسة تمرينات أظهرَت الدراسات السريرية أنَّها تحسِّن من شعورك بالسعادة والعافية:

(تحذير هام: بالنسبة إلى الأشخاص الذين يعانون من القلق السريري أو الاكتئاب أو مشكلات أخرى تتعلق بالصحة النفسية، فإنَّ هذه التمرينات ليست بديلاً عن العلاج أو الأدوية أو الحلول المهنية الأخرى. ومع ذلك، تشير بعض الأبحاث إلى أنَّها يمكِن أن تكون مفيدةً كمكمِّل لهذه الخدمات).

1. تعزيز علاقاتك الاجتماعية:

وجدَت دراساتٌ متعددة أنَّ التواصل الاجتماعي هو العامل الأكبر الذي يؤثر في السعادة. فواحدة من أكثر الدراسات إقناعاً هي الدراسة التي أجرتها "جامعة هارفارد" حول تنمية البالغين (Harvard Study of Adult Development)، والتي استمرَّت لأكثر من 80 عاماً في متابعة حياة مئات المشاركين، والآن أطفالهم.

اكتشف الباحثون أنَّ العلاقات الوثيقة مع الأزواج والعائلة والأصدقاء وأفراد المجتمع هي العامل الأكبر في إبقاء الناس سعداء طوال حياتهم، فالأشخاص ذوو العلاقات القوية أكثر سعادةً وأكثر صحةً جسدياً ونفسياً من أولئك الذين هم أقل ارتباطاً. ولا يزال الباحثون يدرسون الصلة بين العلاقات والصحة الجسدية، فهناك دليل على أنَّ العلاقات الجيدة تؤدي إلى انخفاض مستويات هرمونات التوتر والالتهابات المزمنة، والعلاقات الجيدة (وليس عددها) تنبِّئ بحياة طويلة وسعيدة أكثر من الانتماء إلى طبقة اجتماعية مرموقة أو ارتفاع معدل الذكاء، وذلك وفقاً للدراسة.

كان مدى أهمية العلاقات في السعادة أمراً مفاجئاً، كما يقول "روبرت والدينجر" (Robert Waldinger)، المدير الحالي للدراسة، والذي شاهد الناس حديثه على منصة "تيد" (TED Talk) عام 2015 حول موضوع السعادة هذا أكثر من 34 مليون مرة، حيث يقول: "لقد توصلنا إلى أنَّه إذا كانت لديك علاقات جيدة، فمن المحتمل أن تكون أكثر سعادةً، لكنَّنا لم نصدِّق في البداية البيانات التي توضح لنا أنَّ العلاقات الجيدة تحافظ في الواقع على صحة أجسادنا وتساعدنا على العيش لفترة أطول، ثمَّ بدأَت دراساتٌ أخرى في العثور على النتيجة نفسها".

يقول "والدينجر": إنَّ هذه العلاقات تتطلب العمل، فيجب عليك التواصل الدائم مع الناس، مما يعني منحهم وقتك واهتمامك، خاصةً في أثناء الجائحة، فاتصِل بهم ودردش معهم عبر مكالمات الفيديو، أو اخرج معهم مع حفاظك على التباعد الاجتماعي ما أمكن.

ووجدَت الدراسة التي أجرتها "جامعة هارفارد" أنَّ المكونات الأخرى لحياة طويلة وسعيدة تشمل عدم التدخين أو تعاطي الكحول وممارسة الرياضة بانتظام وإيجاد التوازن بين العمل والحياة.

إقرأ أيضاً: كيف تحقق التوازن بين العمل وحياتك الشخصية؟

2. القيام بأفعال عشوائية بدافع اللطف:

ابحث عن طرائق للقيام بأفعال لطيفة وعشوائية خلال يومك، فيمكِن أن تكون هذه الأفعال بسيطةً للغاية كمجاملة شخص غريب في محل البقالة على ملابسه أو صنع القهوة لزوجتك قبل العمل أو إجراء محادثة ودية على مواقع التواصل الاجتماعي مع زميل في العمل لا تتحدث معه عادةً.

وفقاً لسلسلة من الدراسات التي أجرتها الأستاذة في علم النفس "سونجا ليبومرسكي" (Sonja Lyubomirsky) في جامعة "كاليفورنيا" (UC)، يمكِن أن يجعلك أداء أعمال عشوائية بدافع اللطف تشعر بالسعادة وأقل اكتئاباً وقلقاً، فتنوُّع تلك الأعمال التي تقوم بها للآخرين له تأثير طويل الأمد في سعادتك.

تقول "إيميليانا": إنَّ هذا الأمر ينجح لأنَّ هذه الأفعال صادرةٌ عن سلوكك الاجتماعي الإيجابي والطبيعي، أو الدافع البشري الأساسي لمساعدة الآخرين، فعندما تستثمر ما لديك لتعزيز عافية الآخرين، فإنَّ نظام المكافأة في عقلك ينشط، حيث تشعر بالرضا لأنَّك جعلتَ الشخص الآخر يشعر بالرضا.

3. التعبير عن الامتنان:

يؤدي تدوين ثلاثة أشياء تشعر بالامتنان لها في نهاية كل يوم، ولماذا حدثَت، إلى زيادة السعادة على الأمد الطويل وانخفاض أعراض الاكتئاب، وذلك وفقاً لدراسة أجراها "مارتن سيليجمان" (Martin Seligman)، مدير مركز "علم النفس الإيجابي" (Positive Psychology Center)، عام 2005. فلا يهم مدى كبر الأشياء التي تدوِّنها أو صغرها، وما عليك سوى تدوينها في دفتر ملاحظات أو على تطبيق "نوتس" (Notes) أو باستخدام طريقةٍ أخرى، على سبيل المثال: يمكِنك كتابة "أنهيتُ المقالة لأنَّني عملتُ بجد عليها، أو خضتُ حديثاً جيداً مع صديقتي لأنَّها اتصلَت بي، أو ذهبتُ في نزهة ورأيتُ بعض الكلاب اللطيفة، وكان يوماً رائعاً".

كما تقول "إيميليانا": الهدف هو تدريب عقلك أن يركز على الأجزاء الجيدة من حياتك، بدلاً من توجيه انتباهك إلى الأشياء المسببة للتوتر أو الانزعاج.

تضيف "سانتوس" أنَّ الجائحة قد تجعل الشعور بالامتنان أكثر صعوبةً، لكنَّ قضاء بعض الوقت في ذكر النِّعم التي تحصل عليها حتى الآن لا يزال وسيلةً قويةً لتحسُّن حالتك النفسية والصحية.

4. ممارسة تأمل اليقظة الذهنية:

ربما تكون قد جرَّبتَ بالفعل تطبيقات ممارسة اليقظة الذهنية كلها، لكنَّ تمريناتٍ مثل التأمل التي تعلِّم عقلك التركيز على الحاضر بدلاً من الماضي أو المستقبل يمكِن أن تزيد من مشاعر قبول الذات، وذلك وفقاً لدراسة أجرتها "المجلة الدولية للسلامة" (International Journal of Wellbeing) عام 2011.

تقول "إليزابيث دن" (Elizabeth Dunn)، أستاذة علم النفس في "جامعة كولومبيا البريطانية" (University of British Columbia): "الفكرة هي أن تكون حاضر الذهن؛ لذا لا تحكم على عواطفك؛ بل تعرَّف إليها". وإذا كنتَ بحاجة إلى مساعدة، فقد ساعدَت "إليزابيث" في إطلاق مجموعة مجانية من تمرينات العافية تُسمى "السلام"، من قِبَل شركة التكنولوجيا "هابي ماني" (Happy Money)، وتستخدم هذه التمرينات الأبحاث في علم النفس الإيجابي والعلاج السلوكي المعرفي لزيادة السعادة وتقليل مشاعر التوتر.

(تحذير آخر: إذا كنتَ تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة، فاستمِر في ممارسة اليقظة الذهنية بحذر أو استشِر طبيبك أولاً؛ لأنَّ تمرينات اليقظة قد تكون محفِّزةً كما يقول الخبراء؛ لأنَّها يمكِن أن تكشف عن الصدمة).

إقرأ أيضاً: 3 عادات بسيطة لممارسة تأمل اليقظة الذهنية

5. ممارسة التعاطف مع الذات:

قد يكون هذا هو العنصر الأكثر صعوبةً في القائمة كما تقول "إيميليانا"، وتقول إنَّ الناس في الغرب على وجه الخصوص تبنُّوا النقد الذاتي كقيمة ثقافية، ويميلون إلى معاقبة الذات عند التعامل مع النكسات والفشل، لكنَّ النقد الذاتي المفرط يعوق تحقيق أهدافك.

هناك ثلاثة أجزاء لممارسة التعاطف مع الذات، والتي تعتمد على بعض التمرينات الأخرى في هذه القائمة: كن حاضراً في اللحظة بدلاً من التركيز على الماضي أو القلق بشأن المستقبل، وافهم أنَّ الانتكاسات هي جزء من كونك إنساناً، وكل الناس يختبرونها، وابتكِر صوتاً داخلياً داعماً بدلاً من صوت عدائي ينتقد الذات.

يمكِنك العمل على صقل صوتك الداخلي الداعم عن طريق كتابة رسالة إلى نفسك، باستخدام النبرة ذاتها التي كنتَ لتستخدمها إذا كنتَ تكتب إلى قريب أو صديق طلب الدعم منك، على سبيل المثال: إذا فقدتَ وظيفتك، فقد تقسو على نفسك بسبب ذلك، ولكن إذا فقد صديق وظيفته، فمن المرجح أن تقول: "يا صديقي، لم يكن مقدَّراً أن تعمل بهذه الوظيفة. لديك الكثير لتقدِّمه وستجد الفرصة المناسبة".

تقول "إيميليانا": "إنَّها وسيلةٌ للاستفادة من طريقة مختلفة للتحدث مع أنفسنا، وهو أمر مهم للقدرة على إدارة الصعوبات والنكسات، والنمو من تحديات الحياة".

دور العِرق في السعادة:

تشترك كل دراسة ورد ذكرها تقريباً عن السعادة والعافية في أمر واحد: الغالبية العظمى من الباحثين والمشاركين كانوا من البيض. ويُعَدُّ نقص التنوع مشكلةً كبيرة في معظم مجالات البحث النفسي، فمن بين أكثر من 26000 مقالة تجريبية نُشِرَت بين عامي 1974 و2018 في مجلات علم النفس المعرفي والتنموي والاجتماعي المرموقة، سلط 5% فقط الضوء على العِرق، ووفقاً لدراسة من "جامعة ستانفورد" (Stanford University) نُشِرَت في يونيو، وجدَت أنَّ غالبية المحرِّرين والمؤلِّفين في مجلات علم النفس كانوا من البيض.

يقول "ستيفن أو روبرتس" (Steven O. Roberts)، المؤلف الرئيس للدراسة والأستاذ المساعد لعلم النفس بجامعة "ستانفورد": "هناك أهمية نظرية وأهمية اجتماعية في مجرد التأكد من تمثيل البشر جميعاً في العلم الذي ندرسه، فمن وجهة نظرٍ إحصائية بحتة، بالتأكيد لا يمكِنك أخذ النتائج من مجموعة فرعية من المواطنين الأمريكيين البيض من الطبقة الوسطى واستخدام ذلك لتقديم استنتاجات حول السعادة؛ لأنَّ السعادة تمتد بشكل واضح إلى ما وراء ذلك".

يقول "والدينجر": إنَّ العديد من أساسيات أبحاث السعادة، وفاعلية التمرينات المذكورة أعلاه، من المرجح أن تنطبق على المجموعات العِرقية؛ لأنَّ البيولوجيا البشرية الكامنة أقوى من الاختلافات بين المجموعات.

أحد المبادئ الأساسية للعلوم البيولوجية هو أنَّ العِرق لا يؤدي دوراً في كيفية استجابة الدماغ لمحفزات معيَّنة. ومع ذلك، فقد بدأ الباحثون أيضاً في تعلُّم المزيد عن علم الوراثة اللاجيني، وهو مجال علمي ناشئ يدرس كيف يمكِن للصدمة أن تنشِّط جينات معيَّنة، وكيف يمكِن أن ينقل الناس هذه الجينات إلى أطفالهم.

يقول "روبرتس": "يمكِن أن تؤدي التجارب الاجتماعية المرتبطة بالهوية العِرقية إلى اختلافات في تجاربنا النفسية. ومن الناحية البيولوجية، نحن جميعاً متشابهون، ولا يوجد أساس بيولوجي للعِرق، ولكن هناك بالتأكيد أساس اجتماعي له".

يمنحنا التنويع في مجموعات البحث فهماً أكثر دقة للإنسانية ككل، مما قد يساعدنا في معرفة المزيد عن أسس السعادة للجميع. وفي النهاية، يقول "روبرتس": "يمكِن للجميع أن يكونوا سعداء".

المصدر




مقالات مرتبطة